(أنور باشا ملكاً لكردستان) عشية الميثاق الملي وسيفر!
حسين جمو – المركز الكردي للدراسات،
في 18-12-1919، انتشر خبر كالنار في الصحف البريطانية على صفحاتها الأولى بعنوان: “أنور باشا يتوّج ملكاً لكردستان”. لم يكن الخبر صحيحاً، ولم تعد الصحف في اليوم التالي إلى مناقشة تداعيات مثل هذا التتويج في ذروة الهزيمة العثمانية حيث كان الحلفاء يحتلون إسطنبول وتتقدم القوات اليونانية لاحتلال إزمير وتسيطر فرنسا على كيليكيا وإيطاليا على أنطاليا. إلى يومنا هذا ما يزال هذا الخبر العاري عن الصحة بلا أي سياق مفهوم. لكن الملفت أن ما جرى لم يكن مفاجئاً للصحف العالمية التي نشرت الخبر حيث أن الكرد ما زالوا شعباً عثمانياً، فيما أنور هو من أواخر العثمانيين في الدولة حين كان نجم مصطفى كمال يصعد كقائد تركي يخوض المقاومة ضد الاحتلال الأوروبي.
لم يكن قد بقي لأنور باشا أي حلفاء أقوياء في مناطق سيطرة مصطفى كمال، وفي وقت صدور خبر تتويجه ملكاً على كردستان، كان أنور يعمل كمبعوث لألمانيا مع الاتحاد السوفييتي، ويحاول العودة إلى الأناضول للمشاركة في المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الأوروبي. كان لأنور باشا بعض الأصدقاء في كردستان، من بينهم الشيخ سعيد الكردي (النورسي) الذي لم يكن له أي موقف إيجابي تجاه شخص مصطفى كمال، رغم تأييده للمقاومة الوطنية التي يقودها، ويتمنى لو يقود أنور معركة يطيح فيها بمصطفى كمال.
إذا كان مصطفى كمال يأخذ أحداً محملاً الجد كتهديد لقيادته سيكون أنور باشا في المقدمة. وعليه، فإن شائعة تتويج أنور ملكاً على كردستان مثيرة للخوف لشخص في موقع مصطفى كمال، ولو كان الأمر حقيقياً لعنى ذلك نهاية طموحه في قيادة المقاومة وعودة جديدة لأنور باشا. لم يكن لهذا الخبر (الشائعة) أي أهمية تذكر في كردستان، والشائعة المنشورة في الصحف العالمية لم تكن تهم أحداً سوى مصطفى كمال وبريطانيا.
إن التحول القومي في خطاب مصطفى كمال نحو الطورانية لم يتبلور كتيار سائد سوى بعد مقتل أنور باشا في بخارى على أيدي القوات السوفييتية بتاريخ 4 آب/ أغسطس 1922، ومن المرجح أن أنور باشا وهو على قيد الحياة ساهم في تبني مصطفى كمال خطاباً وحدوياً إسلامياً غير قومي، يهدف إلى تحرير البلاد من الخطرين الأرمني واليوناني لمصلحة الشعبين الكردي والتركي. ويمكن في هذا الإطار إضفاء هذا البعد التنافسي الشخصي بين أنور باشا ومصطفى كمال على الوثيقة التأسيسية للمقاومة الوطنية وهي الميثاق الملي الذي تم التصويت عليه في آخر برلمان عثماني بتاريخ 28-01- 1920، أي بعد 40 يوماً من شائعة تتويج أنور ملكاً لكردستان، وتم تبنيه من قبل الجمعية الوطنية الكبرى التي أصبحت بمثابة “برلمان المقاومة” في 17-02-1920.
يعد “الميثاق الملّي” آخر محاولة عثمانية للصمود بدولة تقتصر في عناصرها المسلمة على الكرد والترك مع جيوب عربية. ولهذا الميثاق حدود جغرافية تنتهي جنوباً بالموصل بما فيها كركوك. ونتج عن هذا الميثاق دستور عام 1921 الذي يستند إليه الكرد اليوم لتبيان الانحراف التركي تجاه الميثاق والدستور.
الواقع أن هناك الكثير من الالتباس والشكوك حول نوايا مصطفى كمال في تلك الفترة، فقد أظهر مواقف متفهمة – أو غير عدوانية على الأقل- تجاه القضية الكردية حتى عام 1923 كجزء من مستقبل تركيا.
