علي عمر
منذ القرن الخامس عشر الميلادي ومنطقة الشرق الأوسط وشرق الأناضول هدفاً للأطماع الاستعمارية وساحة لتصفية الحسابات بين قوى عظمى ما انفكت توقع معاهدات واتفاقيات بعد كل حرب وصراع لتقاسم النفوذ، أبرزها معاهدة لوزان التي وقعت عام 1923 في أعقاب الحرب العالمية الأولى بين تركيا ودول أوروبية وقادت إلى جانب اتفاقية “#سايكس بيكو# ” إلى تقسيم أراض الكرد والأرمن بين عدة دول، ونسفت حق هذه الشعوب في تقرير مصيرها وإقامة دولها القومية.
المعاهدة الموقعة في 24-07- 1923 بين البرلمان التركي الذي كان قد أسسه مصطفى كمال أتاتورك حديثاً بعد معارك بين الأتراك بقيادة الأخير وكل من اليونان وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا أسفرت عن سيطرة تركية على مناطق واسعة بالأناضول وإجبار اليونانيين والفرنسيين على التراجع، نسفت معاهدة سيفر الموقعة عام 1920 بين الدولة العثمانية “الرجل المريض” المهزومة في الحرب العالمية الأولى والدول المنتصرة، والتي نص البندين ال62 و63 من الفقرة الثالثة فيها على حصول الكرد على الاستقلال وإقامة دولتهم والسماح لولاية الموصل بالانضمام إلى كردستان، كما منحت وطناً للأرمن على أرضهم التاريخية، إضافةً إلى تخلي الدولة العثمانية عن الكثير من أراضيها لمصلحة الحلفاء والقبول بالانتداب الفرنسي على سوريا والبريطاني على العراق.
نسف مبادئ ويلسون لتقرير المصير
وضربت معاهدة لوزان عرض الحائط بالبند المتعلق بمسألة حق الشعوب الخاضعة لسيطرة الدولة العثمانية بتقرير مصيرها بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بموجب مبادئ الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون الأربعة عشر، وألحقت الأراضي التاريخية لهذه الشعوب بخارطة تركيا الجديدة، التي حولها أتاتورك إلى جمهورية وأنهى عهد السلطنة العثمانية.
رسم خرائط جغرافية على أساس القوة والمصالح
ويقول الكاتب والأكاديمي زارا صالح في هذا السياق: “إن نتائج الحرب العالمية الأولى رسمت ملامح واقع جيوسياسي وخرائط جغرافية رسمها الكبار المنتصرون بعد فرض شروطهم على أساس القوة العسكرية والاقتصادية والمصالح أولاً، واتفاقية لوزان في مئويتها تعيد لمنطقة الشرق الأوسط تحديداً نظرية تقسيم المنطقة بين المصالح الدولية بعيداً عن إرادة شعوبها، لكن رغم ذلك فهناك فهم وقراءة مختلفة من قبل كافة الأطراف التي تأثرت جراء نتائج هذه الاتفاقية وقبلها “سيفر” التي أنهت السلطنة العثمانية “رجل أوروبا المريض”، وأسست وفق مصالح دولية وبنود ويلسون الأربعة عشر في إبقاء تركيا دون عثمانيتها وكذلك حق تقرير المصير للقوميات غير التركية مثل الكرد ليكون لهم دولتهم المستقلة وكذلك مراعاة طموح أرمينيا، فيما قسمت المنطقة بين الانتدابين الفرنسي والإنكليزي”
ويضيف صالح في حديث لمنصة تارجيت: “أن تركيا التي أسس أتاتورك جمهوريته القومية عبر معاهدة لوزان وكانت بمثابة انتصار لهم على حساب الشعوب الأخرى، لم تعد تلبي طموح أردوغان إلا في “استعادة” أراضي السلطنة والذي يتوعد بإلغاء لوزان في مئويتها وهو يعيد تكرار ذلك في الكثير من خطاباته، ولعل ما تشهده دول الجوار التركي من احتلال “في سوريا والعراق” وتدخلات عسكرية يشير إلى تلك التطلعات الاستعمارية “التركوأوصمانية”، كما حدث سابقاً في قضية لواء إسكندرون والذي تنازل الأسد عنه فيما بعد”، مشيراً إلى أن الكرد كانوا أكثر المتضررين من نتائج لوزان بعد وعود سيفر وفرصة إقامة كردستان المستقلة “رغم عدم شمول معظم أراضي الكرد ضمن تلك الخريطة” مع ولاية الموصل، وفيما بعد تراجعت فرنسا وبريطانيا وتحديداً الأخيرة عن الاتفاقية في البند المتعلق بالكرد لتضع مصالحها أولا بوضع يدها على العراق وولاية الموصل الكردية والنفط وتركت شعوب المنطقة تعيش صراعاتها بعد أن قسمتها.
لوزان ومعها “سايكس بيكو” أقامت حدوداً جديدة بين الدول وقسمت الأوطان التاريخية لشعوب أصيلة بالمنطقة وخاصةً الكرد بين تركيا وسوريا والعراق وإيران، التي بدأت أنظمتها منذ ذلك الحين محاربة أي مشروع تحرري كردي، رغم مرورها بتطورات ومنعطفات سياسية كبيرة، وتغيرات في أشكال وطريقة الحكم من الملكي إلى الجمهوري ومن البرلمان للرئاسي وسقوط أنظمة وصعود أخرى وحدوث انقلابات، إلا أن الثابت الوحيد هو التمسك بالحدود التي رسمتها تلك المعاهدة ومنع إقامة أي دولة للكرد على أرضهم، بموازاة سياسة ممنهجة لصهر القوميات الأخرى في هذه الدول تحت شعار المواطنة، وما تبع ذلك من منع للتعليم للشعوب بلغتها الأصلية ومحاولة طمس الهوية والثقافة، وذلك رغم أن المعاهدة ألزمت تركيا بعدم وضع قيود على المواطنين في استخدام أي لغة يختارونها، سواءً أكان ذلك في العلاقات الخاصة أم في الاجتماعات العامة أو في مجالات الدين والتجارة والإعلام والنشر.
