=KTML_Bold=جزيرةٌ مُخضَّبةٌ بحنَّاءِ التَّاريخِ وبإثمدِ الطّبيعةِ=KTML_End=
صحيفة روناهي
عبد الله رحيل
هناكَ من بعيدٍ على امتدادِ الأفقِ، تنامُ فتاةٌ ملءَ محاجرِها، بينَ ربوعٍ متعدّدةٍ من فصولِ الخريفِ، والرَّبيعِ. تنسُّمها نسائمُ الأرضِ؛ فتتركُها غافيةً بينَ أحضانِ المجدِ، والكبرياءِ، وتتعشّقُ عيناها حكايا التّاريخِ الطويلِ في سُرَرِ الوجودِ، بينَ ضفتيِّ الفضاءِ الواسعِ، فترمي في محيّاها الطلقِ النَّبيلِ أنواعاً عديدةً من الورودِ، والأزاهيرِ مختلفةِ العطرِ، والسّحرِ، بينَ الأوديةِ، وبينَ الأَغوَارِ والأنْجَادِ والوِهادِ، وفي حقولِ العوسجِ البريَّةِ، هكذا هي حينما يغازلها الفرات ليلا، ويدني من جبينها السّلام، ويدثّرها بدثار الحبّ والوئام، ويلفّها بسور من الودّ، ومن الهوى، ويسّرح ضفائر شعرها الليلكي بسحرة من غياب القمر، فيمتطي ظهر أديمها الخصيب، تاركا الجبال العالية، كثعبان تتمايل في المنحنيات؛ حتى تتلاشى في عمق السهول، خلف حقول القمح الأصفر الغيور، من عشاق الأرض كلها، ويساير عشقها الأبدي، خابورٌ في منحنياته ينبت الصفصاف والشّجر، فكأنّه طريق نور مضيء في عتمة ليل شتوي، ويتدنّى في خفر إلى حضن محبوبته؛ فتغفو على أنغام رعاته أجيال كثيرة متعددة من الطيور والحجل، وقد توسّد الإنسان عنده منذ القدم، وسادة حبّها، ووجودها، وديمومتها عبر التّاريخ والزّمن، فكم من عاشقٍ، ظلّ ثاوياً في مرابعها، وكم من مظلوم احتمى بأغوار مقلتيها!
فيتركها الفرات حثيثا نحو مبتغيات مياهه، فيدوَّن لها رسائل التّمازج والتّوافق الإنسانيّ دجلةُ الخير، قادما من أعالي زاغروس، ومن الأناضول، متشوِّقا إلى محبوبته، الذي تفجّر لمياهه الصّخرُ الصَّلد عيونًا عديدة؛ فيثور قاصدا وجهها متعشّقًا روحها في ثورة الحبِّ، ولذة اللقاء، فلا تأويه أرضٌ غيرها، ولا تروي عطش حبّه غير لثمة من شفتيها اللمياوين، فأناخت له قيم المجد، وألبسته عباءة الكبرياء.
وهناك على المدى البعيد جنوبا، تتربع جبال بين الأفق، في ملتقى السماء والأرض، كشيوخِ مسنّةٍ ثقفت الأزمنة، والتاريخ، وحازت حكمة العدل في قوانين الطبيعة والخلائق، صامتةٌ في مهابة جليلة، تحادث البدور والنجوم، حول قصة عشقها للجزيرة الغنَّاء، في فصول مختلفة من مسرحية حياتها، فآثرت المكوث هنا بين أحضان الحياة، وبين خصائل النبت المؤنس لوحوش البريّة، لا يتنفس الصبح فيها غير نسيمها، رافضا الاستحمام بغير ماء غيثها الطّاهر النبيل، محدّثةً الأنام عبر الزمن، عن ملاجئ محتميها، فكم من مظلوم ترك أرضه، ولجأ إليها في حالك الأيام، أسند جسده إلى صخورها، وقد ألفها؛ فبنى فيها حضاراتٍ، ورعى الأغنام والطّيور، والتّفت حول سفحها الشعوب، متآلفة مُحبّة، مبعدة الاختلاف والتنافر، وقد امتزجت في تألُّه الأرض مع الإنسان، ومنشئة قوانين الحبِّ للتّاريخ.
