نوروز.. في التاريخ والمعنى والدلالات؟! (الحلقة الرابعة)
#بير رستم#
الحوار المتمدن-العدد: 5123 – 2016-04-04
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
حكاية نوروز في الأسطورة الكوردية:
تقول الموسوعة _كما رأينا في الحلقة الماضة_ بخصوص الجذر الأسطوري لعيد نوروز لدى الكورد ما يلي: “إنّ النسخةَ الكرديةَ للنيروز هي أسطورةُ (كاوى) الحداد الذي تشبه قصته القصّةِ في أسطورة الشاهنامة.. بأنّه في قديم الزمان كان هناك ملكُ اشوري شريّرُ سَمّى (الضحاك). كان الملك ومملكته قد لُعِنا بسبب شرِّه حيث أن الشمس رَفضتْ إلشْروق وكان من المستحيلَ نَمُو أيّ غذاء. وكذلك فإن الملك (الضحاك) كَانَ عِنْدَهُ لعنةُ إضافيةُ وهي إمتِلاك أفعيين رَبطتا بأكتافِه وعندما تكون الأفاعي جائعة كَانَ يشعر بألمِ عظيمِ، والشيء الوحيد الذي يَرضي جوعَ الأفاعي كَانتْ أدمغةَ الأطفالِ، لذا كُلّ يوم يقتل اثنان من أطفالِ القُرى المحليّةِ وتقدم أدمغتهم إلى الأفاعي. (كاوى) كَانَ الحدادَ المحليَّ قد كُرِهَ الملكَ” حيث كان “16 مِنْ أطفالِه ال17الذين كَانوا قَدْ ضُحّي بهم لأفاعي الملكَ” ولذلك و”عندما وصلته كلمةً ان طفلَه الأخيرَ وهي بنت، سوف تقتل جاءَ بخطة لانقاذها، بدلاً مِنْ أنْ يَضحّي ببنتِه”. وآخر أطفاله الذين كانوا ضحايا للطاغية.
وتستكمل الأسطورة كما يلي؛ “ضَحّى (كاوة الحداد) بخروفِ وأعطىَ دماغَ الخِروفَ إلى الملكِ وإن الاختلاف لَمْ يُلاحظْ وعندما سمع الاخرون عن خدعة (كاوى) عَمِلوا جميعاً نفس الشئ، في الليل يُرسلونَ أطفالَهم إلى الجبالِ مَع (كاوى) الذين سَيَكُونونَ بامان. الأطفال ازدهروا في الجبالِ و(كاوى) خَلق جيشاً مِنْ الأطفالِ لإنْهاء عهدِ الملكِ الشريّرِ وعندما أصبحت اعدادهم عظيمة بما فيه الكفاية، نَزلوا مِنْ الجبالِ واقتحموا القلعةَ. وإن (كاوى) بنفسه كان قد اختارَ الضربةَ القاتلةَ إلى الملكِ الشريّر(ِالضحاك) ولإيصال الأخبارِ إلى اناسِ بلاد ما بين النهرينِ بَنى مشعلا كبيرا أضاءَ السماءَ وطهّرَ الهواءَ من شر عهدِ (الضحاك).. ذلك الصباح بَدأَت الشمسُ بإلشروق ثانيةً والأراضي بَدأَ بالنَمُو مرةً أخرى. هذه هي البِداية “ليوم جديد” أَو نيروز (نهوروز) كما يتهجى في اللغةِ الكرديةِ”.
يمكننا القول بأن هذه وبإختصار أسطورة نوروز لدي شعبنا، وإن أختلفت الأساطير في تسمية أبطالها حيث الضحاك هو نفسه الأزدهاك أو الأجدهاك (Ejdehak)، بينما يقول الكاتب عبد الكريم بأن الضحاك هو اللقب وإن إسم الملك أو الطاغية هو “سرجون أو سرغون” والإختلاف يأتي من إختلاف الصوتيات والإشارات اللغوية في كل لغة تكتب بها الأسطورة التاريخية وكذلك من المرحلة التاريخية والصراعات السياسية بين الحاكم والمحكومين؛ حيث نجد الطاغية في بعض الروايات هو آشوري وفي روايات أخرى فارسياً، بينما عند الفرس تجده كوردياً وأن المخلّص والمنقد _أي كاوا_ هو فارسي .. وإننا سوف نقف عند هذه القضية عندما نتناول الجانب السياسي والصراع على السلطة بين مكونات المنطقة في تلك الحقبة التاريخية من الزمن ومجموعة الصراعات التي كانت قائمة بين الممالك والإمبراطوريات الموجودة في تلك البقعة الجغرافية، لكننا هنا نود فقط أن نقف على المعاني الأسطورية لرموز الحكاية التاريخية.