لا يمكن التقليل من احتمال أن هذه الإيجابية الظاهرية كانت رداً على خطط خصومه في حكومة إسطنبول الأكثر سخاءً للكرد وخشيته من عودة أنور باشا. ففي يناير/ كانون الثاني 1920، حاول الباب العالي (حكومة إسطنبول) توحيد مختلف القوى التركية من المسألة الكردية ودعا إلى اجتماع خاص بالشأن الكردي. شارك في الاجتماع ممثل عن مصطفى كمال، فيما كان الأمير عبدالرحيم أفندي، ممثلاً للسلطان محمد الخامس. تذكر برقية بريطانية أنه أثناء مناقشة القضية الكردية “أيّد عبدالرحيم، كردستان المستقلة، المرتبطة مع تركيا بروابط سياسية واقتصادية وثقافية. وقال إن كردستان بوسعها أن تصبح أفضل ممر بين تركيا والمسلمين في بلدان القفقاس” (1). وألمح رئيس الوزراء في حكومة إسطنبول، الداماد محمد فريد باشا، قبيل توقيعه على معاهدة سيفر، أن “القوى الدينية الكردية تعادي مصطفى كمال بسبب الميول البلشفية للأخير”.
مع ذلك، شكلت القضية الأرمنية قاعدة مشتركة بين مصطفى كمال وعدد من القادة الكرد، خصوصاً أولئك الواردة أسماؤهم في قوائم المتورطين بالإبادة الأرمنية عام 1915. وتسامح القوميون الأتراك، قبل انتصارهم النهائي على حكومة السلطان عام 1922، في استخدام اسم كردستان لدى الكرد والموالين لهم ضمن رؤية بعيدة النظر للقادة الجدد لتركيا بتصفية العناصر المسيحية من كيان الدولة الجديد، وكان ذلك يتطلب أن تكون كردستان درعاً أمام القضية الأرمنية في الشرق مثلما أن “القومية التركية” باتت مصدر تعبئة نفسية في المعركة ضد الاحتلال اليوناني لإزمير ومحيطها.
لكن الجهاز القيادي للقومية الكردية كان يتحسس طريقه في مطلب الاستقلال التام ضمن دولة كاملة الأركان ومنفصلة عن تركيا، ولم يستمر هذا الاتجاه طويلاً بسبب ضعف المضمون السياسي للحركة الكردية التي تأسست وترعرعت ضمن أجواء التنافس مع القومية الأرمنية، وليس لها إرث تاريخي في البناء على التناقض مع القومية التركية، فكانت الأسس السياسية للقومية الكردية ما تزال، على حد تعبير الباحث كمال مظهر أحمد، “قومية غير مكتملة” (2) ، وهي بذلك لم تختلف عن أي قومية مجاورة في عدم الاكتمال من حيث ضعف البورجوازية والبنى الاجتماعية الحديثة، إلا أن عدم رعايتها من قبل دولة أوروبية (مثل الرعاية البريطانية للقومية العربية) جعل من شرط اكتمالها أساسياً.
يضاف إلى ذلك أن الحركة الكردية كانت تشهد مفارقة مدهشة، فقد أتاح ظهور حكومتين في تركيا، حكومة أنقرة تحت قيادة مصطفى كمال عام 1920 وحكومة إسطنبول تحت قيادة السلطان وحيد الدين، جرأة غير مسبوقة في الطرح الكردي لمطالبهم مستفيدين من التنافس بين الحكومتين على كسب التعاون الكردي. وفي هذه المرحلة كانت القومية الكردية تتطور في مسارين متباعدين جغرافياً، فمركز الحركة السياسية الكردية هو إسطنبول المحتلة حيث يقيم فيها معظم الزعماء الكرد، أما الجغرافيا الكردية فقد كانت عملياً تحت سيطرة مصطفى كمال، وليس هناك من موقف يؤكد ذلك أكثر من تعرض الوفد الكردي المكلف باستطلاع اتجاهات الكرد في كردستان بناء على طلب بريطانيا، للملاحقة قرب دياربكر على أيدي قوات مصطفى كمال، وكان الوفد يتألف من رؤوس الحركة الكردية، منهم جلادت وكاميران بدرخان وأكرم جميل باشا وآخرون، فاضطروا للتواري والعودة إلى حلب قبل إتمام مهمتهم.
إنها مفارقة لم تأخذ حقها في التحليل حقاً، فالقادة الكرد الذين يطالبون بتأسيس دولة مستقلة بالتحالف مع بريطانيا يقيمون في إسطنبول ولا يستطيعون زيارتها، وكردستان نفسها هي ساحة يتحرك فيها مصطفى كمال ورفاقه ضد هذه الدعاوى الاستقلالية.
