حسين جمو / المركز الكردي للدراسات
أنهت هدنة مودروس الموقعة في 30 -10- 1918، العمليات القتالية في القتال في الشرق الأوسط بين الدولة العثمانية والحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى.
في اليوم التالي لتوقيع الهدنة، هرب كبار قادة الاتحاد والترقي إلى خارج الدولة. وفي 13 تشرين الثاني/ نوفمبر، وصل إلى ميناء إسطنبول أسطول تابع للقوى المنتصرة، وكان يضم 55 سفينة، من بينها أربع سفن يونانية في خرق لبنود الهدنة. وبالتالي، للمرة الأولى منذ احتلال محمد الفاتح القسطنطينية عام 1453، تعود القوى الأوروبية مجدداً لتحتل غرب تركيا بالكامل، بما في ذلك اسطنبول.
طبقاً لهذه المعاهدة استسلم العثمانيون في مواقعهم المتبقية خارج الأناضول، ووافقوا على أن يسيطر الحلفاء على مضائق البوسفور والدردنيل، والحق في احتلال أي إقليم عثماني في حالة وجود تهديد للأمن. تم تسريح الجيش العثماني، وأصبحت الموانئ والسكك الحديدية والنقاط الإستراتيجية الأخرى متاحة لاستخدام الحلفاء. في القوقاز أيضاً تراجع العثمانيون إلى حدود ما قبل الحرب.
بعد هدنة مودروس عام 1918، دبّ النشاط في الحركة القومية الكردية وتحررت من القيود التي كبّلتها بها الحرب، وذلك على صعيد مؤتمر الصلح في باريس من جهة، وعلى أرض كردستان العثمانية أيضاً، وهي نتيجة الفعالية والمجهودات التي صار يبذلها زخمٌ من القوميين الكرد العائدين من المنفى، بتنسيق مع أولئك الموجودين في ميادين العمل. كما لا يخفى أن لقادة الترك، في كل من إسطنبول المحتلة وأنقرة، قد غضوا النظر عن التحركات الكردية بعد الهدنة وذلك لفترة وجيزة لأن الأولوية كانت لمسائل أخرى أكثر أهمية، لذلك فإن أغلب اللقاءات الكردية العلنية مع ممثلي الدول الأوروبية في إسطنبول ودمشق وبيروت، وكذلك مذكرات الاستقلال، تعود لأعوام 1918 – 1919 – 1920 حيث إسطنبول تحت الاحتلال، وحكومة أنقرة ضعيفة، وكردستان أصبحت خارج الحرب، والقوى الثلاث منهكة في الوقت ذاته.
لفهم أفضل لهذه المرحلة الحرجة من نهايات الدولة العثمانية، التذكير أن مصادر المقاومة التالية تأتي من منطقتين جغرافيتين فقط بقيتا خارج الاحتلال الأوروبي، هما الأناضول والجزء الشمالي الأكبر من كردستان. لم تعد هناك مناطق خارج هذين المكانين مصدراً للمتطوعين. فقد التحق العرب بالخطط البريطانية للاستقلال، وبات شمال افريقيا تحت الاحتلال الأوروبي، وكذلك البلقان. لم يكن اعتيادياً طيلة أربعة قرون، من أصل خمسة، من عمر الدولة العثمانية أن تكون مقتصرة على شعب أو شعبين، وهذا ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، وبالتالي، انتهت الصيغة الإمبراطورية المتضمنة لعدد من المجتمعات الكبرى، وبات لأول مرة التفكير القومي قابلاً للتحقق بشكل تلقائي، فلم يبق سوى شعبين كبيرين في الدائرة المتبقية من الدولة بعد استقلال العرب واحتلال البلقان وشمال أفريقيا وإبادة الأرمن وطوائف المسيحية الشرقية المتبقية ضمن حدود هدنة مودروس.
