*حسام عيتاني
بعد مئة عام على توقيع #معاهدة لوزان# بين تركيا والحلفاء،لا زالت اثارها باقية في تركيا وجوارها. قدرتها على الحفاظ على اهميتها تصدر من المشروع الكبير الذي اعقب الحرب العالمية الاولى ورمى الى اضفاء بعض الترتيب على احوال عالم انهار وآخر يبزغ فجره.
بنود المعاهدة حرمت الكرد بعض ما اعطته لهم معاهدة سيفر في 1920 وتراجعت عن اقتطاع اجزاء من الاناضول من السلطنة العثمانية المهزومة لمصلحة اليونان ووضعت حدا لاحتلال اسطنبول والسيطرة على ممرات الدردنيل والبوسفور، اضافة الى تجاهل الدولة الارمنية المستقلة التي كانت قد لفظت انفاسها بعد اجتياحها من قبل القوات السوفياتية 1920 .
بكلمات ثانية، كانت المعاهدة اعادة قراءة للواقع الذي تغير تغيرا عميقا بين اتفاق الهدنة في جزيرة مودروس وهي اشبه باعلان استسلام في أكتوبر/ تشرين الاول 1918 التي انهت الاعمال القتالية بين السلطنة والحلفاء، وبين اتفاق الهدنة في مدينة مودينا التي اختتمت بها حرب الاستقلال التركية عمليا قبل ان يتكرس السلام في معاهدة لوزان.
كانت السلطنة العثمانية الى قبلت بهدنة مودروس، تعيش أيامها الاخيرة. سلطانها محمد السادس وحيد الدين مجرد ظل شاحب لما كان عليه سلاطين آل عثمان وجيشها الذي هُزم على الجبهات جميعها بعدما انهكته حرب البلقان التي قضت على كل ممتلكات السلطنة في اوروبا قبل ان تأتي الحرب العالمية لتقضي على ما تبقى منه بعدما اختارت حكومة جمعية الاتحاد والترقي الانحياز الى صفوف دول المركز التي ضمت المانيا والنمسا- هنغاريا.
اسفر ذلك عن رفض عدد من الضباط والسياسيين الاتراك معاهدة سيفر التي قسمت الاناضول والروملي (الاراضي التركية في اوروبا) بين القوى المنتصرة خصوصا الفرنسيين والبريطانيين واليونانيين والايطاليين، لتبدأ حرب الاستقلال التركية بقيادة مصطفى كمال القائد العسكري السابق لمجوعة جيوش يلدريم في الايام الاخيرة من الحرب.
ديبلوماسية الامر الواقع
السرد المعروف للاحداث يتابع ليصل الى الحاق قوات اتاتورك الهزائم المتتالية بقوات الحلفاء وخصوصا اليونانيين واستعادة هضبة الاناضول واسطنبول والمدن الساحلية الجنوبية وصولا الى اعلان الجمهورية التركية والغاء الخلافة الاسلامية وبروز مصطفى كمال كأب للأتراك اتاتورك ومؤسس للحكم الجديد المستمر الى اليوم.
فرض ذلك العودة الى المفاوضات مع الحلفاء لتثبيت الوضع الجديد والانتصار التركي والغاء معاهدة سيفر.
بيد ان الصورة الأوسع تنطوي على العديد من السمات التي ميزت المرحلة تلك وغالبا ما يتجاهلها السرد التقليدي الذي يركز على معاهدة لوزان من دون المناخ العام الذي انتجها. التقديم الصحيح للمعاهدة يستدعي وضعها في المسار الذي أوصل اليها قبل البحث في تداعياتها ونتائجها.
وقد يصح وضع مؤتمر برلين في 1884 كأحد اركان المناخ الذي انتج معاهدة لوزان نظرا الى اختصاره للرؤية التي سادت العالم حينذاك عن الكيفية التي تجيز للدول الكبرى تقاسم مناطق النفوذ في ما بينها.
كان مؤتمر برلين حدثا نموذجيا في صراحته لتجاهل مصالح الدول الصغيرة والفقيرة وشعوبها. فقد وضعت الخرائط على مائدة المفاوضات وتفاهم المشاركون على رسم الخرائط المناسبة لقوتهم وقدراتهم العسكرية ومصالحهم الاقتصادية. وليس كشفا ان مؤتمر برلين أسس ايضا للظروف التي افضت الى الحرب العالمية الاولى.
مهما يكن من أمر، ادت الحرب العالمية الاولى الى انهيار الامبراطوريات الاربع الكبيرة: الروسية التي شهدت الثورة البلشفية سنة 1917 فخرجت من الحرب وانشغلت بصراعاتها الداخلية. والالمانية التي حولتها معاهدة فرساي الى كبش فداء لكل اوزار الحرب. والنمساوية – الهنغارية التي لم تعد تستجيب للطموحات القومية لشعوبها الكثيرة واخيرا السلطنة العثمانية التي اخفقت في تحديث نفسها وايجاد مبررات وجودها امام شعوب تتطلع الى الاستقلال.
كان لا بد من اعادة النظام الى اوروبا والشرق الاوسط، الساحتين الابرز للحرب العالمية. ولجأ المنتصرون الى اسلوب مؤتمر برلين الذي انتج معاهدتي فرساي وسيفر. وسيكون لفرساي تبعات وخيمة وستؤسس للحرب العالمية المقبلة كما هو معروف بعدما فشلت جمهورية فايمار الالمانية في ارساء حكم ديمقراطي مستقر في ظل ازمة اقتصادية خانقة والصراعات المريرة بين التيارات اليسارية واليمينية المتطرفة.