حوّل مصطفى كمال النوادي الكردية التي انتشرت في الحواضر الكردية الرئيسية مثل آمد وبدليس، إلى مراكز للدعاية ضد بريطانيا وإلا تعرضت للإغلاق كما حدث مع النادي الكردي في دياربكر. فكانت الحركة القومية الكردية ذات نفوذ في إسطنبول ومجرّدة من القوة في كردستان. ولم يكن مصطفى كمال صاحب النفوذ الأوحد في كردستان، إذ مازال أنصار الاتحاد والترقي (أنصار أنور باشا) أقوياء ولهم حضور بين الوجهاء والقادة المحليين. وفي مرحلة لاحقة، كانت هناك محاولة يتيمة مؤكدة لكن بدون تفاصيل، لإسقاط مصطفى كمال عن طريق الاتحاد والترقي حتى عام 1920، لكنها بقيت محاولة نظرية وفق مراسلات بين الشيخ سعيد النورسي وأنور باشا الذي كان قد هرب إلى القوقاز ثم آسيا الوسطى.
رغم ذلك، كسب مصطفى كمال قاعدة كردية غير قليلة حين تم الإعلان عن الميثاق الملي. فشخصية عشائرية مثل موسى بك موتكي، هي بالتأكيد أكثر نفوذاً شعبياً مباشراً من معظم القادة الكرد في إسطنبول، وقد تم انتخابه نائباً في الجمعية الوطنية، ومن أشهر القادة الكرد في الحروب ضد روسيا. وموسى بك موتكي هو أشهر شخصية كردية تناولتها الصحف العالمية في تلك الفترة بسبب تحركاتها غير المشروعة ضد المجتمعات المحلية الأرمنية في منطقة موش ودافع عن نفسه أمام السلطان عبدالحميد الثاني شخصياً في العام 1889.
في خطاب له أمام نواب الجمعية الوطنية (البرلمان) انتقد مصطفى كمال بعنف السياسة البريطانية وجولة الرائد البريطاني نوئيل الذي قام بجولتين في كردستان بصحبة زعماء كرد عام 1919، فخاطب مصطفى كمال النواب بعد إعلان الميثاق الملي: “حاول الإنكليز سابقاً بشتى السبل خداع كردستان كلها وسلخها عن الأتراك والمسلمين الآخرين”(3).
وأظهر مصطفى كمال التزامه بفكرة الميثاق الملي المتمثل في وحدة الأراضي العثمانية وفق هدنة مودروس خلال نشاطه شرق الأناضول وكردستان حين كان الميثاق في طور التمهيد.
$مقترح تهجير الكرد$
بات تأسيس جمهورية أرمينيا (السوفييتية لاحقاً) في09-05- 1918 مصدراً لشائعات أثارت رعباً في المناطق التي كان يقطنها الأرمن قبل الحرب الأهلية التي انتهت بإبادة جماعية منظمة، فكانت المقررات الوحدوية لمؤتمري أرضروم وسيواس ضماناً ضد المطالب الأرمنية المتجددة بالولايات الست التي بقي سكانها من الكرد والترك فقط بعد الحرب والإبادة. ويعد الميثاق الملي إعادة توحيد لمبادئ مؤتمري أرضروم وسيواس، حيث تمت فيهما التضحية بالهويات الفرعية القومية لصالح وحدة الجغرافيا وحمايتها من أي اقتطاع أرمني أو يوناني. وقد تحدث المبدأ الثاني من مقررات مؤتمر أرضروم بوضوح حول مسألة الوحدة الجغرافية العابرة للقوميات الإسلامية (4):
“إننا نطرح مبدأ الدفاع عن النفس والتضامن المتبادل، معتبرين أن كل احتلال لأراضينا، مثله مثل كل تدخل في شؤوننا، هو نزعة موجهة نحو إنشاء الطائفتين اليونانية والأرمنية”.
تصدى مصطفى كمال لمقترح قدمه قائد الفيلق الثاني عشر الجنرال صلاح الدين في رسالة للجنرال كاظم قره باكير موثقة بتاريخ 13-08-1919. فقد أكد صلاح الدين في رسالته أن الأساس الذي يجب أن يقوم عليه التحالف الكردي – التركي هو “عدم السماح بتقسيم الأراضي بين الأكثرية الكردية والتركية والأقليات القومية المختلفة القاطنة على تلك الأراضي نفسها”. وعندما استشهد صلاح الدين برأي الأحزاب السياسية فإنه أجاز، في بعض الحالات، تهجير الكرد والترك من عدد من المناطق الإسلامية القريبة من أرمينيا وإخلائها للأرمن ولكن شريطة قبول الانتداب الأميركي على تركيا كلها.
عارض مصطفى كمال بشدة فكرة التنازل لأرمينيا، وكتب في رده إلى صلاح الدين: “كانت أكثرية سكان هذه المناطق حتى قبل الحرب تتألف من الترك وعدد ضئيل من الكرد كما يسمونه بالزازا، ومن عدد غير كبير جداً من الأرمن” (كمال مظهر أحمد – ص 206).
