أحمد شيخو
عند التطرق للبعد الثقافي أو الحياة الثقافية لشعب ما علينا التركيز على الحالة الذهنية، وكذلك اللغة نظراً لكونها وسيلة التعبير المجتمعية عن الذهنية، وبها طورت البشرية قدرتها الفكرية التي ساهمت في التغيرات و التطورات المتعاقبة.
ونظراً للموقع الجغرافي لسلسلة جبال زاغروس وطوروس وفي القلب منها كردستان فإنها تعد المركز الأساسي لهذه التطورات، والذي أنجز فيه النوع البشري إلإنطلاقات النوعية الإجتماعية لنظامه. فالمناطق الكردية وأسلاف الكرد كانوا يشكلون المجموعات المحورية لهذا النظام من التغيرات والترتيبات المشكلة ماقبل حوالي عشرين ألف سنة. أما اللغة والثقافة الآرية التي شكلوها و التي تعد أقدم مجموعة لغوية لعبت دور أساسي في إنجاز الثورة النيولوتية ماقبل 12 ألف سنة وبعدها في تطوير سياق المدينة والمدنية أو تشكيل الحضارة البشرية.
وحصل بعد هذا التطور المسمى بالمجموعة اللغوية والثقافية الهندوأوربية، مستنداً إلى ماسبق. وقد تواجد هذه المجموعة في منطقة وسطى مثلى ساعدتها على ترك بصماتها في الأنطلاقات الكبرى للتاريخ الكوني بين مجموعتين لغويتين وثقافتين مختلفتين أمامهم
1_جنوباً من المجموعات السامية المرتبطة بالجذور الأفريقية (ثقافة البادية والمناطق الحارة) .
2_ شمالاً مجموعات أورال ألتاي المنحدرة من حواف سيبيريا وحدود الصين (ثقافة السهول الجرداء والمناطق الباردة).
تتسم الثقافة الكردية بدور الصدارة والتأثير على مراحل تطور ثقافة النهر الأم للحياة البشرية والتأثر بها على مراحل التاريخ. إلا أن عيشها الدائم في ساحة الصراع والتصادم قد نم بدوره عن ضرورة انسحابها إلى الجبال لضرورة حماية وجودها. واعتبرت أقدم وأعرق شعب، ولكن بالمقابل وللسبب ذاته لم تخصص مساحة ملحوظة داخل بنيتها لثقافة المدينة، وبقيت على تضاد مع ثقافة المدينة وأعتبرتها خطر يريد إبتلاعها، ولذلك حافظت البنية المجتمعية الكردية التي رسمت المقاومة ضد المدنية ملامحها وليس رابط الدم بخاصيتها المجتمعية من القبلية والعشائرية على نمط الوجود وثقافة الحياة الحرة.
وقد أظهرت التقاليد الزردشتية طابعها هنا على درب الحياة الحرة وليس بالإستعباد كفارق جذري يميزها عن تقاليد الأديان السامية.
ولقد تلقت التقاليد الزردشتية العديد من الضربات في ظل السيطرة الإسلامية السلطوية، التي جلبت معها الاستعباد، أي أن ما يتستر خلف العداء السافر الذي يكنه إسلام السلطة ضد التقاليد الزردشتية، هو ظاهرة التمايز الطبقي الحاد والاستعباد الفظ لدى الإسلام السلطوي. لذا من عظيم الأهمية الإدراك أن استعباد الكرد وعبوديتهم يتناسب طردياً مع مدى انخراطهم في صفوف الإسلام السلطوي وابتعادهم عن الثقافة و التقاليد الزردشتية.
ومقابل ذلك وتحديداً في العصور الوسطى حافظت الثقافة الكردية على وجودها والتحلي بالتشبث بالحياة الحرة ولم تعان من الاستعباد من الاعماق بل ما انفكت متشبثة بحريتها بكل شغف كوسيلة للدفاع الذاتي والحفاظ على جوهرها عبر طريقتين:
1_ الإصرار و المقاومة المخاضة تأسيساً على الإيزيدية واليارسانية والعلوية والتي هي على صلة وثيقة بالتقاليد الزردشتية القديمة.
2_مساهمة المذاهب والطرائق الدينية المتهربة من الإسلام السلطوي في بناء حياة مجتمعية أكثر حرية وأخلاقية. ما دامت لم تتلوث بعدوى السلطة.