لكن اجواء ما بعد الحرب الاولى كانت غير تلك التي رافقت مؤتمر برلين. فقد ظهرت الولايات المتحدة الاميركية كقوة دولية للمرة الاولى بعدما ارسلت مئات الالاف من جنودها لحسم الفصل الاخير من الحرب على المسرح الاوروبي. وسعى الرئيس وودرو ويلسون في برنامج النقاط الاربعة عشر الذي اعلنه في اطار مشاركته في مؤتمر الصلح في باريس الى الحفاظ على سلامة الجزء التركي من الامبراطورية العثمانية مقابل ضمان حق المناطق غير التركية في تقرير مصيرها.
غني عن البيان ان برنامج ويلسون مني بأضرار بليغة لتعارضه مع مصالح القوى الاوروبية الكبرى التي لم تكن قد تخلت عن اساليبها القديمة ومشاريعها الاستعمارية خصوصا انها رأت رجل اوروبا المريض يخر صريعا امامها.
عالم في حاجة الى ترتيب
من جهة ثانية، كانت عملية اعادة رسم خريطة اوروبا والشرق الاوسط تجري على قدم وساق. وإذا كان الاهتمام ينصب في العادة على معاهدة فرساي التي تضمنت انشاء عصبة الامم (بناء على افكار ويلسون في شأن السلام العالمي)، وعلى معاهدتي سيفر ولوزان لارتباطهما ارتباطا غير مباشر بالعالم العربي من طريق رسم الخريطة التركية ثم تعديلها بعد انتصار الجمعية الوطنية التركية الكبرى التي قادت حرب الاستقلال التركية، الا ان من المهم الاشارة الى ان مؤتمر باريس قد فتح العديد من المسارات التي رمى جميعها الى تكريس نتائج الحرب على امتداد مساحة اوروبا والشرق الاوسط.
فقد وقعت معاهدة لوكارنو التي تعهدت ألمانيا فيها بعدم شن المزيد من الحروب. كذلك جرى توقيع معاهدة نويي التي تخلت بلغاريا فيها عن اراض كانت استولت عليها من تركيا واعادتها الى اليونان. وفصلت معاهدة سان جيرمان النمسا عن هنغاريا وانهت عمليا الامبراطورية النمساوية- الهنغارية. اما معاهدة تريانون فغيرت خريطة هنغاريا لمصلحة جيرانها.
كان مؤتمر باريس والمعاهدات التي اعقبتها محاولة كبيرة لترتيب العالم وتنظميه وللوفاء للشعار الذي رفعه الكاتب البريطاني أتش جي ويلز الحرب التي ستنهي كل الحروب ثم تبناه الحلفاء. لكن المفارقة كانت ان انهاء كل الحروب تحول الى زرع بذور الحروب المقبلة. فالمعاهدات التي وقعها الحلفاء مع الدول المهزومة غالبا ما حملت طابعا ثأريا كان شديد الوضوح في معاهدة فرساي التي يجمع المؤرخون اليوم على انها هدفت الى إذلال المانيا ومعاقبتها على التسبب بالحرب، من دون ان يلقي واضعو المعاهدة بالا الى الاثار بعيدة المدى لسلوكهم هذا.
كذلك الامر بالنسبة الى معاهدة سيفر التي لم تأخذ في الاعتبار ان تسليم مناطق شاسعة من الاناضول واحتلال اسطنبول، سيؤدي الى اشتعال حرب الاستقلال التركية. وعلى الرغم من ان معاهدة لوزان اعادت بعض الاعتبار الى تركيا الا انها كانت شديدة الوضوح لناحية حظر اية مطالبة تركية بالاراضي التي خسرتها من امبراطوريتها السابقة في قبول غير معلن باتفاقية سايكس- بيكو التي تقاسمت فيها فرنسا وبريطانيا المشرق العربي بينهما وقضت ايضا بضم شرق تركيا الى روسيا التي انسحبت بعد ثورتها من الاتفاقية.
الادهى ان لوزان تبنت القيم والممارسات ذاتها التي سادت في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. فقد قضت المعاهدة باجراء تبادل سكاني بين تركيا واليونان بحيث أبعد مئات الالاف من المسلمين اليونانيين الى تركيا لينضموا الى سابقيهم الاتين من مناطق البلقان التي منيت فيها السلطنة العثمانية بالهزائم اثناء حرب 1913 فيما دُفع باعداد كبيرة من يونانيي مناطق طرابزون والسواحل الجنوبية الى التوجه الى اليونان.
كما غض الحلفاء الطرف عن الابادة الارمنية التي ارتكبتها القوات التركية بين العامين 1915 و1917، وعمليات التطهير العرقي التي استهدفت اليونانيين والسريان وامتدت الى العام 1922. وهي احداث لا تزال السلطات التركية ترفض تحمل مسؤوليتها وتنفي اي سمة منظمة لها وتضعها في اطار الجرائم الفردية غير المنهجية.
وتضمنت المعاهدة كذلك تخلي تركيا عن المطالبة بالموصل الواقعة في العراق حاليا، والتي كانت بريطانيا حريصة على الاستحواذ عليها لادراكها غنى المنطقة بالنفط الذي كان قد بدأ يظهر كسلعة اساسية في الصناعة والنقل.
وبتجاهلها حقوق شعوب اضعف من الاتراك وعاشت في كنف السلطنة الآفلة في اطار نظام الملل، أسست لوزان لجولات جديدة من الصراعات المتعلقة بالحقوق الوطنية والثقافية ربما كان اهمها الصراع مع الكرد الذي تتعدد وجوهه منذ حوالي القرن من الزمن وتتغير ادوات التعبير عنه حيث تتراوح بين الانتفاضة المسلحة والانخراط في العملية السياسية التركية الداخلية.
*مجلة المجلةاللندنية.[1]