لقد تشكلت المعادلة عشية لوزان بعنصرين: الأول وحدوي والثاني احتيالي. فعلى الجانب التركي انهزم الوحدويون الترك الداعين إلى دولة مواطنة مشتركة غير قومية، وفي الجانب الكردي انهزم القوميون الكرد الداعين إلى دولة كردية صغيرة جغرافياً. هذه مفارقة يتم تجاهلها غالباً. حين حانت ساعة لوزان كان الفريق التركي هو القومي الأحادي المركزي، والفريق الكردي المتبقي في الميدان هو الوحدوي. وبينما كان من المأمول أن لوزان حققت وحدة الشعبين في كيان واحد، فإنها أسست لدولة قومية تركية تحارب أي مظهر للتعددية. لكن المعادلة لم تكن بهذا الوضوح حتى بعد مرور عامين على لوزان، لذا سيكون من التسرع الخروج بنتائج تحليلية مستعجلة دون الإحاطة بالمشهد المضطرب كاملاً في الأناضول وكردستان.
في تلك الظروف القلقة، الحافلة بغير المتوقع، بدت حركة الوعي القومي الكردي تستمد قوتها ووحيها من مصدرين متناقضين. الأولى من طرفٍ متوافق في العموم، لا التفاصيل، مع المقاومة التركية في التخلص من الاحتلال الأوروبي، مدفوعاً بمشاعر دينية مدعمة بعناصر تحرص على وحدوية العالم الإسلامي، وتعمل بتعاون مع الموظفين والمكلفين بالخدمات العامة في دوائر الدولة، ومن ضمنهم ضباط الجيش، وهؤلاء من الفريق المعادي للبريطانيين. والفريق الآخر الذي لا يوالي الترك، ويطمح إلى استقلال كردي أو حكم ذاتي، ويرعاه القوميون الكرد، لكنه تيار عاش معظم كوادره حفلة تعذيب للضمير لأن المتاح أمامهم أقل بكثير من حقهم الذي يطالبون به.
على مستوى آخر من التصنيف السابق، كان الفريق المتوافق مع المقاومة التركية يرفض إقامة دولة أرمنية وينظر بعداء شديد للروس الذين خذلوا الكرد مراراً في الحروب السابقة، فكان الميثاق الملّي الذي أقر كوثيقة رسمية بتاريخ 28 -01- 1920 يلبي هذا الاتجاه في حماية كردستان من أي اقتطاع لصالح دولة أرمنية مع وعود تلقاها الكرد بأن يكون الحكم الذاتي أساساً للميثاق الملي لاحقاً.
فيما كان الفريق القومي لا يعارض وجود دولة أرمنية جارة، ولو كانت على جزء من الأراضي المفترضة للدولة الكردية. وكانت #معاهدة سيفر# 1920 بتاريخ 10-08-1920 نتاجاً لجهود التيار الثاني حيث كانت مساحة الدولة الكردية فيها صغيرة للغاية.
راهن البريطانيون، لفترة مؤقتة، على التيار المتقبل، على مضض، للتوافق مع الأرمن بقيادة عائلة بدرخان. وبناءً عليه، ظهر مقترح في أواخر كانون الأول/ ديسمبر 1919 بتأسيس دولتين كرديتين، بناء على توصية الحاكم المدني للعراق آرنولد ولسون، ووزير شؤون الهند، مستر مونتيكو. ووفقاً للوثيقة التي شارك في مداولاتها أيضاً وزير الخارجية البريطاني اللورد كرزون، فإن الدولة الأولى تكون “كردستان الجنوبية” وهي مقاربة لخريطة إقليم كردستان العراق اليوم. لكن المقترح البريطاني لم يحسم حينها تبعية أربيل، وتُرِك الخيار لآغواتها حسم القرار، رغم أن مونتيكو قد رجح انضمام أربيل إلى العراق.
أما الدولة الثانية فهي جزيرة بوطان تحت رئاسة عائلة بدرخان. أما حدود هذه الدولة فإنها غير موضحة، والأرجح أنها تمتد من بوطان باتجاه الخابور جنوباً، لأن الوثيقة تذكر بأن “تخوم بوطان لا تمتد إلى أبعد من اهتمام حكومة جلالته بهذا” (لمراجعة تفاصيل هذه الوثيقة يُنظر: جرجيس فتح الله – يقظة الكرد – ص 150، 151).
