=KTML_Bold=في بؤس الخطاب الثقافي العربي تجاه الكرد=KTML_End=
07-08-2023
#حليم يوسف#
إذا تمعنّا قليلاً في الخطاب الثقافي العربي تجاه الكرد الذي بدأت ملامحه الحقيقية تتوضح بعد بروز القضية الكردية مؤخراً في سوريا تحديداً، سنلحظ أن هذا الخطاب يتماهى إلى حد كبير مع الخطاب الثقافي الكولونيالي التركي الذي انتقل من نظرية “أتراك الجبال” ومن أن أصل كلمة “كورت” (كرد) تعود إلى الأصوات التي تخلفها الأقدام لدى المشي على الثلج “كورت – كورت” وعليه فقد جاءت كلمة كرد من هذا الصوت! والتي يقابلها على الضفّة العربية “الكرد ينحدرون من أصول عربية”، وصولاً إلى نظرية أن الكرد كانوا قبائل متنقلة واستقر بعضهم بين ظهرانينا، ولديهم لغة شفوية لا تصلح للكتابة. وتقابلها في الذهنية العروبية أن الكرد كانوا عشائر وتجمعات مهاجرة من تركيا إلى سوريا نتيجة الاضطهاد الذي تعرضوا له هناك.
ويتسابق الخطاب الثقافي الذي يتماهى مع الخطاب السياسي الكولونيالي ويستظل به، إلى التأكيد على عدم وجود جغرافيّة أو وطن اسمها كردستان، وإن وجدت فانها تقع خارج حدود دولتنا. نجد أن المثقف التركي الذي يبارك قتل وإبادة كل كردي يتحدث عن وجود جزء من كردستان داخل حدود ما تسمى تركيا، إلا أنه يزور كردستان العراق ولايجد أي حرج للاشتراك في الأمسيات والمهرجانات الثقافية والغنائية في بلاد اسمها كردستان وعاصمتها أربيل. وفي الضفة المقابلة يعتبر المثقف العربي السوري أن تسمية غرب كردستان مجرد اختراع “قوموي كردي انفصالي”، ولا وجود لجزء من كردستان داخل سوريا. في حين أنه يعتبر وجود جزء من كردستان في العراق أو في تركيا أو في إيران، أمرا طبيعياً، وليست لديه أية مشكلة في تقبلها والتضامن مع قضاياها إذا تطلّب الأمر. إذ لا مشكلة لديه لا مع الكرد ولا مع كردستان، طالما هي خارج حدود بلاده أو دولته. وبين نظرية وأخرى عقود من السنين وسيول من الدماء وآلاف القتلى والمهجرين والمعتقلين. وفيما بعد، بدأت هذه النظريات تشهد مخاضاً جديداً متجسّداً هذه المرة في الاعتراف بوجود الكرد وبإنكار أي وجود لكردستان، والاعتراف بوجود اللغة الكردية، على ألّا تصبح لغة رسمية كما التركية في تركيا أو العربية في سوريا. والفارق الوحيد بين الخطابين هو أن التركي يتفوّق في الذعر والاستشعار بالخطر الداهم من طرف الكرد على شريكه العربي، فيسعى إلى تقويض أية محاولة لقيام كيان كرديّ، حتى لو كان في الأرجنتين، على حد تعبير أحد رؤساء تركيا السابقين. ولا يعلم سوى الله كم من السنوات ستهدر من عمر هذه الشعوب، وكم من الضحايا ستظل تسقط وتعاني كي تصل هذه الشعوب المحكومة بصراعات أبدية إلى مستوى الاعتراف بحقوق متساوية للجميع.