اما في عصر الحاثة الرأسمالية (النظام العالمي المهيمن الحالي) وخصوصاً في القرنيين الأخيرين، فقد أرتكبت نظام الحداثة جرائم الصهر والإبادة الجماعية بحق الثقافة المعنوية كما بحق الثقافة المادية. وقد تم إنجاز ذلك من قبل نظام الحداثة وعبر آليات الإبادة في الدولة القومية. والدول القومية التركية والفارسية والعربية، والتي هي بمثابة مؤسسات ووكالات عميلة للنظام العالمي المهيمن، استفادت من بنى السلطة التقليدية لديها لتطويق الثقافة الكردية كلياً. وانهت نظم المدارس التقليدية وحظرتها، تاركة بذلك اللغة والثقافة الكردية تعانيان الزوال داخل المؤسسات اللغوية والثقافية للدول القومية الحاكمة.
لقد باءت محاولات القوموية الكردية السقيمة الهادفة إلى الحفاظ على الثقافة الكردية بالفشل بمعنى أنشطتها اللغوية والأدبية. فأثرت سلباً مقابل منافسيها المخضرمين. فعندما تكون ثقافة المقاومة غير متينة فإن النتيجة ستكون الإنهيار
والزوال رويداً رويداً.فضلاً عن أن الأشكال القوموية البرجوازية لاتمتلك الآفاق التي تخولها لإحياء وتطوير ثقافات الشعوب. بل هي تقوم بوظيفة تحريفها وإفراغها من مضامينها.
وفيما عدا أنشطة سقيمة، وبسبب الحظر والصهر، نادراً ما أسفرت الثقافة الكردية عن مأثورات ملموسة في كنف الحداثة للنظام الهيمنة العالمي ودولها القومية التي وصلت فيها الثقافة المدونة أوجها. هذا ولم يعبر عن الحياة الحرة بمنوال صحيح في تلك المأثورات، بل أبرزت فيها الأرستقراطية القبلية ونظام الإمارة والسلطات الدينية.
نظام الحداثة العالمي المهيمن هو نظام يتعدى القمع والصهر الثقافي الذي كان سائداً في العصور الأولى والوسطى ولها دور سلبي في تطوير الثقافة الوطنية ضمن الواقع الكردي. بل لم تجانب الواقعية حتى على صعيد إنشاء الثقافة الوطنية البرجوازية. فالثقافة السائدة هي ثقافة الدولة القومية الحاكمة في الإفناء والصهر والإبادة العرقية. ومقولة وطن واحد، أمة واحدة، دولة واحدة، لغة واحدة، علم واحد التي هي شعارات فاشية تتكرر يومياً، وهي دلالة على هذه الحقيقة. وثقافة الربح الأعظم والدولة القومية لاتتوانى عن تطبيق كل كافة اساليبها الإقصائية و الإلغائية في سبيل استهلاك الثقافة الكردية التقليدية.
إن حكاية نشوء البرجوازية التركية البيضاء ذات التبعية للخارج والنفوذ والتاثير اليهودي فيها والممثلين الفعلين لها (الاتحاد والترقي وحزب الشعب الجمهوري والحركة القومية التركية وغيرهم ) كطبقة الدولة القومية التركية هي قصة تآمرية بشكل تام، حيث جعلت من الثقافة الإمبراطورية التقليدية قناعاً يتموه به. أي أن المجتمع رهين في هذه الثقافة وبالتالي فمن الواضح ان الإنتاج والأشتقاق الطبقي النخبوي الذي يأسر حتى الثقافة الاجتماعية التي يعتبرها أصيلة بالنسبة له أي الاثنية التركية والإسلام السني السلطوي سيلعب دوراً تدميرياً أكبر بكثير بحق الواقع الثقافي الكردي، كما في القرن العشرين فثقافة النزعة والسلطة لدى الاتحاد والترقي والتي تحققت على خلفية علمانية وأشكالها المختلفة والتي تحولت إلى سلطة مع حزب الشعب الجمهوري وبعده، فهي قد أنعكفت على تصفية الثقافة الكردية بكل ما في وسعها بعدما إنتهت من تصفية الوجود الثقافي الأرمني والسرياني الاشوري والهيليني ، وقد ارتكبت الإبادة إلى أقصاها، سواء في مرحلة الإنتفاضات من 1925 ألى 1940 أو في جرائم الإبادة التي تلتها والتي ارتكبت في ظل صمت مطبق.