$القاعدة الاجتماعية لحرب الاستقلال$
إن مضمون الميثاق الملي كان بناء وطن مشترك للكرد والترك، وتعهد الموقعون أن تتمسك الدولة باستعادة كافة المناطق التي دخلت في عهدة الانتدابين البريطاني والفرنسي في سوريا والعراق. إن التحرك المشترك بين الكرد والكماليين لم يكن نابعاً من سذاجة سياسية صرفة، فقد كانت المخاطر لا تزال قائمة على الطرفين. لقد انخدع الكرد في النهاية، ليس فقط من جانب الكماليين، بل البريطانيين أيضاً، وبشكل متوازٍ، على أنه لا يجب إخراج الحدث من سياقه؛ فحين تشتت الكرد بين خيارات عديدة، ينبغي، خلال التقييم اليوم، عدم إغفال أن المستقبل كان مجهولاً للجميع، حتى مصطفى كمال، وكما يتضح في خطاباته في الأيام الأولى لحرب التحرير، لم يكن واثقاً من شيء، لا من النصر ولا من نجاة البلاد من الاحتلال اليوناني.
على أن ما لا يكن إغفاله أن التحالف بين مجموعات “الميثاق الملّي”، الكرد والترك، شكّل القاعدة الاجتماعية لحرب الاستقلال.
إن الفرضية المفقودة من المراجعات الكردية لهذه الحقبة – ما قبل انتصار مصطفى كمال في حرب الاستقلال- هي أن التخلي البريطاني عن الكرد، كان ثمرة انتصار موظفي”الهند البريطانية”، وعلى رأسهم المندوب السامي في العراق أرنولد ويلسون، وقبله برسي كوكس، اللذان عارضا بشدّة كافة خطط دعم دولة كردية من قبل “حكومة لندن” والتي يقودها لويد جورج مع وزير الخارجية اللورد كرزون.
ويبدو أن “الانكليز الهنود” قد أخذوا الزعيم الأبرز للكرد في إيران إسماعيل سمكو، نموذجاً قاموا من خلال تصرفاته بتكوين فكرتهم عن الكرد، وبالغوا في تصوير تصرفاته السلبية.
خرجت شرق كردستان (كردستان إيران) سريعاً من المخططات البريطانية إثر رفض الزعماء الكرد توطين اللاجئين الآشوريين، والأرمن، في أورميه. وكان للشيخ النقسبندي، سيد طه النهري، الذي كان يتحكم بسمكو آغا، دور كبير في إحباط هذا التوطين. وكان طه من أشد الكرد المعارضين لأي تسوية إيجابية مع المسيحيين، وأدى ذلك لاحقاً إلى انهيار التفاهم بين لجنة راوندوز، التي كان يتزعمها، وجمعية خويبون (1927 – 1946) (5).
بات جزء كبير من الحراك الكردي مقترناً بالمخاوف من مخططات بريطانيا إعادة الآشوريين والأرمن إلى مناطقهم، خصوصاً في كردستان الوسطى والشرقية. وهو ما حدث، على سبيل المثال، في 23-05- 1919، حين انتفض الكرد في شرق كردستان، وألقوا القبض على حاكم سلماس، وحاصروا مدينة خوي. “وقيل إن سبب ذلك انتشار إشاعة، بأن البريطانيين والفرس، على وشك إعادة اللاجئين المسيحيين إلى أماكنهم، وفي محاولة لمنع ذلك، استنجدوا بكل من (القائد العثماني) جاويد بك، قائد الفرقة الحادية عشرة في القفقاس، وحيدر بك ، والي وان، وهو من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي السابقين، وقد اشتهر بسمعته السيئة وعدائه للبريطانيين والمسيحيين” (6).
في النهاية، أسفرت خطط حكومة لندن، التي تنظر بالحد الأدنى من التعاطف إلى الكرد، عن توقيع معاهدة سيفر، بينما أدت سياسات “إدارة الهند البريطانية” إلى مؤتمر القاهرة عام 1921 التي رسمت معالم السياسة البريطانية في كردستان، ثم معاهدة لوزان عام 1923.
كان مصطفى كمال بحاجة لأن يقول للإنكليز إن السكان الكرد لهم “تمثيل كامل” في الجمعية الوطنية الكبرى في أنقرة، من أجل دفع بريطانيا إلى التخلي التام عن مساندة أي مسعى كردي. لذلك كان في المؤتمر الوطني الذي أقر الميثاق الملي، في عام 1920، يمثل الكرد 72 نائباً، وهو ما تفاخر فيه وزير خارجية حكومة المجلس الوطني، بكر سامي بك، أمام رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج، في مفاوضات مؤتمر لندن للصلح بين بريطانيا وتركيا، ربيع عام 1921، بهدف إلغاء مواد معاهدة سيفر. وكان بكر سامي شركسياً ومن الجناح اليميني المتطرف في حركة مصطفى كمال.
