*رستم محمود
بالنسبة لعدد من الشعوب الراسخة في تاريخ الشرق الأوسط، فإن اتفاقية لوزان التي وقعتها تركيا الحديثة مع دول الحلفاء بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وتمر ذكراها المئة هذه الأيام، تعني فعليا نهايتهم كأمم وشعوب. فقد فككت كياناتهم وبعثرت حضورهم، وسحبت كل مقومات الحضور والسيادة والسلطة وحقهم في التحكم بمصائرهم، وحولتهم من جماعات مشيدة لإرث تاريخي وهوياتي جمعي وانتشار وامتلاك جغرافي شاسع، إلى مجرد أقليات، وغالبا غير معترف بها.
في الحقبة نفسها، كانت سايكس بيكو مشروعا عالميا واستراتيجية سياسية كبرى لإنهاء الحلم العربي الذي حمله الآباء المؤسسون للقومية العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، المتمثل في تشييد كيان/دولة عربية تشمل كامل الحيز الآسيوي من العالم العربي، وفتتت الجغرافيا العربية إلى مجموعة من الدول، كما كانت معاهدة لوزان إيذانا بإخراج عدد من الجماعات والشعوب من كامل المشهد الإقليمي والحياة السياسية وتوازن القوى في منطقتنا، مثل الكرد والأرمن والسريان واليونان الشرقيون والجركس واللاز والشيشان.
تعددت أشكال الإخراج، لكن النتيجة ظلت واحدة، هي تجاوز حركة التاريخ وقطار المستقبل لهذه الشعوب. فالكرد، مثلا، أُرسلوا إلى مساحة النكران المطلق لوجودهم، والأرمن تم التغاضي والتجاوز عن الإبادة الجماعية التي طالتهم قبل سنوات طويلة، وحجمت وجودهم ومساحة توزعهم إلى ما دون العُشر عما كانوا عليه. السريان والآشوريون واللاز صاروا مجرد طوائف وأقليات دينية متناثرة هنا وهناك، اليونان الشرقيون فقدوا جغرافيا بلادهم الأصلية، وغدوا محكومين بشرط الاستئصال، الشركس والشيشان باتوا تشكيلات لغوية واجتماعية فحسب.
حدث ذلك بالضبط لأن معاهدة لوزان كانت بمثابة إنهاء وقطيعة مع المشروع المركزي للحرب العالمية الأولى، فيما خص المسألة الشرقية بالتحديد. فقبل وأثناء الحرب، كانت دول الحلفاء تعتقد أن الإمبراطورية العثمانية لا يمكن الشفاء منها إلا عبر تفكيك طبيعتها الشمولية/الإمبراطورية، ومنح سكانها المحليين الحق في تقرير مصائرهم، حسب جماعات وشعوب تجد في نفسها وحدة حال ما.
نجحت اتفاقية سيفر (1919)، التي أنهت الحرب، في رسم بعض ملامح ذلك التوجه. فإلى جانب العرب، وجد الأرمن والكرد واليونان الشرقيون أنفسهم موعودين بالاستقرار على جغرافيات واضحة ودول مستقلة موعودة، معترف بها من المجتمع الدولي ومحمية منه، فيما كان الآشوريون/ السريان والجركس والشيشان يتوقعون مواقع خاصة ضمن الدول التي صاروا جزءا منها.
عاملان عارضان أعادا عقارب ساعة التاريخ إلى الوراء: حرب الاستقلال التركية (1919-1923)، إذ تمكنت قيادة أتاتورك والنُخبة المحيطة به من إعادة تشييد الذات التركية، سياسيا وعسكريا.
وتاليا مواجهة التوافقات الدولية بشأن تحجيم تركيا إلى أبعد حد. العامل الآخر كان تصاعد الشيوعية عقب نجاح الثورة البلشفية في روسيا، وتاليا تفاقم رغبة الدول الأوروبية المركزية في جذب تركيا وأتاتورك وعزله عن الموجة الشيوعية بأي ثمن، بما في ذلك التنازل عن اتفاقية سيفر نفسها.
بإقرار لوزان، تحولت تركيا الحديثة إلى فاعل جيوسياسي بالغ السطوة، يتخذ لنفسه هوية قومية مطلقة، وفارضة إياها على مختلف دول المنطقة؛ سوريا والعراق وإيران على الأقل.
فدول الغرب التي أخرجت تركيا من التوازنات الدولية، أبقتها وقبلت بها كقوة سياسية إقليمية متجاوزة لحدودها الجغرافية، قادرة على فرض نموذجها ورؤيتها وفهمها لقضايا الأقليات على كامل محيطها. وحسب ذلك، لم يكن إخراج هذه الشعوب/ الجماعات من الفضاء السياسي والجغرافي داخل تركيا فحسب، بل من كامل المنطقة. ثمة وثائق وأحداث لا تُعد، تكشف كل واحدة منها كيف أن تركيا حددت سياساتها واستراتيجيتها تجاه الدول الإقليمية حسب التزامها بهذه القواعد. والدول والأحداث التي شذت عن ذلك، كانت محل عدوان واضح من قِبلها، والأحداث في سوريا والعراق وليبيا طوال العقد الماضي أكبر شاهد على ذلك.
حسب المسار الذي رسمته لوزان، تأسس في منطقتنا سياق تاريخي مختلف عما حدث في أوروبا، وكامل العالم تقريبا، في مرحلة ما بعد الإمبراطوريات التقليدية. فبينما عاشت مختلف جهات العالم نوعا من المساومة بين الجماعات والشعوب المركزية الكبرى، ونظيرتها الأصغر والأكثر هامشية، فتأسست دول يافعة خاصة بالجماعات الصغيرة، وتضمنت الدول الكبرى اعترافا دستوريا وأقاليم محلية تضمن حقوق الجماعات التي لم تحصل على دول خاصة بها.
حدث العكس تماما في منطقتنا، وبسبب لوزان، فقد ظلت تركيا كيانا إمبراطوريا، وإن بقوة وحجم أصغر. لكن آلية وبنية النزعة التي هندستها وحكمتها كانت إمبراطورية تماما؛ لا تعترف بالشعوب والجماعات التي بداخلها، ولو كانوا ملايين البشر ويشغلون مناطق جغرافية تزيد على مساحة عدد من دول المنطقة مجتمعة.
لا تعترف بتاريخها القريب، كالإبادة الجماعية التي مارستها بحق شعب كامل، والجغرافيا والتغيرات الديموغرافية التي فرضتها على مناطق وشعوب أخرى. تنكر التنوع والشراكة، وتعتد بتاريخها الإمبراطوري وتعتبر نفسها امتدادا له بكل شكل. وفوق ذلك تفرض هذا النموذج على كل محيطها، وتحدده كشرط للعلاقة الحسنة معه.
بناء على نموذج تركيا الأولي، حددت اتفاقية لوزان النمط النهائي لشكل العلاقات الإقليمية، كفضاء يسير حسب علاقات وتفاعل الكيانات/ الدول، الناكرة لكل الجماعات الأهلية والقومية والمناطقية غير المركزية بداخلها. ولأجل ذلك بالضبط، فإن #معاهدة لوزان# لم تكن فقط أداة للهزيمة التاريخية لعدد من الشعوب والأمم، بل انهيار كلي لكل أمم ومجتمعات المنطقة، لأنها صارت فضاء خاليا من التنوع والتركيب والتوازن، أكثر نزوعا للقيم والمخيلات الواحدية المطلقة، والمغلقة.
*مجلةالمجلةاللندنية.[1]