محمد سيد رصاص
(1)
حصلت استسلامات عسكرية لدول، مثل فرنسا عام 1815 وألمانيا واليابان عام 1945، أمام قوى عدوة متحالفة. في الحالات الثلاث ،لم تستطع الحكومة (أو النظام السياسي القائم) التي استسلمت أن تحافظ على استمرارها، بل إما قام المنتصرون بإدارة أراضي وشؤون الدولة لفترة محددة كسلطة أو سلطات محتلة ،وبعدها جاءت سلطة جديدة للدولة ،مثل السلطات في دولتي ألمانيا الغربية عام1955 والشرقية عام 1949، أو اليابان عام 1947، أو فرنسا التي عاد إليها آل بوربون للسلطة بحراب الأجنبي الذي رفض استمرار السلطة النابوليونية من خلال نابليون الثاني ابن نابليون بونابرت الذي استسلم وأسر من قبل القوى الأربعة،بريطانيا روسيا وبروسيا والنمسا،التي هزمته في معركة واترلو.
في الحالات الثلاث كانت اتفاقيات الاستسلام تعني فقدان السيادة للدولة المهزومة وتحولها لأراضي محتلة من قبل أجنبي أوقوى أجنبية متحالفة، وبالتالي يصبح الأجنبي ليس فقط مديراً احتلالياً لشؤونها وإنما في حالات عديدة كان هذا يعني السيطرة على ممتلكاتها وفي حالات أخرى تقسيم الدولة كما فعل ستالين من خلال احداث الدولة الألمانية الشرقية عام 1949. في استسلام ألمانيا للحلفاء عام 1918 تم الاكتفاء بنظام التعويضات الألمانية للمنتصرين حسب مقررات مؤتمر فرساي ولكن النظام السياسي تم تغييره من إمبراطوري إلى جمهوري بتشجيع المنتصرين.
في اتفاقية هدنة مودروس، التي عقدت في مرفأ مودروس بجزيرة ليمنوس اليونانية في يوم 30-10- 1918، والتي استسلمت فيها الدولة العثمانية للحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى ممثلين في بريطانيا، كان “استسلام تركيا يعني أن كل الممتلكات العثمانية قد أصبحت تحت سيطرة القوى المحتلة الحليفة”. في تلك الاتفاقية كان الاستسلام يشمل كافة القوات العسكرية العثمانية خارج منطقة الأناضول، واحتلال مضيقي الدردنيل والبوسفور من قبل الحلفاء، وحق القوى الحليفة في احتلال كافة المناطق التي تتعرض لاضطرابات ما، وعلى أن تكون كل المرافىء وسكك الحديد العثمانية تحت تصرف الحلفاء. في تلك الاتفاقية لم يتم حل النظام السياسي السلطوي للدولة العثمانية بل أبقى الحلفاء عليه،بخلاف مافعل المنتصرون مع النظامين النابليوني والنازي، ولكن وفق منطق ضمني بالاتفاقية في مودروس فإن جغرافية الدولة العثمانية، سواء في لحظة التوقيع أو ما قبلها، لم تعد قائمة.
في أيار/مايو 1919 قام اليونانيون باحتلال أزمير، وفي آذار/مارس1920 احتل البريطانيون اسطنبول. وعندما فرضت #معاهدة سيفر# في 10-08-1920 من قبل الحلفاء المنتصرين، وكانت مسودتها موضع اتفاقهم في مؤتمر سان ريمو قبل أربعة أشهر، كانت المعاهدة مع الحكومة العثمانية التي “تمثل تركيا في نص المعاهدة”، وهي في توطئتها تقول بأن (سيفر) انبنت على طلب “حكومة الامبراطورية العثمانية من دول الحلفاء الرئيسية منحها الهدنة في 30 -10-1918 من أجل معاهدة السلام”. أي أن (مودروس) كانت هدنة إنهاء قتال واستسلام عسكري ولم تكن معاهدة السلام وإنهاء الحرب بل (سيفر) كانت ذلك.