ولم تكن معاهدة سيفر مثالية خلال مقارنتها بالميثاق الملي، ففي الأخيرة ليست هناك دولة كردية لكن “كردستان المفترضة” كاملة الأراضي وأوسع مما كانت عليه، بما في ذلك الولايات الست المتنازع عليها مع الأرمن. أما معاهدة سيفر فقد أقرت دولة كردية على قسم صغير من الأراضي المفترضة لكردستان. الاختيار كان حرجاً للغاية بين الأرض الكاملة بلا دولة، أو التضحية بغالبية أرض كردستان مقابل دولة تحمل اسم كردستان.
في الجانب التحليلي والفكري، هناك أربع شخصيات كردية قرأت إما بانتقاد أو ارتياب، بنود معاهدة سيفر، أي البنود الثلاثة المتعلقة بالكرد في المعاهدة الضخمة التي تتضمن 433 بنداً. هذه الشخصيات المساهمة في الدراسات التاريخية هي: محمد أمين زكي، كمال مظهر أحمد، عبدالرحمن قاسملو و عبدالله أوجلان. وإذْ ليس محور الحديث هنا عرض هذه الآراء التفصيلية، فإن ما يستوجب التوضيح هو طبيعة المعاهدة نفسها، فبناء على فهم أي شخص لهذا المحفل الدولي الذي أقرّ المعاهدة الميّتة سلفاً، تتحدد طبيعة الاتجاه اللاحق، وتتحدد حتى خياراته في الحاضر إلى حدٍ ما.
انشغل الكرد، عموماً، باستعراض المواد الثلاث الخاصة بهم في معاهدة سيفر، وهي مواد تاريخية من حيث أنها تشكل أول تدويل للقضية الكردية، وهذا مكسب مهم إذا كانت المسألة مجرد تسجيل موقف وحضور في أهم مؤتمر دولي بعد الحرب العالمية الأولى وهو مؤتمر باريس للسلام الذي استغرقت مفاوضاته تسعة شهور بين 1919 و1920.
إن مراجعة خرائط “سيفر” تفسّر إلى حد كبير سبب وقوف قسم مهم من الكرد ضد هذه المعاهدة، وهو رفضُ له ما يبرره على صعيد القطاعات الكردية المستبعدة من “الدولة الكردية المقترحة”، ومن هذه الخريطة يمكن فهم لماذا عارض هذه المعاهدة غالبية القادة المنحدرين من بدليس، وان، موش، سرحد، ماردين، نصيبين، أورفا، سروج، ملطية، أديامان، مرعش و عينتاب، و لماذا أيدها قسم صغير من الكرد كاد يقتصر على بوطان وآمد وديرسم.
خريطة التأييد والتشكيك والرفض، تتلاءم إلى حد كبير مع الحدود الإدارية المقترحة للدولة الكردية في “سيفر”. فقد كانت المناطق الرافضة المذكورة أعلاه خارج حدود مشروع الدولة الكردية. فوق ذلك، خضعت المعاهدة لتعديل في اليوم نفسه من إقرارها، حيث أن المعاهدة لم تحدد وصاية دولة بعينها على مسار الدولة الكردية المقترحة، وإنما تركتها لعصبة الأمم، لكن سرعان ما اجتمع ممثلو بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وقسموا مناطق النفوذ فيما بينهم، وتشاركت كل من فرنسا وبريطانيا في تقسيم الدولة الكردية المقترحة بينهما إلى منطقتين: منطقة بوطان كدولة كردية مقترحة تحت الإشراف البريطاني، ومنطقة غرب كردستان ومركزها دياربكر كدولة كردية مقترحة تحت الإشراف الفرنسي. أما منطقة جنوب كردستان ومركزها السليمانية فبقيت خارج معاهدة سيفر، عملياً، وتحت الانتداب البريطاني المباشر على العراق.
وترك البند رقم 64 الباب أمام انضمام جنوب كردستان إلى دولة “سيفر” بصياغة غامضة وملتبسة تقول: “إن الدول الحليفة الرئيسية لن تضع أي عراقيل بوجه الانضمام الاختياري للأكراد القاطنين في ذلك الجزء من كردستان الذي لا يزال حتى الآن ضمن ولاية الموصل، إلى الدولة الكردية المستقلة”.
ودخلت مناطق كردية من خط ماردين إلى أورفا وعينتاب وعفرين تحت النفوذ الفرنسي المباشر تمهيداً لإلحاقها بالدولة المستحدثة (سوريا).