وإلى جانب الإبادة الجسدية فإن ماتم ارتكابه في الاساس هي الإبادة الثقافية.وتعرضت الثقافة الكردية بجانبيها المادي والمعنوي لإنكار تام وحظر مطلق في هذه الفترة.
وبذلت الجهود لإتمام الإبادة الثقافية بسياسات الصهر اللامحدودة، حيث لم يسمح للكرد حتى فتح روضة أطفال واحدة يحييون فيها وجودهم الثقافي. وهذه ممارسة لامثيل لها في كل العالم.
حيث لم يشر في أي مادة قانونية إلى الهوية الثقافية الكردية.
واعتبرت الثقافة الكردية بكل مقوماتها من الأدب والفن والتاريخ والموسيقا و الغناء والرسم والعلم والرقص وما شابه خارج القانون، حيث دمر وأفني كل العناصر التي قيل أنه معني بالكردياتية، وعدا ذلك تم استخدامه وتم محاولة إرفاقه بثقافة الدولة القومية الحاكمة، وعدث ثقافة تركيا بعد صهرها وتذويبها بينها. بالإضافة إلى حظر اللغة الأم، وحظرت أسماء القرى والمدن والمناطق التاريخيةكافة، وحظر أسم الوطن الأم واللغة وأقيمت محلها الأسماء التركية وهكذا تم التقدير بانه سيتم القضاء على واقع الثقافة الكردية. وأدرج جميع أنماط التعبير عن الثقافة الكردية من أدب و فن و تاريخ و علم وشعر ورسم وغناء في إطار المحظورات وإعلان المعبرين والناشطين كخارجين عن القانون وإرهابيين وإنفصاليين وكفرة، وحكم عليهم بالبطالة والفقر والحرمان وفرض التخلي عن كينوته الثقافية الذاتية كشرط لابديل له من أجل الحياة ، واستخدام السياسة والاقتصاد والقانون كأسلحة في التصفية هذا إذا لم يتم قتلهم تحت إسم فاعل مجهول.
لقد عجزت التقاليد الإسلامية السلطوية ذات الطابع البرجوازي الإنتهازي عن تخطي المقاربة العلمانية التركية البيضاء وبل سلكت مقاربة متخلفة أكثر، حيث لجأت إلى التقاليد الإسلامية مع اتباعها الأساليب العلمانية الحداثوية بشأن الوجود الثقافي الكردي، وطبقت القوموية التركية بعد إضفاء طابع أكثر تزمتاً عليها بإسم الإسلام التركي. حيث طرحت رموز الإسلام التركي عندما لم يف التتريك العلماني بالغرض في عملية التصفية. وهنا تم استخدام الوسائل الدينية المختلفة تتقدمها الطريقتين النقشبندية والقادرية كوسائل إبادة ثقافية. ووظفت وزارة أو موسسة الشؤون الدينية في خدمة العلمانيين منذ تأسيس الجمهورية. ونخص بالذكر التركيز على استثمار الدين بطراز تآمري من خلال الاستفادة من ارتباط الكرد بالثقافة الدينية. فاستثمرت مزايا المقاومة التقليدية للطرائق لأهداف مخالفة لجوهرها وغايتها الإنسانية النبيلة الحرة، بعد أفراغها من مضمونها وجوهرها.
وبالإضافة إلى القوموية التركياتية البيضاء و ممثليهم العمليين من حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية التركية التي باتت بلا جدوى في مكافحة ثقافة الحياة المفعمة بالمقاومة والحرية التي أوجدها القائد عبدالله أوجلان و#حزب العمال الكردستاني# ضمن الواقع الكردي، تم استخدام الإسلاموية التركية كالعديد من الأحزاب الإسلامية وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية الاخواني القوموي بلبوس إسلامي. و غالباً عندما يكون موضوع الحديث للدولة الفاشية التركية
الثقافة الكردية يتحرك العديد من التيارات الإسلاموية وأحزابها بطراز أقرب إلى الحروب الصليبية ومن اعتبار ودواعي ” الوحدة والسيادة الوطنية”.