وفق المنطق الضمني في (سيفر) كانت (مودروس) تعني انتهاء الكيان الجغرافي للدولة العثمانية، ثم أتت (سيفر) لكي تفصل ذلك جغرافياً من خلال رسم حدود جديدة لتركيا، وأيضاً كانت تعني انتهاء سيادتها حتى على أراضي ظلت في (سيفر) من ممتلكاتها ولكنها وضعت في (سيفر)تحت سلطة دولية مثل مضيقي الدردنيل والبوسفور وبحر مرمرة وفي ساحل شاطئي بعرض 3 ميل بري في منطقة ساحلي بحر مرمرة الآسيوية والأوروبية الفاصل بين المضيقين.
من هنا كان التربط بين (سان ريمو)،الذي تقاسمت فيه بريطانيا وفرنسا الممتلكات العثمانية في سوريا ولبنان و فلسطين ومنطقة مابين النهرين، و(سيفر)، وذلك عبر رابط جسر نظام الانتداب الذي أقره ميثاق عصبة الأمم في 28 -01-1919 الذي وضع في معاهدة فرساي للمنتصرين في الحرب. عبر هذا كان توقيع الحكومة العثمانية على (سيفر) يعني قبولها باختفاء وانتهاء كيان الدولة العثمانية الجغرافي الذي كان قائماً قبل يوم 30-10-1918عندما تم توقيع (مودروس).
(2)
كان الإسراع في عقد (سيفر)، والأرجح (سان ريمو:19-25-04-1920) نتيجة ل(الميثاق الملي) الذي أصدره (مجلس المبعوثان العثماني) في 28 -01-1920.في انتخابات ذلك المجلس (تشرين الثاني/نوفمبر1919) وضح رجحان أعضاء المجلس الموالون لقوة جديدة عسكرية – سياسية أطلقها الضابط في الجيش العثماني مصطفى كمال مع إعلانه عن “بدء حرب التحرير” في 19-05-1919. كان اليونانيون يتمددون في سواحل بحر إيجة حتى شمالاً بالقرب من مضيق الدردنيل والايطاليون في ساحل البحر المتوسط عند مرمريس والفرنسيون قد وصلت قواتهم حتى كيليكية. أعلن مصطفى كمال الجمهورية في 17-02-1920رافضاً الاعتراف بالحكومة العثمانية ثم اتجه نحو تسمية جديدة ل(مجلس المبعوثان) باسم (الجمعية الوطنية الكبرى) في جلسته بأنقرة في يوم23 -04-1920 ثم أتبعت ذلك بإعلانها التأكيد على تبني (الميثاق الملي) وأنها أصبحت “تملك مؤقتاً كافة السلطات التشريعية والتنفيذية” مع تشكيل حكومة مفوضين برئاسة مصطفى كمال أعطتها الجمعية صلاحية ممارسة السلطة التنفيذية.
في (الميثاق الملي:الميثاق الوطني ahd.i milli)، ذو المواد الستة، نجد تحديداً في مادته الأولى لحدود الوطن التركي في الأراضي غير المحتلة والتي كان مازال فيها الجيش العثماني في يوم توقيع اتفاقية مودروس: ” الأراضي غير المحتلة في ذلك الوقت والمسكونة من غالبية تركية مسلمة هي أرض الأمة التركية ” . هذا يعني أن” تركيا الميثاق الملي”تمتد شمالاً من البحر الأسود بما فيها باطوم المدينة الجيورجية وفارنا البلغارية حتى خط جنوبي يشمل من الغرب للشرق: أنطاكية- إدلب- حلب- الرقة- الحسكة- الموصل- إربيل- السليمانية- كركوك”، وشرقاً حتى الحدود مع فارس والدولة القيصرية الروسية عام1914، وتمتد حتى بحر إيجة وإلى تراقيا الغربية قريباً من سالونيك.الغالبية المسلمة التركية التي يقولها الميثاق الملي بما يخص هذه المنطقة هي غالبية على عرب وكرد وشركس من المسلمين وعلى مسيحيين أرمن ويونانيين.
لم يكن من الصدف أن يعقد أو يدفع مصطفى كمال ذلك المجلس للانعقاد في أسبوع انعقاد مؤتمر سان ريمو حيث وضعت خطط تجزئة الأراضي العثمانية، وبعد شهر من احتلال البريطانيين لاسطنبول الذي أتى بشكل أوآخر رداً على اعلان “الميثاق الملي”وعلى إعلان الجمهورية، وحماية من لندن أو تدبيراً منها لحماية الحكومة العثمانية في اسطنبول أمام العاصفة الكمالية الجمهورية الآتية من أنقرة. وليس خارج السياق من ثم أن يدفع الحلفاء ويرغمون حكومة اسطنبول على عقد معاهدة سيفر في 10-08-1920.