=KTML_Bold=انعكاس الخطاب الكولونيالي في مواقف المثقفين العرب=KTML_End=
يعتبر الباحث الاجتماعي التركي اسماعيل بشكجي، صاحب كتاب “كردستان مستعمرة دولية” استثناءً فريداً من نوعه في هذا السياق، و من الملفت أن تاريخ الثقافة العربية لم يشهد بروز أي بشكجي عربي، يقارع سلطات دولته القومية ويقضي سنوات طويلة من عمره في السجون دفاعاً عن عدالة هذه القضية التي تتمثل في وجود تاريخي وأصيل لجزء من كردستان داخل حدود دولته نفسها وليس خارجها. وباستثناء مواقف عابرة هنا وهناك لم نشهد أية حالة ثقافية عربية يمكن الركون إليها أو التأسيس عليها للوصول إلى قناعة تفضي إلى إمكانية التعايش المشترك بين العرب والكرد في وطن واحد. ولتوضيح ما أستعرضه هنا سأكتفي بالتذكير بمواقف أبرز المثقفين العرب، التي تؤكد أن الكيل بمكيالين قد ساد الخطاب الثقافي، كما أن التماهي مع الخطاب الكولونيالي السياسي السلطوي ألبس هذا الخطاب لبوساً يتعارض حتى مع الثقافة في أبسط تعاريفها.
=KTML_Bold=إدوارد سعيد، محمد الماغوط، ومحمود درويش=KTML_End=
تعاطف إدوارد سعيد مع قضايا المظلومين في العالم، ابتداء من قضية فلسطين وانتهاء بالبوسنيين والشيشانيين، لكن لم يرف له جفن لدى ارتكاب النظام العراقي أبشع المجازر بحق الكرد، ابتداءً من مجازر الأنفال والمقابر الجماعية ومروراً بمجزرة حلبجة الموثقة بالصوت والصورة. وفي الوقت الذي كانت الإدانات تتوالى فيه من العالم على هذه المجازر، كان أدوارد سعيد يكتب عن شكوكه بهذه “المعلومات المضللة” التي كان ينقلها خصمه كنعان مكية في كتاباته. أدوارد سعيد الذي كان يرمي الحجارة تضامناً مع أطفال فلسطين، كان يشكك في قتل أطفال كردستان واختناقهم بغاز نظام عربي.
ومن ناحية أخرى يبدو أن كتابة سليم بركات بالعربية ومدحه لهذه اللغة واعتبارها وطناً له، وخدمته للقضايا العربية عامة وللقضية الفلسطينية خاصة، وانخراطه في العمل لدى فصائلها ومدائحه لياسر عرفات، كل ذلك لم يشفع له عند محمد الماغوط الذي هاجمه في حوار له في مجلة الناقد اللندنية، متهماً بركات بأنه كردي أكثر من أن يكون عربياً. رغم أن كتابات الماغوط وسيرته تغصّ بالنفور من كل ما هو عروبي، وعندما يتعلق الأمر بكردي، فعليه – حسب منطق الماغوط – أن يكون الكردي المتضامن مع قضايا العرب عربياً خالصاً لكي يرضى عنه. ومن جانبه لجأ صديقه الآخر محمود درويش إلى حذف قصيدة “كردستان”، وقصائد أخرى عن الكرد من أعماله الكاملة، لأسباب غير معلنة، لكنها واضحة للجميع، ولا تصب لصالح الموقف الأخلاقي الذي كان يتوجب أن يلتزم به شاعر كبير ابن لقضية عادلة، تجاه قضية مشابهة للقضية الفلسطينة. واكتفى باختزال القضية بعلاقة شخصية مع صديق كردي كان خادماً للغته ولقضيته الفلسطينية، والاكتفاء بنشر أشعاره الداخلة في هذا الإطار. ولأن الشيء بالشيء يذكر، كما يقال، فقد قال لي محمود درويش في برلين ولدى محادثة قصيرة معه على هامش أمسية أقيمت له قبل رحيله بعام، “أنتم جماعة سليم بركات، وأنا أحبكم”. وأنا أجزم بأن مواقف محمود درويش من القضية الكردية لم تكن مبنية على أسس مبدئية، وجدانية، فكرية، وإنما كانت نتيجة لعلاقة شخصية جمعته مع صديق يكن له الودّ الشخصي ليس إلا.