عشية مؤتمر الصلح في باريس عام 1919، حسم الجنرال الكردي، شريف باشا، والمرجع الكردي الديني والسياسي سيد عبدالقادر النهري المقيم في اسطنبول، وأمين عالي بدرخان، مواقفهم بالسير مع الموقف البريطاني، بعد سلسلة من المراوغات التركية. فقد أدى التدخل الروسي في شمال كردستان، ثم انسحابها الكيفي بعد ثورة 1917 وقيام الاتحاد السوفييتي، إلى ربط القضية الكردية ببريطانيا التي بقيت لوحدها في الساحة.
إن التدخلات الروسية من جهة، وعدم حسم بريطانيا موقفها من جهة أخرى، دفعا بالنخب الكردية إلى وضع أملهم وراء بريطانيا. ولهذا الغرض عقد شريف باشا، عام 1919، ميثاق تعاون وتحالف كردي أرمني، مثّله هو عن الطرف الكردي، وبوغوص نوبار باشا عن الطرف الأرمني.
السلطان محمد وحيد الدين
في الحصلة، كان هناك كرد إلى جانب كلا التيارين التركيين، المقاومة الوطنية في أنقرة، وحكومة إسطنبول. منهم من قام بدور لم ينكره حتى خصومه، مثل سعيد النورسي، أو الشيخ سعيد أفندي الكردي، الذي كان يعرف بهذا الاسم بعد هربه من الأسر الروسي في صيف 1918، وبقي ملازماً لاسطنبول رغم سقوطها تحت الاحتلال الأوروبي بعد شهور فقط من عودته لها. بالاطلاع على دور التعبوي الهائل في مدينة تحت الاحتلال. يمكن الافتراض أن حكومة السلطان في إسطنبول ما كانت ستواجه السقوط من أعين عامة الناس بالشكل الذي حصل لو أن سعيد بقي في الأسر بسيبيريا الروسية، فقد تصدى سعيد بصفته قيادياً في دار الحكمة الإسلامية باسطنبول، لفتوى شيخ الإسلام بضغط من السلطان وحيد الدين (محمد السادس) تفيد بأن الوطنيين (الكماليين) متمردون ومن الواجب على المسلمين قتلهم، وعلى إثر هذه الفتوى تشكل رسمياً جيش القوات الوطنية وتشكلت حكومة الجمعية الوطنية في أنقرة في 23 -04-1920. وكتب النورسي:
إن الفتوى التي أصدرتها الحكومة ومكتب شيخ الإسلام في بلد محتل من العدو، وبأمر من البريطانيين وتحت وطأة إكراههم، هي فتوى باطلة لا يُكترث لها، فليس هؤلاء المناضلون ضد غزو العدو بمتمدرين، ويجب إبطال تلك الفتوى.