وعلى آذان المساجد، وعلى ترانيم النواقيس، وفي بيعٍ، وصوامعَ، تؤدِّي المخلوقات عباداتها للموجد القدير، في ألفة ومحبّة وقبول، وضمن خيمة السلام، وحبِّ الآخر، فلا معتديَ غريباً، ولا رافضَ حاقداً، ولا منافقَ يبوح بالفتنة وبالتفرقة، هي رواية ممتدة للحبِّ، والوئام في ألفة وأُلّافٍ، تتبادل هنا عبارات التكريم، والترحيب في لغة الحبِّ الخالد، فلا ريح غريبة، تبدِّد سعادة اللقاء والأيّام، كسوسنة وصفصافة، جمعتا بين أغصانهما أعشاش الطيور، المختلفة، تتناغى بُكرةً وعشيًّا، تطلب الصباح نشيطة بين حقول القمح، وبين ضفتي الأنهر العذبة النبيلة؛ لتعود مساء إلى فراخها، تلفُّها بدفء أحلامها؛ فتخلد في نوم عميق، لا يكدر صفوه غبار المفرِّقين.
عَودٌ على بدء، فتاتي تنام ملءَ محاجرها، وتسهر الخلائق، تعيد قصص مجدها في سِفَرٍ متعددة من الوقائع والحقائق، فتنتشر قصص التآلف المجتمعي بين سحر الطبيعة الآسر، يختلفون، ويتوافقون في وصفها، ويعطونها أفضلية الأرض في حبِّها للإنسان، بمعتقداته وطبائعه وآرائه جميعًا، وفيما يُعشق ويُهوى، وإلى أيِّ جماعة ينتمي، فالكلُّ عاملٌ بين حقول القمح، وممتزجٌ في سنابل الهوى والغرام، فيكتبون عنها قصص القبول التاريخيّ، حتى صارت أمثولة الدّهر، ومهوى أفئدة كثير من البشر والألسنة.
جئت من بعيد الأزمنة، ومن التاريخ السحيق الموغل في القدم، حاملا قُلوعي، مسافرا بين صحراء الأرض، ململمًا صدى نفسي، علّني أشمُّ عبير أرض من الطهر، ومن القناعة والقبول؛ فرأيت فتاة، كدّرة تاجٍ بين الأديم، تلاعب الهداهد والحمائم، حاملة سلّتها؛ فتملؤها من زهور الأنهر المستدامة العذبة، وقد تكاثرت فيها مخلوقات الحياة، أسندت ظهري المتعب من البحث في أرض مطمئنة، أُكمِل فيها جلَّ أحلامي، ألقيت السلام والتحية، فردّت تحية ملؤها البسمات والحبور، من أنتِ يا…… من أنتِ؟
فتمتمتْ: الغريبُ لا يعي حكايتي، ولا يدري أصول تاريخي، ولا أعراف من قطنوني،” أنا الجزيرة الخضراء الخيّرة، ذات الأخاديد السّاحرة، والأرض الغنية، والوفيرة الخصبة، تقبِّل أشعة الشمس، وتلقي حبورها للكون والبلدان، ويستقيم فيها ضوء القمر، ويهدل الحمام في منحنياتها، ويختار السنونو دور أهلي لفراخه، وأنا ذات العيون النُّجلِ، وذات القلب الكبير، الذي يسع مختلف الحكايا والمخلوقات، وبشرتي سمراء ساخنة، قد عتقها تعاقب السنين، وكحّل جفنيها توالي الليل والنهار، وأنا موطن القمح، وبلد القطن، ومهوى بلدان الذهب الأسود، ومرابع الأقوام المتحابّين، والفضاء الساحر النشط للأطيار المهاجرة، وسماحة الكرماء، وعفو العظماء، ومنبت الأصل والشيم، وأنا مجلس لعليّة الأقوام، احتويت الحضارة والبداوة، ومني انتشرت رُقَمُ التاريخ والقدم، ومني انبعثت خصال الإرث والأصالة، واحتويت أجناس البشر من أول البداءة… فهل عرفت من أنا؟
وحين جاوبتني، وعرفت من تكون؟ عمَّت قشعريرة أرجاء جسدي، وانتابني شيء من الذهول، قسّم أعشار قلبي المنهك، وحسبت أني ألثمها مثل الأطفال، وأني أكتب قصتها في سفر الأزمان، وأنثر شعر ضفائرها حول الغيم مثل الندمان، وأروي حكاية محبّتها للريح، وبين مدقّات النسيان، فترويني عيناها ماءً أشهى وأطهر من ماء الخلجان، فرحت وراء ساحرتي ألمّ الدّرّ من فِيها وأنواع المرجان، فأنا المغروم في مسكنها، وفي بلاغة لغتها، وبمنشَأ حروف لكنتها، فأنا الهيمان.
[1]