المعاهدة مشتتة جغرافياً وهي من جانب آخر تقسيم منظم لكردستان. لقد رُسِمت خريطة لكردستان المقترحة كدولة، تستثني منها مناطق واسعة للغاية، وسادت مخاوف وجودية على الكرد القاطنين خارج خريطة سيفر، فقد كان حتمياً بالنسبة لهم أن لا مكان لهم في الدولة الأرمنية المقترحة، وسيضطرون للهجرة أو التصفية، وبالتالي سيفتح الكيان الكردي الصغير الباب أمام تصفية منظمة للكرد خارج هذه الحدود، كما حدث بالضبط مع الأرمن حين تم إعلان جمهورية أرمينيا الشرقية.
كذلك ساد إجماع كردي قوي بأن لا يضعوا أنفسهم تحت الحكم العربي سواء في سوريا أو العراق. لقد كانت أجواء المجازر الكبرى تلوح في أفق هؤلاء الناس، وعارضوا هذه المعاهدة بكل قوة.
تطرقت المعاهدة مرة أخرى إلى الكرد في البنود 88 إلى 93، وهي البنود الخاصة بالمسألة الأرمنية. ومنحت المعاهدة الرئيس الأميركي وودرو ويلسن، برسم حدود الدولة الأرمنية المستقلة مع الدولة الكردية المقترحة. وكما صاغ أوجلان المعضلة ببراعة، فإن كلا المشروعين الأرمني والكردي هما مشروعان قوميان على أرض واحدة، لذلك حدث ارتياب كردي كبير تجاه “سيفر” لم تستطع الدعاية الإيجابية التي قادتها عائلتا بدرخان وجميل باشا، من تبديد الهلع الذي ساد في معظم أنحاء كردستان.
الآن، حين نبحث لماذا كان سيد عبدالقادر النهري مشوشاً، ولماذا اعتزل سعيد النورسي السياسة، وكيف انضم القسم الأكبر من الكرد إلى مصطفى كمال في حرب التحرير، ولماذا اقتنع القسم الأكبر من الكرد بالدولة المشتركة ثنائية القومية مع الترك، وكيف شارك كل من يوسف ضياء بك و حسين عوني بك وحسن خيري بك و شاهين وبوزان بك، إلى جانب كافة نواب كردستان في مجلس الأمة الكبير، في إرسال برقية إلى لوزان وتفضيل الحكم الذاتي القائم على الميثاق الملّي على كامل مساحة كردستان التي رسمها الكرد في ذلك الحين.. كل هذه الأسئلة جوابها في معاهدة سيفر الإشكالية والمرفوضة.
لمعاهدة سيفر حكايتها غير الرسمية أيضاً. فقد جاءت في سياق الصراع بين حكومتي أنقرة واسطنبول. كان العرض الذي قدّمته أنقرة، بزعامة مصطفى كمال، متدرجاً. في البداية تم عقد مؤتمر أرضروم بتاريخ 23-07-1919، ومؤتمر سيواس في 01-07-1919. كان الحضور الكردي في أرضروم أقوى، وحسب الباحث روبرت أولسون في كتابه تاريخ الكفاح القومي الكردي، فإن الغلبة كانت للكرد في مؤتمر أرضروم وضمّت الهيئة التمثيلية تسعة أعضاء، ثلاثة منهم – على الأقل- من الكرد، هم موسى بك موتكي، و صلاح أفندي من بدليس، و فوزي أفندي من أرضروم. لا يذكر أولسون إقرار الحكم الذاتي في المؤتمرين، لكن هذا الأمر لا شك فيه وضمن وثائق المؤتمر التي تناقلها المشاركون الكرد في ظل حملة لإقناع أقرانهم بالمساعي المشتركة الكردية التركية. لكن أولسون لا يبالغ في الخلاصة المكثفة لدراسته وهو أنه “لولا الدعم الكردي فإن الحركة القومية التركية ما كانت لتحقق النجاح الذي حققته”. عموماً، تم تتويج مقررات هذين المؤتمرين في “الميثاق الملّي” بتاريخ 28 كانون الثاني/ يناير 1920، أي قبل سبعة شهور من معاهدة سيفر الموقّعة في 10-08- 1920.
إذاً، حتى 28-01- 1920، تاريخ إقرار الميثاق الملّي، كان مصطفى كمال وشركاءه الكرد في موقع الأفضلية من حيث بناء تحالف قائم على مصالح مشتركة ومصير مشترك. إن هذه الجهود كانت تهدف، من وجهة نظر كردية، إلى توحيد كردستان كاملة، وربطها مع الأناضول في دولة مشتركة بدلاً من دولة صغيرة تتضمن أقل من ربع كردستان وستتحول عاجلاً إلى مركز لتهجير الكرد إليها.
يجب عدم إغفال عامل ديني واقتصادي مهم للغاية، وهو أن حلفاء مصطفى كمال، بدون استثناء، كانوا يشكلون جبهة وحدة ضد أي مشروع يتضمن كياناً سياسياً للأرمن في أي من الولايات الشرقية. بهذا المعنى، كان القسم الأكبر من الكرد يرى في مقترح الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، برسم حدود الدولة الأرمنية، عدواناً أميركياً، وهو ما عبّر عنه الشيخ سعيد النورسي في لقاء له بمسؤوين أوروبيين، حين تحدى القوات الغربية بأن تطأ جبال كردستان.