(3 )
هناك خريطة جديدة في (سيفر ) تنهي “تركيا العثمانية”باعتراف حكومة الدولة العثمانية وتوقيعها. في هذه الخريطة تمارس الدولتان المنتدبتان وفق (سان ريمو) على سوريا وبلاد الرافدين،أي فرنسا وبريطانيا، صلاحية التوقيع على الخريطة الجديدة للحدود بين “تركيا سيفر” وسوريا وبلاد الرافدين مع مشروع لكيان كردي جديد تنص عليه المعاهدة، وكذلك دولة أرمينية حرة ومستقلة اعترفت فيها تركيا عبر المعاهدة. هذه الصلاحية تأتي من كونهما طرفاً في (مودروس) ومن كون (سيفر) هي معاهدة السلام و÷نهاء الحرب التي تفترضها هدنة مودروس ذات الطابع العسكري فيما تكملتها السياسية والقانونية في (سيفر).
في نظام الانتداب الذي يتضمنه ميثاق عصبة الأمم بالمادة 22 ليس للدولة، أو الجهة المنتدبة صلاحية السيادة على الأرض المنتدبة عليها، بل صلاحية إدارية وصائية لصالح عصبة الأمم. وفي يوم 24 -07-1922 عندما صادقت عصبة الأمم على قرار مؤتمر سان ريمو بانتداب فرنسا على سوريا ولبنان لصالح عصبة الأمم فإن الفقرة الرابعة من قرار المصادقة قد أكدت ونصت على أن “سلطة الانتداب ستكون مسؤولة عن النظر على أن ولا جزء من أراضي سوريا ولبنان يتم التخلي عنه أو يؤجر أو يوضع بأي شكل تحت سيطرة دولة أجنبية”.
بشكل أو آخر أخذت فرنسا وإنكلترا صلاحية رسم حدود سوريا وبلاد الرافدين من (مودروس) بمنطقه الضمني الذي يعني امتلاك المنتصر لأملاك المهزوم وليس من ميثاق عصبة الأمم بموجب مادته ال 22التي انبنت عليها انتدابات مؤتمر سان ريمو. والانتداب عندما يشير ميثاق عصبة الأمم له في المادة 22 بالفقرة الرابعة فيما يتعلق بالممتلكات الجغرافية العثمانية السابقة فإنه يشير إلى “مجتمعات محددة كانت تنتمي سابقاً للامبراطورية التركية قد بلغت درجة من التطور حيث وجودها كأمم مستقلة يمكن الاعتراف به بعد فترة مؤقتة من تحويلها إلى توجيهات ومساعدة إدارية من قبل دولة منتدبة حتى ذلك الوقت الذي يمكن أن تقف لوحدها”.
هذا يعني انتداب على السكان وليس الأرض. كما يعني أن هناك “سيادة معلقة”على الأرض لا تملكها الجهة المنتدبة ولا عصبة الأمم وهي معلقة حتى يملك سكان تلك الأرض شؤونهم بأنفسهم. وبالتالي فإن فرنسا تملك الحق في (سيفر)، بعد أسبوعين من سيطرتها على دمشق، أن ترسم الحدود الخارجية للمساحة الجغرافية للأرض السورية المحدد أنها انتدبت من عصبة الأمم عليها ولكن لايحق لها التصرف بها في التجزئة والاقتطاع أوضمها لأجزاء أخرى.