تفكيك الحكاية إلى رموزها الأساسية:
إننا وبتفكيكنا الحكاية التاريخية إلى عناصرها الأساسية، فإننا سوف نحصل على الشخصيات والرموز التالية في الأسطورة الكوردية: (أزدهاك أو الضحاك وحتى سرجون في بعض الروايات هي إحدى الشخصيات الأساسية وكرمز للظلم والطغيان حيث ينمو ثعبانان على كتفيه بعد أن يقبّله بذاك الموضع الشيطان أو الإبليس، يقابله شخصية كاوا الحداد؛ المنقذ والمخلّص لشعبه من جور هذا الظالم المستبد وذلك بالتضحية بأحد أبناء شعبه مع التضحية بقربان حيواني وخلط مخيهما لتقديمه لثعباني الطاغية إلى أن يتمكن من قتله وإشعال نار نوروز على قمم إحدى جبال كوردستان وذلك نيشاناً بيوم الخلاص _اليوم الجديد؛ نوروز_ في حياة هذا الشعب ولتنتهي الأسطورة / الحكاية بإنتصار قوى الخير والنور والحرية على قوى الشر والظلام والطغيان.. إذاً هناك لدينا الشخصيات والرموز الحكائية التالية:
1- الملك الطاغية “أزدهاك – Ejdehak”؛ ملك ظالم مستبد وطاغوت متجبر وإمعاناً في تعميق طغيان هذا الملك المتجبر فينمو على كتفيه أفعيان وذلك بعد أن يقبلهما “الإبليس” أو بالأحرى أهريمان؛ إله الشر في الثقافة الميثرائية القديمة ونلاحظ التماهي في معنى وإسم الملك الطاغية مع تسمية الأفعى في اللغة الكوردية حيث تسمى “مار – Mar” للأفعى، لكن يقال “أژدِها – Ejdeha” لتلك الأفعى العملاقة. وهكذا فإن العلاقة بين الإسم والمعنى “المغزى” منه يتم ترسيخه عبر أسطرة الحكاية ونمو الأفاعي العملاقة على كتفي ذاك الملك الظالم حيث يوصف دواءً له وذلك للشفاء منهما، بتغذيتهما بدماغ بشرية “مخ الإنسان” وتحديداً الأطفال منهم كرمزية للقضاء على المستقبل الإنساني والبشري وإيغالاً في وحشية هذا المستبد الطاغي والذي جلب العديد من الكوارث ومنها غياب الشمس وبالتالي غياب الحياة عن الطبيعة.
2- كاوا الحداد؛ شاب قوي يملك بنية جسدية متينة بحكم عمله في الحدادة وبطل شعبي ينتمي لبيئة إجتماعية متشكلة جديداً من خلال إمتلاك حرفة الحدادة في مجتمع رعوي زراعي فهي في إحدى معانيها ترمز إلى إكتشاف حياة إقتصادية جديدة وثورة بحد ذاتها في سلسلة التطور الحضاري البشري، حيث إكتشاف المعدن وإستخدامه في خدمة الإنسان والحضارة العالمية وخاصةً عندما نكتشف من خلال الأسطورة أو الحكاية؛ بأنه _أي كاوا_ سوف يقود إنتفاضة بوجه قوى الشر والظلام والطغيان المتمثلة بالملك الطاغي “أزدهاك” حيث يتم قتله على يديه بعد أن يهّرب العشرات من الشبان والأطفال ليقودهم في ثورة؛ ثورة الجديد على القديم .. ثورة الخير والحرية والإنسانية على الشر والطغيان والوحشية.
3- الأفعيان “Ejdeha” رغم إنهما بلاء ومرض عضال على كتفي الملك الطاغية وجزء من جبروته وطغيانه ووحشيته البدائية، لكن هما يشكلان جزء أساسي من الحكاية الأسطورة، بل إنهما يسطّران؛ أي يعطون الحكاية البعد الأسطوري لها وبالتالي فبدونهما تنتقل الحكاية من المستوى الأسطوري إلى الحكائي وتفقدها أي رمزية دلالية، بل كنا وجدنا أمامنا حكاية بليدة من حكايات الاستبداد والطغيان، ربما لا تختلف عن حكاية اي مستبد شرقي في عصرنا الحالي، وبالإضافة إلى ذلك علينا أن لا ننسى رمزية الأفعى في الأسطورة والحكايات التاريخية الدينية عموماً؛ حيث إنها هي التي سرقت نبتت الحياة من جلجامش بعد صراع مرير في بحثه عن الخلود وكذلك هي التي أوحت لحواء بالأكل من شجرة الحياة ليتم طردهم من الجنة في الحكاية الإسلامية، إذاً الأفعى كانت دائماً وما زالت رمزاً لسرقة الحياة الأبدية الخالدة من الإنسان وأسطورة نوروز لم تكن إلا إستعادة للمعنى ذاته في الحكاية.