لا بد من التنويه إلى أن المناقشات الموازية في برلمان أنقرة كانت أكثر وضوحاً من البنود الستة للميثاق الملي، ولعل هذا من جوانب القصور المهمة التي ربما أقنعت مصطفى كمال ورفاقه، لاحقاً، بالتلاعب بها دون أن يحشروا في الزاوية.
كان الميثاق الملي تجسيداً للوحدة الكردية التركية. وتضمنت النقاشات اللاحقة لها بإدارة ذاتية لكردستان ظهرت بوادرها العملية في دستور عام 1921. على هذا الأساس خاض الجانبان حرب التحرير ضد الاحتلال الغربي بغرض تحرير الأناضول وإيجة وإعادة توحيد كردستان بعد تحرير أجزائها المحتلة من قبل بريطانيا وفرنسا.
في المقابل، كانت المشاريع التي يعدها الجانب البريطاني، وحلفاءه الكرد، ركيكة للغاية، ومشتتة بين دوائر النفوذ البريطاني في لندن والهند واسطنبول، وأضيف إليها لاحقاً مكتب الشرق الأوسط في القاهرة في03-03-1921.
كانت كل دائرة تطرح فكرة مغايرة على البيروقراطية السياسية البريطانية. وكان الإجماع الوحيد ربما بين هذه الدوائر هو إستثناء كردستان الشرقية (إيران) من القضية الكردية وإبقائها تحت السيادة الفارسية.
إن مجمل المقترحات البريطانية تكاد تكون غير قابلة للدراسة لتشتتها الكبير والتناقضات الحادة بين رؤى قيادات الهند ولندن وبغداد والقاهرة واسطنبول. إنّ كتاب العالم الروسي ميخائيل لازاريف “المسألة الكردية 1917 – 1923” يعكس في عدة فصول غياب الإجماع البريطاني على أي سياسة تجاه الكرد، واستمر الأمر إلى مؤتمر لندن في 02-02-1921 ثم القاهرة في03-03-1921 حين فتحت لندن الباب أمام اتجاه تصالحي مع الحركة الكمالية، والاكتفاء بجنوب كردستان من دون منحها أي استقلال.
كان هناك توافق بريطاني آخر، غير منح كردستان الشرقية للحكومة الإيرانية، وهو إعادة حكم العائلة البدرخانية إلى جزيرة بوطان، من دون الخوض في توضيح الوسائل، لكنها وردت في مراسلات الرائد ويليام نوئيل و نائب وزير شؤون الهند أرنولد ويلسون في مذكرات عديدة للخارجية البريطانية.
كان الميثاق الملّي قوياً في بدايات إعلانه لدرجة لا يترك مجالاً لأي سياسة بريطانية ركيكة تجاه كردستان. وبفضل تقاطع دولي للمصالح، أقنعت بريطانيا وفرنسا حكومة السلطان في اسطنبول، المعادية للعمل الكردي التركي المشترك في الميثاق الملي، بالتوقيع على معاهدة سيفر في 10-08- 1920. كانت المعاهدة بمثابة رد من اسطنبول وبريطانيا على اندفاع مصطفى كمال لكسب القوى الرئيسية في كردستان، ولإفشال الميثاق الملي.
لكن، هذه المعاهدة “الجوفاء” على حد تعبير العلامة محمد أمين زكي، والتقسيمية بتعبير أوجلان، والمزهرية المحطمة وفق كمال مظهر أحمد، قد “ولدت ميتة أصلاً” وفق تعبير عبدالرحمن قاسملو. وتوضح موتها سريعاً بعد إقرارها بشهور فقط. كما أن الأخطر من كل ذلك، هو ما حدث في ربيع 1920، أي قبل المعاهدة بشهور، حين غيّرت بريطانيا استراتيجيتها في ميزوبوتاميا وكردستان، وذلك بإلغاء قوات المشاة والاعتماد على القوة الجوية. إن هذا التحول أفرغ معاهدة سيفر من مضمونها حيث أن بريطانيا بعد هذا التاريخ لم تكن مستعدة لإرسال أي جنود، وكذلك سرعان ما تراجعت إيطاليا عن التوقيع وأكدت أنها لن ترسل جندياً واحداً لتطبيق معاهدة سيفر.
إلى جانب ذلك، عارض وزير شؤون الهند، أدوين مونتيغو، معاهدة سيفر بشدة, وحين نشر خطاب استقالته من منصبه بتاريخ 10-03- 1922، فإن من بين الأسباب التي برر بها استقالته هو المصاعب الخطيرة التي تواجهها وزارة الهند من المسلمين بسبب هذه المعاهدة (7).