هذا يعني أن (سيفر) فيها التزام فرنسي بحدود السلطة الانتدابية، لما أشارت المادتين 94و95 من المعاهدة أن المادة 22من ميثاق عصبة الأمم ينطبق على الوضعية الفرنسية الانتدابية على سوريا، فيما خرقت باريس ذلك في (اتفاقية أنقرة)، في 20 -10-1921، مع الحكومة الكمالية، عندما تخلت لتركيا عن مساحة 18 ألف كيلومتر مربع من الأراضي السورية وعندما وضعت وضعية إدارية أشبه بالإدارة الخاصة لمقاطعة الإسكندرون، وخرقته في (اتفاقية لوزان) بتاريخ 24-07-1923، عندما ثبتت المعاهدة المذكورة حدود اتفاقية أنقرة السورية- التركية والوضعية الخاصة لمقاطعة الاسكندرون، وخرقته باريس أخيراً عام1937من خلال اتفاقها مع أنقرة على سلخ لواء الاسكندرون عن سوريا مع أنها اعترفت في معاهدة 1936مع (الكتلة الوطنية)السورية أن اللواء جزء من الأراضي السورية التي ينتهي الانتداب الفرنسي على سكانها خلال ثلاث سنوات من توقيع المعاهدة.
في (سيفر) رسمت الحدود التركية مع سوريا وفق خط يمتد من شمال بلدة كاراتاش شرق مرسين وصولاً إلى جيهان ومن ثم يتجه شرقاً على مسافة شمالية من خط حديد برلين- بغداد بخمسة كيلومتر على خط عنتاب-أورفا- ماردين ومن ثم إلى نهر دجلة شمال نقطة التقاء نهر خابور- سو مع دجلة على بعد شمالي من جزيرة بوتان/ابن عمرو بعشرة كيلومتر ومن ثم جنوباً بخط مستقيم من جزيرة بوتان/ابن عمرو حتى دخول دجلة في أراضي بلاد مابين النهرين( مادة 27- قسم 2- رقم 2)
مع بلاد مابين النهرين (الدولة العراقية تأسست في آب1921):الحدود الشمالية لولاية الموصل وشرقاً حتى التقاء الحدود التركية- الفارسية( م27- ق2- ر3).
في المواد 88 و89 تعترف تركيا بدولة أرمنية حرة ومستقلة وتترك معاهدة سيفر الرئيس الأميركي مع وفي تفويض تعطيه إياه لرسم الحدود التركية- الأرمينية في ولايات إرضروم،ترابزون،وان، بتليس، مع صلاحية له بتحديد ممر يتيح لأرمينيا الوصول للبحر، فيما تترك حدود الدولة الجديدة مع أذربيجان وجيورجيا لاتفاقات ثنائية.
في المادة 62 من المعاهدة هناك رسم لمعالم كيان كردي جديد:”يطلب من لجنة ثلاثية معينة من الحكومات البريطانية والفرنسية والايطالية خلال ستة أشهر من سريان هذه المعاهدة وضع مسودة خطة لحكم ذاتي محلي للمناطق ذات الغالبية الكردية الواقعة شرق نهر الفرات وجنوب أرمينيا وشمال الحدود المحددة مع سوريا وبلاد مابين النهرين في هذه المعاهدة وفق المادة 27…”.
المادة 63 :”الحكومة التركية توافق وتقبل بالقرارات الصادرة عن اللجنة المشار إليها في المادة 62 خلال ثلاثة أشهر من إبلاغها بالقرارات.
المادة 64: “إذا قام الناس الكرد في المنطقة المحددة بالمادة 62 خلال سنة من دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ بمخاطبة مجلس عصبة الأمم بطريقة تظهر رغبة غالبية السكان في هذه المنطقة بالاستقلال عن تركيا ،وإذا اعتبر المجلس عندئذ بأن هؤلاء هم قادرون على استقلال كهذا وفق توصيته،فإن على تركيا عندئذ أن توافق على تنفيذ هذه التوصية وأن تتنازل عن كل الحقوق والادعاءات بهذه المنطقة. إن التدابير التفصيلية للتخلي التركي عن هذه المنطقة يجب أن توضع في اتفاقية منفصلة بين القوى الحليفة وبين تركية. في حال حصول هذا التخلي التركي فإن قوى الحلفاء لن تثير أي اعتراضات على الاندماج الطوعي للكرد القاطنين في ذلك الجزء من كردستان الواقع حتى الآن في ولاية الموصل مع الدولة المستقلة للكرد”.