سعيد الكردي (النورسي)
وبات شائعاً تحريف الكتاب الأتراك المعاصرين السياق السياسي لمواقف العديد من الشخصيات “الوحدوية” الكردية. فعلى سبيل المثال، يتم تفسير مواقف النورسي وتقديمه حتى من قبل مؤلفين يقدمون أنفسهم كمستقلين عن أجهزة وأيديولوجيا الدولة، كشخص لديه ميول تبعية وإنكار قوميته في سبيل تركيا الطورانية المشيّدة، ووقع في هذا التحريف الكاتبة البريطانية المستتركة، شكران واحدة، رغم أن الوثائق التي تعرضها تحتوي على نفي استنتاجاتها، ففي رسالة نقل مضمونها الكاتب التركي قونسلجي عساف بك، أن الكاتب والمثقف الكردي مولانا زادة رفعت، قد بعث برسالة إلى بديع الزمان ليدعوه إلى مشروع إقامة دولة كردية مستقلة، فردّ عليه سعيد “رفعت بك، دعونا نحيي الإمبراطورية العثمانية”. ولم يخفِ سعيد الأرضية التي يتحرك عليها، وهي حماية كردستان والأناضول من شيء يراه تهديداً وجودياً، لذلك كتب علناً في مقال نشره بمجلة “سبيل الرشاد” في 4 -03- 1920 حين تناقلت الأنباء عن اتفاق بين شريف باشا والشخصية الأرمنية نوبار باشا، على تقسيم تركيا وتأسيس دولتين أرمنية وكردية. ومن المعروف أن الدولة الكردية المقترحة كانت قد تنازلت للدولة الأرمنية المقترحة مناطق واسعة كان الكرد يعتبرونها جزءاً من أرضهم التاريخية، بما في ذلك بدليس، مسقط رأس سعيد النورسي. فكتب:
إن أبلغ رد على الاتفاقية التي وقعها بوغوس نوبار باشا وشريف باشا، جاء تلغرافياً حيث بعث به قادة القبائل الكردية، فالأكراد لن يتركوا المجتمع الإسلامي، ومن يقول غير ذلك هم شرذمة قليلون ممن يتبعون أهدافهم الخاصة وليس لديهم أي سلطة للتحدث بالنيابة عن الكرد. لقد ضحى الكرد مؤخراً ب 500 ألف منهم عزةً للإسلام، ليثبتوا مرة أخرى ولاءهم للخلافة..
شكران واحدة – بديع الزمان النورسي – ص232
يتابع النورسي في مقالته الهجوم على الاتفاق الذي مهد لمعاهدة سيفر، فكتب بصراحة عن الأرمن حيث كان يتفادى الخوض في التفاصيل عادة فيما يتعلق بالتوترات مع الأرمن، بل أشاد بهم في عدة مواضع من “رسائل النور” خلال جولته على عشائر وان بعد الانقلاب على السلطان عبدالحميد الثاني. وهذا يوضح سياق موقف النورسي برمّته، سواء تجاه مناهضته للاحتلال البريطاني إسطنبول واليوناني لإزمير. فكتب:
ولنأتِ للمذكرة المشينة: لقد أردك الأرمن أنهم لا يمثلون سوى أقلية صغيرة للغاية في الأقاليم الشرقية، ولذلك لا يستطيعون بحال أن يزعموا أن لهم حقاً هناك، فرأوا من السهل والمفيد استخدام شريف باشا..
في المقابل، نقلت برقية بريطانية مؤرخة بتاريخ 08 -01- 1919 وقائع لقاء حاسم بين المسؤول البريطاني للجنة الحلفاء في إسطنبول وسيد عبدالقادر النهري، وهو أهم شخصية كردية تحظى بالاحترام في ذلك الوقت، ولم يكن أيضاً من مؤيدي بريطانيا إلا من باب محاولة تحصيل شيء ما أفضل من خسارة كل شيء، فلم يكن عبدالقادر – الذي أعدم في خريف عام 1925 – طيلة تاريخه سوى كردي عثماني مخلص للدولة العثمانية ومؤسساتها ورئيساً لمجلس الشورى العثماني لعدد من السنين.
وجاء في البرقية البريطانية:
جاءني عبدالقادر زائراً صباح هذا اليوم. وذكر أن الكرد في الوقت الحاضر يجدون أنفسهم في موقف صعب للغاية. لا، بل في موقف تكتنفه الأخطار كما قال. فحزب الوفاق الحر، الذي يقوم فريد باشا على رأسه، يعمل ليحل محل الحكومة الجديدة. وقد قدم للكرد عروضاً في غاية الكرم والسخاء في نظره. ووعدوا، على ما فهمتُ منه، بما يرقى إلى حكم ذاتي تام تحت الحماية التركية.. من جهة أخرى فإن الحكومة الحالية عرضت عليه مقترحات حول منح الكرد إدارة ذاتية بموظفين كرد، لكنها تبني في الوقت عينه موقفاً استفزازياً معادياً منه ومن إخوانه في القسطنطينية. وفي الوقت عينه زادت خطورة مصطفى كمال، وهو (أي عبد القادر) يشعر بقلق عظيم بما سيقدم عليه هذا (مصطفى كمال) بالتعاون مع الأذربيجانيين.. وإن الثمن الذي وجب على الكرد دفعه لعرض حزب الوفاق الحر هو أن يقفوا ضد مصطفى كمال. وقال عبدالقادر إنه يريد أن يختار لنفسه سبيلاً يتفق تماماً مع خط الحلفاء، لا سيما انكلترا، لأنه يعتبر أن مصير كردستان مرتبط ارتباطاً وثيقاً ببريطانيا العظمى أكثر بكثير من ارتباطه بأي جهة أخرى من الحلفاء”. (يقظة الكرد – ص 145 ، 147).