خطط تغيير ديمغرافي
السياسات في هذا الاتجاه تجلت في أبهى صورها بحسب ناشطين كرد، بالممارسات ضد الشعوب الأخرى في تركيا منذ توقيع المعاهدة كخطط التغيير الديمغرافي وتغيير التركيبة السكانية وإفراغ بعض المناطق من سكانها كديار بكر، وما تم الحديث عنه من أن أتاتورك وضع خطة في خمسينيات القرن الماضي، تقضي بخفض نسبة الكرد هناك خلال خمسين عاماً، كما يرجع مؤرخون سياسيون ومحللون، أغلب الأزمات والصراعات التي عصفت بالمنطقة خلال القرن الأخير إلى المعاهدة بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث أنها اقتطعت أراضي لصالح الدولة التركية ووضعت حدوداً مصطنعة وما تبع ذلك من توزيع لشعوب بعينها في عدة دول تفصل بينها تلك الحدود
وبحسب الكاتب والأكاديمي زارا صالح، “فإنه ورغم أن اتفاقية سيفر قد أنصفت الكرد جزئياً في بعدها النظري فإن لوزان قضت على ذلك الحلم وكرست تجزئة جغرافية كردستان بين أربعة دول وأنظمة دكتاتورية تحاول بشتى الوسائل محو وصهر الهوية القومية الكردية بل وحتى وجود الشعب الكردي، لافتاً إلى أن القراءة الكردية لمئوية لوزان تختلف كلياً عن تلك التركية التي تحاول توسيع مشروعها الاحتلالي –العثماني- فيما يجد الكرد في هذه المناسبة فرصة أمام دول القرار وأصحاب الصك الممهور بحبر لوزان أن يعيدوا النظر في تبعات تلك الخريطة “رغم صعوبته” وذلك في سياق زمن اليوم حيث إمكانية “على الأقل” دعم الحلول الفيدرالية في دول مثل تركيا، سوريا وحتى إيران، إذا لم نسلم بقضية دعم إقامة دولة كردية لشعب يتجاوز الخمسين مليون أسوة بالشعوب الجارة، وهذا الحل الأخير سيكون حجر الأساس في بناء الاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط وسيكون حلاً مناسباً حتى للدول العربية في صراعها مع الطموحات التوسعية لإيران وتركيا، ورغم أن الأنظمة العربية تهاجم لوزان و”سايكس بيكو” لكنها تقف مع تبعاتها عندما يتعلق الأمر بحقوق الكرد في هذه الدول وهي تعبر بذلك عن حالة الانفصام والتناقض التي تحكم سياستها لجهة الفكر والرؤية العنصرية –الشوفينية- تجاه الكرد”
ورغم أن الاتفاقية أسست لحدود ليست الحدود الطبيعة الأصلية واقتطعت أراض لصالح الجمهورية التركية، إلا أن تركيا لا تزال تطمح بالتوسع خارج هذه الحدود والسيطرة على أراضي جديدة في كل من العراق وإقليم كردستان وسوريا، وظهر ذلك جلياً بطرح المسؤولين الأتراك وعلى رأسهم الرئيس رجب أردوغان غير مرة خارطة ما يعرف ب” الميثاق الملي” الذي وضعه أتاتورك قبل توقيع “لوزان” والذي يلحق مناطق كثيرة بينها حلب والموصل بالدولة التركية.
ويؤكد صالح، “أن لوزان هي عنوان للغة المصالح السياسية على حساب الأخلاق ومعاهدات ومواثيق حقوق الإنسان ولابد من مراجعة وتقييم جديد وإعادة الحقوق لأصحابها بعد مئة عام من الظلم إذا كانت فعلاً لديها الرغبة في وجود الاستقرار وتجاوز الصراعات في المنطقة، وكمثال للحد الأدنى من التكفير عن لوزان هو دعم استقرار الوضع في سوريا وذلك بفرض صيغة دولة اتحادية تناسب كافة المكونات وتضمن حقوقهم “بما فيهم الكرد” وتنهي الاحتلال التركي والإيراني..
اليوم وبعد مرور مئة عام على اتفاقية لوزان، يتغنى الساسة والناشطون الكرد بتجربتين ديمقراطيين في كل من سوريا والعراق، الأولى إقليم حكم ذاتي بدأت نواته منذ ثمانينيات القرن الماضي وترسخ كتجربة فريدة بعد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين في أعقاب الغزو الأمريكي، والثانية تجربة ديمقراطية فتية ممثلة بالإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، التي أثبتت رغم فتاها أنه يمكن الاقتداء بها كتجربة نحو دولة تعددية والتأسيس لمرحلة مقبلة يكون للشعوب فيها حق تقرير مصيرها، وذلك رغم التحديات الكبيرة التي تواجه التجربتين ممثلة بالدرجة الأولى بالتهديدات والهجمات التركية، والرفض المطلق لدول المنطقة لتطور هذه التجارب نحو الاستقلال، والذي تجلى بشكل واضح خلال الهجمة الكبيرة على إقليم كردستان إبان الاستفتاء على الاستقلال الذي أجراه قبل سنوات قريبة.[1]