رفض مصطفى كمال معاهدة سيفر متهماً حكومة اسطنبول بالخيانة والاستسلام للحلفاء. توسع نفوذ حكومة أنقرة العسكري والسياسي، وحققت انتصارات كبيرة ضد اليونانيين الذين حاولوا الوصول إلى الأناضول الغربي، وفي منطقة كيليكية كان وضع الفرنسيين حرجاً أمام القوات الكمالية في ظل انشغالهم بالاضطراب السوري العسكري والسياسي، فيما كان مصطفى كمال يرغب بشق صفوف الحلفاء من خلال إبعاد باريس عن لندن التي تدعم اليونانيين، وكان يرغب باستمالة فرنسة للتفرغ لليونانيين في الغرب والشمال الغربي، فيما كانت باريس تريد رفع دعم مصطفى كمال للثوار السوريين وفي تأمين خط سكك حديد لإمداد قواتها في سوريا ولبنان عبر الأراضي التركية. من هذه البيئة العسكرية- السياسية جاءت اتفاقية أنقرة الفرنسية – التركية في 20-10-1921عندما تخلت فرنسا ل”لحكومة الجمعية الوطنية الكبرى في أنقرة”، في إشارة إلى أنها لاتعترف بها بوصفها “الحكومة التركية” في ظل وجود ثاني لحكومة إسطنبول العثمانية، عن 18ألف كيلومتر مربع من الأراضي السورية المحددة في معاهدة سيفر، وهي نفس الحدود الحالية التركية-السورية إضافةً للواء اسكندرون (أو مقاطعة الاسكندرون) التي اعترفت تركيا في الاتفاقية بتابعيته السورية ولو مع وضعه في وضع إداري وثقافي خاص تحدده الاتفاقية في المادة 7مع رسم الحدود التركية- السورية الجديدة في المادة 8.
اعتبرت لندن الاتفاقية”صلحاً فرنسياً منفرداً مع العدو”.كان التشدد البريطاني تجاه تركيا هو سياسة حكومة رئيس الوزراء لويد جورج ووزير خارجيته اللورد كرزون ، حيث رأيا أن تركيا، كدولة توسعية وكمركز للنزعة الاسلامية العالمية، يجب أن تختفي. كان هذا منطقهما في (سيفر)، وأحسا بتزعزع الأرض التي يقفان عليها بعد الاتفاقية الفرنسية-التركية، في وقت رأى (مكتب الهند )البريطاني، ووزارة الحربية بلندن،أن مصادقة الكماليين، الذين كانوا آنذاك موضع تعاطف مسلمي العالم وخاصة بالهند في وقت لم يشهر فيه بعد مصطفى كمال علمانيته بل ظهر كمسلم يكافح “الكفرة”، ضرورة للبريطانيين الذين أصبحوا مع الوجود في بلاد مابين النهرين وفي المضائق على حافة الصدام مع الكماليين.
في أزمة جناق قلعة في منطقة الدردنيل،أيلول/سبتمبر1922، كادت الحرب أن تقع بين لندن وأنقرة. تزامنت (هدنة مودانيا) بالشهر التالي بينهما مع هزيمة اليونانيين أمام الكماليين، وفصلت أيام ثمانية بين تلك الهدنة وبين سقوط حكومة لويد جورج بالبرلمان في 19-10-1922وتشكيل حكومة جديدة برئاسة (بونار لو) بقي فيها اللورد كرزون وزيراً للخارجية، ولكن سياسته في العداء لتركية كانت قد هزمت في لندن، مع رؤية بريطانية أصبحت ترى التقارب مع مصطفى كمال، الذي تقارب كثيراً مع لينين في معاهدة 16-03-1921والذي أمده بالسلاح والمال بشكل أفزع البريطانيين، والبريطانيون، بعد هزيمة حلفائهم اليونانيين، رأوا في مصطفى كمال سياسياً براغماتياً يقرأ اتجاه الرياح وميلانها وهو كان يعرف بأن الصداقة مع لندن أربح من موسكو وبالتأكيد من باريس وهي المصدر الرئيسي للتهديد ضده مع وجود بوارجها في المضائق وفي مدينة اسطنبول، وهي المصدر الأكبر المحتمل للمساعدة الاقتصادية لتركيا الخارجة من حروب بدأت عام 1914، وأنه لايستطيع أن يؤمن الاعتراف بحكومته ممثلاً وحيداً للدولة التركية إلا عبر الممر البريطاني، وهو عندما أحسّ ببوادر بدء المفاوضات على معاهدة جديدة مع الحلفاء وبالذات بريطانيا بادر إلى خطوة إعلان الغاء الدولة العثمانية في 1-11-1922، وهو ماأعقبها بعد ثلاثة أسابيع بدء أعمال مؤتمر لوزان بين القوى الحليفة في الحرب العالمية وبين “حكومة الجمعية الوطنية الكبرى في تركيا” وليس ” حكومة الجمعية الوطنية الكبرى في أنقرة” كما أسمتها الاتفاقية التركية- الفرنسية عام1921. وقد استغرق المؤتمر من 20-11-1922حتى توقيع معاهدة لوزان في 24-07-1923مع انقطاع خلافي استعصائي حصل فيه بين الشهر الثاني والرابع من عام 1923 ثم استأنف أعماله.