وبعيداً عن المقارنة يمكننا التحدث عن ظاهرة “الاختزال الشخصي للقضية”، حيث يكتفي المثقف العربي باختيار مثقف كردي مستعرب أو مثقف كردي آخر “من الوزن الخفيف” وغالباً ما يكتب بالعربية ويبدأ بكيل المديح له، مستغنياً بذلك عن الدخول في متاهات الدفاع عن قضية خاسرة كالقضية الكردية، ومكتفياً بالإبقاء على علاقة صداقة مع كردي يعتبره جيداً. وغالباً ما يتلقى كيل المدائح من هذا الكردي من الوزن الخفيف الذي يمتلك قدرة بارعة على التحوّل والتلوّن حسب الأحوال والظروف والأمكنة، فيتحول إلى فلسطيني في فلسطين ويتحول إلى سوداني في السودان والى مصري في مصر، وتصبح العربية لغته الأم الثانية، وليست لديه مشكلة بأن تكون له أم ثالثة أيضاً، وهكذا تخلو الساحة الثقافية العربية من مثقفين جادين، هم على استعداد لدفع ضريبة مواقفهم المؤيدة لقضية عادلة مثل القضية الكردية.
=KTML_Bold=زكريا تامر و كردستان=KTML_End=
سأستعرض هنا ما كتبه الصحافي خالد سليمان، حيث يتحدث فيه عن لقاء جمع بين فريد زامدار، صحافي من كردستان العراق وبين زكريا تامر في كافيتيريا فندق الشام في دمشق. وبمجرد سماع زكريا تامر لاسم كردستان، يقول له:
“شو كردستان يا أخي، أنتم عراقيين ولكم كأي عربي عراقي حقوق المواطنة. كل ما فعلتم وتفعلونه منذ البداية ولحد الآن هي أعمال شغب وعمالة للاستعمار، أنتم عملاء الاستعمار.”
ويتابع زكريا تامر حديثه: “لاتقارنوا أنفسكم مع الفلسطينيين، أنتم لم يكن لديكم يوماً ما لا أرض، ولا وطن محتل كالفلسطينيين. ولعلمك -الكلام موجه لفريد زامدار-أنا أعطي الحق للنظام العراقي في قصف مدينة (حلبجة) بالأسلحة الكيماوية، لأنكم حملتم السلاح ضده.”
لن أدخل في توصيف هذا الخطاب الذي يصدر عن أبرز كتاب القصة العربية، لكنه مثال صارخ على بؤس الخطاب الثقافي العربي. وقد يعتقد البعض بأنني ألجأ إلى الانتقاء في عرض المواقف أو أنني أتعمّد التحدث عن النماذج السلبية وتعميمها. وأطالب هؤلاء بكل حب إلى دحض ما ورد في هذا المقال بنماذج معاكسة لها إن وجدت، بشرط ألا تكون المواقف تجاه الكرد بعيدة عن الكليشيهات الجاهزة أو من نوع “الصداقات الشخصية” والكلمات العمومية التي تحتمل ألف معنى ومعنى، ككلمة المواطنة على سبيل المثال لا الحصر. وفي الختام ولامتحان مصداقية تلك المواقف يتوجب إبداء الرأي واتخاذ موقف تجاه قضية كردستان، وليس تجاه القضية الكردية التي تعتبر حمّالة أوجه. والدليل أن بعض المثقفين العرب الذين كنا نعتبرهم أصدقاء، ومنهم من كان يحمل لقب “صديق الشعب الكردي”، وبعد أن وقعت الواقعة، وجدناهم يحملون على أكتافهم رؤوسا داعشية ويدبجون قصائد المديح لجبهة النصرة وفتوحاتها المظفّرة.[1]