*د.محمد نور الدين
هو بلد «الهويات المتناحرة». خلال أقل من أسبوع كانت تركيا على موعد مع أحداث تعكس على أرض الواقع أزماتها البنيوية الرئيسية.
الحدث الأول هو اعتقال مدير محطة «تيلي 1» المعارضة ميردان ينارداغ. وأثار ذلك سجالاً كبيراً بين السلطة وبين المعارضة.
المسألة تتعلق بزعيم حزب العمال الكردستانيعبدالله أوجلان ا لمعتقل منذ 15 -02-1999 في جزيرة ايمرالي ببحر مرمرة. ولكن منذ آخر لقاء بينه وبين أخيه محمد في 25-03- 2021، أي منذ 28 شهراً، لم يسمح لأحد بزيارته أو مكالمته حتى على الهاتف. وقد سيّر الكرد في مختلف أنحاء تركيا والعالم تظاهرات واحتجاجات لمنع عزل اوجلان عن العالم الخارجي.
يوم الثلاثاء في 20 حزيران/ يونيو الماضي أدلى ينارداغ في برنامج «4 أسئلة و4 أجوبة» بتصريحات فتحت الباب أمام اعتقاله عشية عيد الأضحى بتهمة مناصرة «الإرهاب الكردي» والدعاية له. قال ينارداغ: «إن العزل المطبق على عبدالله اوجلان لا يستند إلى أي أساس حقوقي. لقد أصبح من كثرة القراءة فيلسوفاً. إنه ذكي إلى أقصى درجة». هذه الكلمات كانت كافية لتقوم القيامة وهي فعلاً قامت. وشنت السلطة السياسية والقوميون المتشددون حملة تشهير بينارداغ. وما كان من القضاء إلا أن استجمع قواه ورمى بينارداغ في السجن.
يقول سعاد بوزكوش في صحيفة «يني اوزغور بوليتيكا» الكردية المؤيدة لأوجلان إن الدولة أرادت من وراء اعتقال ينارداغ أن تبدأ حملة استعادة البلديات التي خسرتها ولا سيما في اسطنبول وأنقرة في الانتخابات البلدية المقبلة التي ستجري في آخر آذار/ مارس من العام المقبل 2024. أما البلديات التي كان يرأسها منتمون إلى «حزب الشعوب الديمقراطي» الكردي فالسلطة استعادتها سابقاً من طريق إقالة رؤسائها وتعيين آخرين موالين للسلطة لتولي إدارة مهامها.
الكاتب ميتيه قاينار في صحيفة «غازيتيه دوار» يرى أن اعتقال الصحفي ميردان ينارداغ هو محاولة لإسكات الصحافة الحرة المعارضة. ويقول المفكر المعروف إيمره كونغار في «جمهورييات» إن اعتقال ينارداغ هدفه تخويف الناخبين وهو بالتالي منذ الآن ضحية الانتخابات البلدية المقبلة.
أما الحدث الثاني فيتصل بالصراع بين التيارين الديني والعلماني. ففي 13 -02- 1925 قام الشيخ سعيد بيران المعروف بالكردي بثورة ضد السلطة الحاكمة اعتبرت الأكبر والأشهر في تاريخ تركيا الحديث.
وقد اتسمت ثورة الشيخ سعيد بنزعتين قومية دفاعاً عن الاضطهاد الذي كان يتعرض له الكرد، ودينية احتجاجاً على إلغاء الخلافة والتشريعات المعادية للدين. ولكن الدولة نجحت في إخماد الثورة في في منتصف نيسان/إبريل واعتقال الشيخ سعيد ورفاقه.
وفي 28 حزيران/ يونيو من العام نفسه صدر الحكم بإعدام هؤلاء وفي اليوم التالي نفذ الحكم فيهم.
في الذكرى ال 98 لإعدامه تجدد السجال حول الشيخ سعيد بين من يرى أنه خائن لمبادئ العلمانية والثورة الأتاتوركية، وبين من يرى أنه بطل ديني واجه حملة استئصال الدين من الدولة والمجتمع، وبين من يرى أنه بطل قومي للكرد في اتجاه نيل حقوقهم.
والمفارقة هنا أن حزب العدالة والتنمية قد دخل على الخط من زاوية أن الشيخ سعيد ليس متمرداً ولا عاصياً بل كان شهيداً في وجه القمع الأتاتوركي دفاعاً عن الشريعة.
يقول عضو اللجنة المركزية لحزب العدالة والتنمية علاء الدين برلاق، في تغريدة له:«في الذكرى السنوية لشهادتهم نتذكر برحمة وامتنان الشهيد الشيخ سعيد ورفاقه الأبطال».
وكان ذلك بداية حرب على مواقع التواصل الاجتماعي ندد فيها البعض بوصف الشيخ بالشهيد متسائلين:«كيف يمكن وصف من اعتدى على الجيش التركي البطل بالشهيد؟» وقال آخرون:«إن ما يمثله حزب العمال الكردستاني اليوم هو ما كان يمثله الشيخ سعيد..».
وما بين اعتقال ينارداغ لتنديده بظروف اعتقال أوجلان وما بين اعتبار الشيخ سعيد شهيداً دينياً في وجه العلمانية وإرهابياً كردياً في وجه السلطة، تواصل «الجمهورية التركية» مواجهة المعضلات المزمنة التي لم تستطع بعد، في الذكرى المئوية لتأسيسها، أن تجد حلاً لها.
*باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية..
صحيفةالخليجالاماراتية.[1]