(4)
كان #مؤتمر لوزان# عملياً، ورغم حضور الدول الحليفة لبريطانيا، مؤتمراً بين اللورد كرزون وبين عصمت باشا (إينونو) رئيس الوفد التركي. هو مؤتمر يمكن القول عنه بأنه كان حصيلة لظهور قوة جديدة غير متوقعة، لم تكن محسوبة في زمني(مودروس)و(سيفر)، هي قوة مصطفى كمال. ربما، وهذامرجح، أن ركض الفرنسيين المنفرد للاتفاق معه في عام1921قد فتح عيون البريطانيين على ضرورة كسبه، وربما كذلك كان تقاربه مع لينين كان دافعاً ثانياً للبريطانيين نحو كسبه. يبقى أن ميزان القوى العسكري في صيف وخريف 1922الذي مال لصالح الكماليين ضد حلفاء لندن اليونانيين، وجعلهم على شفا حفرة من الصدام مع القوات البريطانية في المضائق، قد كان عاملاً حاسماً في ضرورة الخطوبة البريطانية مع الكماليين.
حريق إزمير الكبير بعد دخول قوات مصطفى كمال إلى المدينة | الأرشيف البريطاني
كان إرسال كاره قديم للأتراك إلى لوزان ،هو اللورد كرزون،تكتيكاً بريطانياً حاذقاً، في وقت لم يرسل مصطفى كمال ديبلوماسياً على رأس الوفد بل عسكرياً من دون خبرة ديبلوماسية أوقانونية.كان هذا وذاك يعنيان أن الخطبة ستكون صعبة ومعها “عقد الكتاب”و”الزواج”،ولكن كل هذا، وخاصة شخصية رئيس الوفدين ومستواهما عند دائرتي صنع القرار في لندن وانقرة،كان يوحي بأن الزواج البريطاني – الكمالي حتمي الوقوع بعد طريق وعر- صعب.
منذ بداية المؤتمر أعلن عصمت باشا أن تركيا في المؤتمر “تريد تحقيق الهدف الرئيسي وهو الميثاق الملي”.كان عنده منطق أن (سيفر) لا تعني الكماليين لأنهم لم يكونوا في حرب مع الحلفاء في الحرب العالمية الأولى حيث كانت (سيفر) لانهاء حالة الحرب وصنع السلام بعد (هدنة مودروس)، وإنما كانوا في حرب مع اليونانيين منذ عام 1919 وفي حالة صدام عسكري مع الفرنسيين بفترة 1919-1921 وفي حافة تصادم عسكري مع البريطانيين في خريف1922، وبالتالي وفق عصمت باشا فإن مفاوضات المؤتمر يجب أن تقوم على ثنائية قائمة بين طرفين هما الحلفاء والكماليين وأن تكون حصيلتها مبنية على ذلك. كان هذا يعني تكتيكاً تجاوزياً ل(سيفر)أراده الكماليون ومن ثم خلال ثمانية أشهر من المؤتمر كان هذا منطق سير أعماله وكانت نتيجته أيضاً بالمحصلة مبنية على ذلك.