4- الإبليس أو أهريمان وكذلك الشمس حيث الأول ورغم أن دوره في الحكاية والأسطورة النوروزية يقتصر على زرع الأفعيان على كتفي الطاغية من خلال قبلة على كل كتف والأخرى _أي الشمي_ وبغيابها عن الشروق تغيب الحياة، إلا أنهما يكملان المشهد الدرامي الأسطوري للحكاية ويشير إلى تدخل القوى الغيبية في علاقات البشر وهي دلالة على بداية إنتقال الآلهة من المستوى المادي الحسي إلى المستوى الغيبي الوجداني.
5- النار و”شعلة نوروز”؛ كان وما زال النار يعتبر أهم رمز ديني في الثقافة الميزوبوتامية حيث الديانات الميثرائية والآزداهية والزرادشتية تعتبر النار أهم رمز قدسي ديني لها، فلدى الشعوب الآرية وثقافتها فإن الطبيعة مخلوقة من اربع عناصر هي: النار والماء والهواء والتراب، لكن يبقى النار هي أقدسها وأكثرها سمواً ونقاءً وبها تطهر كل الأنجاس والأرجاس والعلل والأمراض ولذلك فإن الإنسان الآري قدس النار وجعلها رمزاً ربانياً مباركاً “بيروزاً” حيث الطهارة والنقاء والنور والمعرفة في وسط العتمة والعماء وظلام الكهوف الباردة الموحشة ولذلك فكان يحافظ _وما زال_ في المعابد الدينية له موقدة وهناك من يسهر على أن تبقى تلك الشعلة تنير ما حولها وتطرد الظلمات والعماء الإنساني.. وبالتالي فإن إشعال شعلة نوروز وفي أكثر رمز دلالي لها؛ هي التأكيد على الخلاص من المرض والجهل والوحشية ونشر النور والمعرفة والحرية.
5- النار و”شعلة نوروز”؛ كان وما زال النار يعتبر أهم رمز ديني في الثقافة الميزوبوتامية حيث الديانات الميثرائية والآزداهية والزرادشتية تعتبر النار أهم رمز قدسي ديني لها، فلدى الشعوب الآرية وثقافتها فإن الطبيعة مخلوقة من أربع عناصر هي: النار والماء والهواء والتراب، لكن يبقى النار هي أقدسها وأكثرها سمواً ونقاءً وبها تطهر كل الأنجاس والأرجاس والعلل والأمراض ولذلك فإن الإنسان الآري قدس النار وجعلها رمزاً ربانياً مباركاً “بيروزاً” حيث الطهارة والنقاء والنور والمعرفة في وسط العتمة والعماء وظلام الكهوف الباردة الموحشة ولذلك فكان يحافظ _وما زال_ في المعابد الدينية له بالنار موقدة وهناك من يسهر على أن تبقى تلك الشعلة تنير ما حولها وتطرد الظلمات والأرواح الشريرة والعماء الإنساني.. وبالتالي فإن إشعال شعلة نوروز وفي أكثر رمز دلالي لها؛ هي التأكيد على الخلاص من المرض والجهل والوحشية ونشر النور والمعرفة والحرية.
وهكذا فإنه يمكننا القول أخيراً؛ بان الحكاية / الأسطورة وفي عمقها وبعدها الدلالي الرمزي هو صراع بين قوى الشر والخير، بين القديم والجديد، بين الظلام والنور، بين الجهل والمعرفة أو التوحش والحضارة حيث الملك الطاغية يمثل الجانب المتوحش البدائي الشرير والطاغي الظلامي في حياة وحضارة المجتمعات الإنسانية، بينما كاوا هو المخلّص والمنقذ ويسوع في تجسيده الكوردي وهو رمز للجانب الإنساني الحضاري المشرق الخيّر واليوم الجديد أو الحياة الجديدة في سلسلة التطور الحضاري الإنساني .. أما بخصوص الإسقاطات الأيديولوجية والسياسية وإعطاء الأدوار لبعض الشعوب والقوميات وذلك من خلال جعل كل من شخصية الطاغية “أزدهاك” والبطل المخلّص “كاوا” ينتمي لهذا العرق أو ذاك، فإننا سوف نقف مع ذاك الجانب في حلقتنا القادمة والأخيرة من هذا البحث في جدلية نوروز كأسطورة وملحمة شعبية تاريخية نتقاسمها في الجانب التاريخي مع عدد من شعوب المنطقة، لكن تبقى النكهة الكوردية هي الأكثر معناً وعمقاً إنسانياً.. فإلى اللقاء في الحلقة الأخيرة من هذا البحث في الحكاية النوروزية.[1]