في الرسالة نفسها والتي حملت توقيع “ت.ب.هوهلر – سكرتير المندوب السامي”، يطمئن المسؤول البريطاني الشيخ عبدالقادر النهري بالقول: “المعلومات التي وصلت للجنة الحلفاء العليا كانت تشير إلى دبيب الضعف في حركة مصطفى كمال، فلا داعي للخشية منه”. ويضيف: “استفسرت منه: هل إن المواجهة التي يتطلبها حزب الوفاق (المعارض لمصطفى كمال) منكم للوقوف ضد مصطفى كمال تتضمن استخدام القوة؟ فأجاب بالإيجاب. فلمّحت له: إن ذلك لا يبدو ضرورياً نظراً إلى ضعف حركته”.
إن هذه البرقية في غاية الأهمية، كونها تشير إلى تطمينات مضللة من البريطانيين للقادة الكرد أو ربما سوء حسابات قاتل، لكن لا جدال في بريطانيا لم ترغب في تحدي الكرد لمصطفى كمال. يمكن الفهم من سياق الأحداث أنّها كانت تتفهم صعود نجم مصطفى كمال، وأنه الرجل الذي يمكن التفاوض معه حول كافة المسائل. فقد لخّص ونستون تشرتشل، وزير الدولة لشؤون الحرب، مآل التحالفات السابقة بتعبير مكثف أرسله إلى مجلس الوزراء في كانون الأول /ديسمبر 1920، جاء فيها: “لقد أدى السير العاثر للأمور إلى جعلنا خارج نطاق تعاطف القوى الأربع ذات النفوذ المحلي” (ديفيد فرومكين – ص 373) في الشرق الأوسط، وهذه القوى هي الروس واليونانيون والعرب والأتراك. للتخلص من هذا المأزق، طرح تشرتشل فكرة التحالف مع العرب والأتراك، ومعاداة البلاشفة وتجاهل اليونانيين، وهي فكرة لقيت حماسة كبيرة من جانب رئيس الأركان البريطاني، هنري ويلسون.
التقط مصطفى كمال هذا الاتجاه وبنى عليه سياساته اللاحقة إلى حد كبير، فتنصل من مضمون الوطن المشترك في بنود الميثاق الملّي الذي تضمن إقراراً ببنود مؤتمري أرضروم وسيواس (1919)، وتضمنت مناقشاتها العلنية اعترافاً بالحكم الذاتي الكردي ووحدة كردستان ضمن الدولة التركية الجديدة. وهذا التراجع كان بداية التخلي التركي عن ولاية الموصل لصالح بريطانيا.
الانقسام الكردي: الميثاق أم سيفر؟
للوقوف على طبيعة الانقسام الكردي الذي امتد حتى معاهدة لوزان، من المفيد التذكير بإيجاز اتجاهات السياسات التركية بعد الحرب العالمية الأولى.
بعد هدنة مودروس، تشكلت حكومتان في تركيا. الأولى في أنقرة، وهي حكومة الجمعية الوطنية الكبرى بزعامة مصطفى كمال. وهذه الحكومة قدمت ورقة “الميثاق الملي”.
في إسطنبول، تسلّم فريد باشا، وهو من معارضي مصطفى كمال، رئاسة الحكومة التركية الواقعة تحت الاحتلال، في أبريل/نيسان 1920، ووقع على معاهدة سيفر التي أقرت حق الكرد في إجراء استفتاء لتقرير المصير. وهي الاتفاقية التي فجرت خلافات بين القيادات الكردية منذ بداية التفاوض بسبب تقديم شريف باشا خريطة لكردستان لا تتضمن ولاية “وان” ومناطق أخرى، أي تنازل عنها للأرمن حتى قبل توقيع المعاهدة.