نجح الأتراك في ذلك بلوزان، ولكنهم لم ينجحوا في نيل (الميثاق الملي). حققوا أهدافهم في منع الدولة الأرمنية ومنع الدولة الكردية ونجحوا حتى في منع قيام كيان حكم ذاتي كردي محلي قالت به المادة62 من معاهدة سيفر. نجح عصمت باشا في الغاء نظام الامتيازات زمن العثمانيين وفي أن لاعلاقة للدولة التركية الجديدة بالدين العثماني، وفي ربط توقيع المعاهدة بانسحاب القوات البريطانية من اسطنبول والمضائق وساحلي بحر مرمرة. فشل الأتراك في موضوع الموصل بلوزان أمام إصرار كرزون على ابقائها ضمن الدولة العراقية الوليدة، كما فشلوا أمام البريطانيين في مطلبهم هم والبلاشفة بعدم تدويل المضائق وبلا حرية المرور والملاحة بها.كان التهديد البريطاني بالحرب،الذي أعلنه كرزون صراحة لعصمت باشا في 4شباط، دافعاً لليونة مصطفى كمال عندما عاد وفده بعد شهرين لاستئناف المفاوضات، وعندما وقعت معاهدة لوزان ارتفعت أصوات كثيرة في (الجمعية) تتهم مصطفى كمال وعصمت باشا بالتفريط ب”أراضي الميثاق الملي”.
كانت (لوزان) ضربة بريطانية لباريس وموسكو، ومحاولة احتواء لمصطفى كمال، نجحت وكان أول نجاحاتها بعد قيام الدولة التركية في 29-10-1923على أساس (لوزان) هو إلغاء مصطفى كمال للخلافة الإسلامية بعد خمسة أشهر، حيث كانت لندن منذ أيام السلطان عبدالحميد 1876-1909تخشى كثيراً من النزعة الاسلامية العالمية و”الجامعة الاسلامية”، وهي التي كانت إمبراطوريتها تحوي مئات الملايين من المسلمين.
(5)
ليست معاهدة لوزان ذكرى تاريخية تستحضر أو تستذكر في ذكراها المئوية، بل هي واقعاً سياسياً راهناً، مادام قادة أتراك، مثل رئيس الجمهورية رجب أردوغان عامي 2016 و2018 ووزير داخليته سليمان صويلو عام 2019 والناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين عام2019، قد قالوا صراحة أنهم يريدون “الميثاق الملي”، وفي تصريح لأردوغان أثناء عودته من باكو من على متن الطائرة يوم 16-09-2018 قال صراحة التالي:”نحن لانعترف بالدولة السورية”، وفي تصريح لكالين بيوم 25-12-2019 قال: “أمن تركيا يبدأ من خلف حدود الميثاق الملي”.
توحي تلك التصريحات بأن تركيا هي دولة توسعية وبأنها تشعر بأن معاهدة لوزان قد وضعتها في قفص مغلق وهي تريد الخروج منه للتوسع في حدود “الميثاق الملي”،وربما ماتوحيه سياستها في قبرص منذ عام 1974بأنها تريد أراضي أبعد من “حدود الميثاق الملي”.
يجب فحص تركيا مابعد 24-07-2023على ضوء كل ماسبق.
مراجع ومصادر البحث:
زين نورالدين زين:”الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سوريا ولبنان”،دار النهار- بيروت،1977.
ستيفن لونغريغ:” تاريخ سويا ولبنان تحت الإنتداب الفرنسي”،دار الحقيقة، بيروت،1978.
“الميثاق الملي”- ويكيبيديا بالانكليزي.
Nele Matz:”civilization and the mandate system under the league of nations as origin of trusteeship”,p d f copy ,50pages.
https:\\brill.com\view\journals\mpyo\\9\1\article
نص معاهدة سيفر باللغة الانكليزية:
https:\\researchgate.netpublications341447175
نسخة ب د ف في 102صفحة.
نص اتفاقية أنقرة الفرنسية- التركية:
يوجد في محرك بحث (غوغل) صورة للنسختين الفرنسية والانكليزية وهي النسخ الأصلية كما أرسلت للندن من السفير البريطاني في باريس.
نص معاهدة لوزان باللغة الانكليزية في 13 صفحة نسخة ب د ف
https:www.mfa.gr\images\docs\diethneis_symvaseis\19
Sevtap Demirci:”the laussane conference”,
أطروحة قدمت من الباحثة التركية لنيل شهادة الدكتوراة في الفلسفة باختصاص التاريخ الدولي أمام مدرسة لندن في الاقتصاد عام1997. نسخة ب د ف في 277صفحة.[1]