احمد حسيني: السيرة، في عامودا ولدتُ، وفي السويد، سأموت
اتحاد مثقفي روج آفايي كردستان
في عامودا ولدتُ عام 1955، وفي السويد سأموت. ولا أعرف أين سأُدفن. شعري ينحو إلى هذا السؤال، ولن ينتهي به.
في السبعينات، كنتُ مع والدي في بيروت: منزل من الخشب والتنك، فقرٌ بليغٌ، تركنا عامودا، إلى بيروت.. والدي الشيخ توفيق، بهيئته الشديدة الشبه ب جاك بريفير، السيجارة المشتعلة على الدوام، في زاوية الفم، وعلى الدوام هي في عقبها. دخل منزلنا، ومن يديه الرجفتين قدّم له والدي الشاي:
تفضل، سيدا.
من هو؟ أسأل.
شاعر الأكراد “جكرخوين”.
سألتقي به لمرتين متتاليتين، أتذكر واحدة منها: كنا مجموعة، قصدنا منزله في القامشلي، كانت يدُه محترقةً، وكان برماً نزقاً، قال: يمكنكم البقاء لنصف ساعة فقط، وعندما فَرِحَ بنا، قال: يمكنكم البقاء ساعة أخرى.
***
حاولتُ تفجير الألم في شعري؛ قلتُ: ولتكنْ هذه اللغة هي لغتي الأم، ولتكنْ في فضيلة اكتشافها الجديد في كل نصٍّ جديدٍ لي، لكن كيف سأتمكن من شدِّ الآني الهارب، إلى اللحظة الطائرة في فضاء حرية مفقودة في الروح الكردية منذ أكثر من مليون سنة؟.
كتبتُ، لعلّني لا أفلت جدوى وجودي في الكون، بأن لا أكون ثقيلاً، ضيفاً غير مرغوب به، أغادر دون أثرٍ.
***
في غرفة إبن عمي “محمد نور”، المطلة على الهلال النحيف لصوت الآذان، عرفتُ الشعر.
في دكان “محمدي أسعدو” أجدتُ قراءة الشعر الكردي.
في صومعة “صدَقَة” خطفتني النشوة الإلهية، وهي تعبر قصائد مولانا القطب “الجزيري” بصوته الأشقر، وهو يقرأ قصائده بصوته مدبوغاً بالوجع والتبغ.
بدأتُ أكتب الشعر، وأنا في يقين الثأر الشعري الكردي من وفاة شاعرين كرديين في حادثتين هما في الألم الكثير: “فصيح سيدا”، الذي تفجر به بابور الكاز فألهبتْ روحَه الرقيقةَ الشاعريةَ وهو في العشرينات من سنينه، وفي السنوات الأولى من دبيب الشعر الكردي على أصابعه. فاحترق، فمات.
“كسرى عبدي” شاعر آخر كان على جروف اللغة الكردية، يستكشف دروبها، كان على الحافة في الوصول إلى النشوة، إلى اللغة التي هي وليدة نصّها، وليدة فضيلتها البكرالأولى: عبور الألم شعرياً، لكن لم يمهله الزمن المتفجر وهذه المرة على هيئة إسطوانة غاز هرع لنجدةِ جيرانٍ يحترقون في إنفجار الإسطوانة، فاحترق هو، وظلَّ في البعيد، في تلك الأعالي، يهرع لنجدة الجيران.
أأنا سليلُهما الأليم؟!
في غرفة أخي الموسيقيّ “سعيد” تتصقّل لغتي موسيقياً، ويتسرب أنين أوتاره إلى كتاباتي برفقة صوته المجروح. وتالياً تتصقّل مناخاتي مروراً في أنابيق سليم بركات الشعرية.
***
أحاول مروراً من خلال الخيط النحيف للغة الكردية، أن أشدّ حاضري ووجودي في الإستمرار الفيزيائي، أعني أن أستمرَّ في الحياة، وتالياً لأسألَ: مادور لغتي الشعرية في الخلْقِ والإبداع، في الحياة والموت؟
الشعر الكردي، تناقلَ من حجرة إلى أخرى، شفاهةً، وإنْ دُوّن، فهو تدوين الفقهاء على هوامش كتبهم الفقيرة، نقلاً عن شيوخهم الأنيقين. جكرخوين هو المدّون الكبير، و”العابر الكبيرُ” بنعالٍ من أوائلِ القرن العشرين من عامودا، إلى السويد.
***
ثمتَ ماهو إحساسٌ طاغٍ وثقيلٌ: القراءة بالعربية.. وكذا التكوين الثقافي، والكتابة بالكردية، كيف يمكن محاورة لغتين، ربما هما في النقيض الكامل من حيث القواعد والشحنة والبلاغة. كتبتُ قصيدتي وأنا إبنٌ لهذه الموازين.
انتقل الشعر الكوردي في لهجتنا من شاعر إلى آخر، لكن عبر دم جكرخوين الذي يجري في عروقنا، دون إضافة دم شعري جديد
الضروري الآن في الشعر الكردي الكرمانجي تحديداً، هو إخصاب الروح التي جفّت من قراءاتنا بالعربية، إخصاب الروح والمكان والألم، بمفردة هي عذاب الكرد فيها،هل فعلتُ في شعري ذلك؟.
***
أمرٌ محيرٌ أن تكونَ كردياً، وفي هذا العالم! أمرٌ محيرٌ أن تكون شاعراً كردياً!.
الأنين لمجروحٍ في الشعر الكوردي، منذ مليون سنة
ستوكهولم 2005
المصدر: اتحاد مثقفي روجآفايي كردستان[1]