قبيل التوقيع، شنت حكومة فريد باشا، هجوماً عسكرياً على قوات مصطفى كمال، مستخدماً القوات الكردية في منطقة دياربكر وخربوط وموش، بالتنسيق مع والي خربوط، غالب بك، وسيد عبدالقادر النهري. إلا أن عبدالقادر كان قلقاً على سٌمعته من وراء تعاونه مع فريد باشا (للمزيد حول هذه النقطة يُنظر: لازاريف – المسألة الكردية).
لا توجد تفاصيل عن القوى التي شاركت في هذا الهجوم، لكن من المؤكد أنه لم يحظ بمشاركة كبيرة من جانب الكرد. ويعود ذلك – كما تقدم- إلى تردد سيد عبدالقادر، وإلى استقطاب مصطفى كمال لعدد من الزعماء الكرد. أصيب مصطفى كمال بالهلع لدى سماعه بقرب هجوم يشارك فيه الكرد، فقام على الفور بطرح “الميثاق الملّي”، وفيها وعود تستند إلى مقررات مؤتمري أرضروم وسيواس، وأسس بناء عليه دستور عام 1921 الذي بني على أساس مناطق الحكم الذاتي ضمن حدود الدولة التركية. فقد كانت الأناضول وكردستان الساحة الوحيدة المتبقية له. ولو كتب لهجوم إسطنبول العسكري بواسطة مسلحين كرد ضد مصطفى كمال، النجاح، لتغير وجه تركيا إلى غير ما هي عليه اليوم.
عزت باشا وزير خارجية حكومة اسطنبول (يمين) وعصمت إينونو وزير خارجية حكومة أنقرة (يسار)
فتح الصراع بين مصطفى كمال (المتمرد) وفريد باشا (رئيس الوزراء تحت الاحتلال)، سباقاً بين الطرفين لضمان تأييد الكرد، أو على الأقل حيادهم في أي مواجهة مباشرة، فأثناء انعقاد مؤتمر سيواس، في 04-09-1919، أرسل مصطفى كمال خطابات غاضبة إلى عدد من أركان حكومة فريد باشا، والسبب– على حد ما يذهب برنارد لويس (ظهور تركيا الحديثة – ص 305) – “هو محاولة حكومة اسطنبول، مع بعض المساعدات البريطانية، إثارة القبائل الكردية في شرق البلاد ضد كمال. وكان لهذه الجهود أثر ضئيل، وعجّلت بالقطيعة بين حكومتي أنقرة واسطنبول”، وتحركت الحكومتان خارجياً في سباق للحصول على تسويات ضد الآخر، فكان عصمت إينونو وزير خارجية حكومة أنقرة، وجهاً لوجه أمام عزت باشا وزير خارجية حكومة إسطنبول.
في العموم، برز تيار من الضباط والمسؤولين الأتراك أثناء وبعد الحرب، يصرحون علناً بتبنيهم للقضية الكردية أواخر الدولة العثمانية. وكان منهم علي إحسان باشا، الملقب ب”أوزدمير”، قائد الجيش العثماني السادس، الذي بنى علاقات واسعة مع أطراف كردية، بناء على مبدأ مناهضة الانكليز، خصوصاً في كردستان الجنوبية، ووضع نصب عينيه استمالة الشيخ محمود الحفيد، عام 1922. والواقع أن هذا التيار التركي، انضم إليه مصطفى كمال أيضاً، لأنه كان مثمراً من الناحية التكتيكية. وكان القوميون الأتراك غالباً يتسامحون، قبل حرب الاستقلال، في استخدام اسم كردستان وخريطة كردستان.
والغرض من ذلك أنه في حالات معينة، كانت كردستان لا تعني شيئاً سوى أنه ليست هناك “أرمنستان”.[1]