في 10-08- 1920 جرى الإعلان عن معاهدة سيفر. ينبغي عند قراءة المعاهدة، وبدلاً من الاندهاش للرفض الكردي الواسع لها، النظر إلى الحدث في سياق تتابعي. لقد سبقها “الميثاق الملّي”، وهو نظرياً بالنسبة للقسم الأكبر من الكرد حينها، أفضل من مقترح غير جاد كلياً (سيفر) لتأسيس دولة كردية لا تشمل سوى 20 في المئة من مساحة الانتشار الكردي المفترضة.
والحال كذلك، كيف يمكن لزعماء “وان” و” بدليس” و “ماردين” وسهلها الجنوبي و “نصيبين” و “أورفا” و سهل سروج، الدفاع عن معاهدة تقصيهم وترميهم إلى المجهول؟ هذه الأسئلة تمهد لمعرفة كيف وصل الأمر إلى الانتقال الكردي من “سيفر” إلى “لوزان” بشكل سلس، وفي ضوء ذلك يمكن أيضاً فهم دوافع زعماء كرد من أمثال شاهين وبوزان بك من كوباني، وحسين عوني وحسن خيري من شمال كردستان، في تأييد مشروع الحكم الذاتي لكردستان الكاملة في “الوطن المشترك” بحسب اجتهادات تفسير الميثاق الملي، وذلك قبل أن يتبين للجميع أن ما بني في لوزان لم يكن مجرد نقض ل”سيفر”.. بل أخطر من ذلك بكثير، كان تحطيماً للكفاح المشترك و”خيانة تاريخية” للميثاق الملّي، وتكريساً لتقسيم كردستان بين تركيا والقوى الدولية، وهو ما أدى إلى فرز أخير كردياً: فقد انكشف “الخونة” بعد لوزان، و هم الذين بقوا في صف الجمهورية التي تحولت إلى كيان طوراني في حرب مفتوحة على الكرد. في المقابل، احتشد الكرد من أنصار “سيفر” وأنصار “الميثاق الملي”، في جبهة مشتركة، واضعين حداً لانقسامٍ بدأ منذ عام 1918، و حشدوا معاً كل القوة الكردية المتبقية، و كل ذخيرة روح المقاومة منذ الخراب الأخير لكردستان بدءاً من عام 1914، فخاضوا المعركة الأخيرة الفاصلة في 15 شباط 1925 والتي انتهت بهزيمة ساحقة للكرد أسفرت عن فراغ ثوري طويل استمر حتى إعلان الكفاح المسلح عام 1984.
اللافت في المعركة الفاصلة عام 1925 أن أحداً لم يطالب الجمهورية بتطبيق “سيفر” رغم أن الشعار كان استقلال كردستان، لأن “سيفر” كانت ميتة كردياً أيضاً. وهناك مقارنة ممكنة إذا راجعنا الصفوف المتقدمة في الثورة. فرغم أنها كانت تعبر عن اتحاد التيارين الكرديين، الميثاق الملي وسيفر، فقد كان القادة في غالبيتهم من معارضي “سيفر” وأنصار “الميثاق الملي”، على رأسهم الشيخ سعيد بيران و خالد بك جبري و يوسف ضياء باشا و حسن خيري بك و غيرهم.
الخلاصة أن كلاً من الميثاق الملي وسيفر نتاج سياقين في المواقف التركية تجاه التدخل الأوروبي في الأناضول واحتلال إسطنبول وإزمير. ولم تكن لوزان، في مضمونها، تعبر عن شيء أكثر من مقايضة في التنازل؛ تنازل الأتراك المنتصرين في حرب التحرير عن الميثاق الملي، مقابل تنازل الدول الأوروبية عن معاهدة سيفر.
حتى اليوم ما زال الميثاق حياً في السياسة التركية لكن على شكل طروحات إلغائية متطرفة واحتلالية، رغم أن حل القضية الكردية في تركيا اليوم يكمن، كما يقول الأكاديمي التركي مصطفى بوداق، في استعادة الروح الأصلية للميثاق الملي.
$مراجع إضافية:$
(1) لازاريف – المسألة الكردية – دار الفارابي – ص 312
(2) كمال مظهر أحمد – كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى – ص 176
(3) كمال مظهر أحمد – مرجع سابق – ص 202
(4)كمال مظهر أحمد – ص 217
(5) للمزيد حول موقف سيد طه النهري ينظر: حسين جمو – التكايا المسلحة .. التاريخ السياسي للنقشبندية الكردية
(6) جرجيس فتح الله – يقظة الكرد – ص 163
(7) نشرت الرسالة في صحيفة: Leeds Mercury – Friday 10 March 1922
[1]