وعندما تم التأكيد وإدراك إستحالة إتمام إبادة الثقافة الكردية ووجودها في السنوات الأخيرة. أرخيت سياسات التطهير العرقي التقليدية بضغط من الهيمنة العالمية، وأفسح المجال أمام كيانات ثقافية دولتية قومية كردية زائفة، إن العامل المؤثر في حصول ذلك هو وجود ثقافة الحياة الحرة التقليدية والمقاومة الكردية ونضالها، وما يستهدف عبر الكردياتية المنشأة بطراز زائف وتآمري أجوف وبشعارات براقة ، هو ثقافة المجتمع الوطني الكردي الديمقراطي المقاوم والحر. وتدور المساعي لإقامة هذا النوع من الكردياتية البرجوازية العميلة على أنها موجودة فعلاً وإقامتها محل ثقافة الحياة الحرة والمقاومة الكردية. وهذا الإسلوب استخدمتها الهيمنة الإيدولوجية للنظام العالمي المهيمن تجاه كافة الثورات وثقافات حركات التحرر الوطنية لصهرهم في بوتقتها وإبتلاعهم من قبل حداثتها، وإبتكار أساليب جديدة دائماً من القمع المعاش طيلة التاريخ تجاه ثقافة المقاومة و الحياة الحرة.
وفي الواقع الكردي قامت الأيدولوجيات المهيمنة والثقافات الدخيلة المستوردة ببمارساتها الأشد تدميراً وصهراً في عهد نظام الحداثة للنظام العالمي المهيمن وهذا يتعلق بجوهرها الفاشي المستند إلى الربح الأعظمي و الدولة القومية كمؤسسات عميلة بعيدة عن ثقافة المنطقة فكراً وممارسةً. وتمارس الإبادات الثقافية المشاهدة عالمياً لإكتساب النظام فاعليته. وإبادة الكرد ثقافياً تتصدر تلك الأمثلة التي تسدل الستار عن الماهية الوجودية للنظام العالمي المهيمن.
والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي والإبادات الجماعية لاتنبع من الظاهرة التركية أو الفارسية أو العربية أو اليهودية أو من أي ظاهرة قومية أخرى ، بل هي ظاهرة معنية بالطراز الاستغلالي للحداثة للنظام العالمي المهيمن. مهما حاولت أن تعكس وكأنها ظاهرة أكيدة بين الأمم العصرية. ذلك أن نزعة الربح الأعظم لدى النظام العالمي الرأسمالي لن تعمل دون أن تخلق الصراعات و تؤلب الثقافات على بعضها البعض.
إن مراحل الإبادة الثقافية التي تنظمها الدولة القومية التركية ضد الثقافة الكردية ترتكبها أيضاً الدول القومية التقسيمية الأخرى الإيرانية والعربية وبنحو مشابه، من منطق النظام القائم على التقسيم والإبادة اللازمة لإنجاح التحالف المضاد للثقافة الكردية ووجودها بين الدول القومية التركية والإيرانية والسورية، لكن هكذا ممارسات وتحالفات حتى لو إنضمت لها روسيا، أصبحت أصعب وغير مضمونة النتائج الآن ، نظراً لتصادم هكذا تحالف مع مصالح الهيمنة العالمية بسبب النفط والغاز وأمن إسرائيل والهيمنة على المنطقة والتغيرات الحاصلة في الشرق الأوسط ومحاربة الإرهاب وعلى رأسهم داعش والقاعدة ومقابلها من القوموية الشيعية وظهور الثقافة الحرة والشعب الكردي بدور المؤثر والمحدد للمستقبل في المنطقة والمحارب للإرهاب نيابة عن العالم. وهذا التصادم ربما وبشكل أقرب إلى التاكيد يخلق فرص تاريخية بين الفينة والأخرى أمام حركة الحياة الحرة والمقاومة ضمن الثقافة الكردية لتلعب دور تاريخي كخيار بديل لنظام الهيمنة وحداثتها الرأسمالية عبر العصرانية الديمقراطية المستند إلى العيش المشترك و بناء المجتمع الديمقراطي و تحرير وتمكين المرأة واحترام وتقدير الطبيعة والبيئة كمكونات أساسية للحياة الحرة والديمقراطية والكريمة .[1]