=KTML_Bold=أحداث عامودا 1937.. انتفاضة ضد الاحتلال الفرنسي أم دعم لحركة القوميين العرب؟=KTML_End=
سيامند حاجو
في التاسع من آب عام1937 ، اعتدى مجموعة من الكورد على الحي المسيحي في مدينة عامودا بكوردستان سوريا، والتي تعرّضت لقصف جوي إثر ذلك، من قبل القوات الفرنسية. هذه الأحداث محفوظة في ذاكرة الكورد والمنطقة على أنّها قتال ومقاومة للاستعمار الفرنسي من أجل التحرر منه. لكن وثائق محفوظة في الأرشيف الفرنسي ورسائل كتبها سكان المنطقة إلى الفرنسيين آنذاك، تبيّن حقائق مختلفة عمّا هو محفوظ في الذاكرة.
منذ بداية الثلاثينات، ظهرت في الجزيرة حركتان سياسيتان ذات توجّهات مختلفة وعلى النقيض من بعضها من البعض (راجع المقال بعنوان: الحركة الكوردية والمسيحية). إحداهما، الحركة الكوردية والمسيحية والتي ضمّت كذلك عدداً من العشائر العربية، والتي توافقت واتّحدت وطالبت بالحكم الذاتي وأن تُدار الجزيرة من قبل أهلها. أما الحركة الثانية فكانت مؤيدة لمركزية الحكم وضمّت عشائر عربية وعدداً من العشائر الكوردية، وعُرفت بحركة القوميين العرب. ويبدوا أنّ أحداث عامودا مرتبطة بخلافات واصطدامات الحركتين السياسيتين المذكورتين.
بداية، أشارك معكم مضمون تقرير محفوظ في الأرشيف الفرنسي العسكري في فينسين/باريس، وصادر عام 1943 عن المخابرات الفرنسية حول أحداث عامودا، كما وأودّ الإشارة إلى أن العديد من الرسائل التي كُتبت من قبل عدد من زعماء العشائر في المنطقة ووجِّهت إلى السلطات الفرنسية، تؤكّد أيضاً ما ورد في تقرير المخابرات هذا.
ترجمة جزء من مضمون الرسالة:
العنوان: ثورة الجزيرة شهر7 عام 1937
نقول إنّ انتفاضة عامّة من قبل الكورد والعرب والمسيحيين انطلقت بداية الشهر 7 عام 1937. بدأت الحركة في مدينة الحسكة في ال 05-07-1937، حيث قُتل ثلاثة عناصر شرطة، وجُرح عدد آخر. ثم امتدّت هذه الانتفاضة إلى كافة المناطق، في القامشلي ورأس العين وعين ديوار وديرك إلخ.. باستثناء عامودا، حيث تم جمع ومحاصرة جميع الموظفين والشرطة السوريين في السرايا وتُركوا من غير حيلة، وعاد الكثير من الموظّفين إلى دمشق، ولا يوجد أي تمثيل للحكومة في الوقت الحالي. تدخّلت القوات الفرنسية لوقف إطلاق النار من قبل المتمردّين، وحافظ الجيش الفرنسي على الأمن.
طالب المتمردّون بوضع خاص، وهو وضع حاكم فرنسي للمنطقة يخضع لإدارة الفرنسيين، كما وطالبوا بوضع مماثل لوضع اسكندرون، وبطبيعة الحال يرفض المتمرّدون عودة موظّفي دمشق بشكل قاطع، ويرفضون تدخّل دمشق في شؤونهم. استمرّت الهدنة عدّة أسابيع، ثم شكّلت لجنة تحقيق، وبعد المماطلة والكثير من التردد وصلت اللجنة إلى الحسكة في 06-08-1937. اعترفت اللجنة رغم وضوح الأمر بأنّ موظّفي دمشق مارسوا الكثير من الاضطّهاد بحق الأهالي، وهو ما كان سبباً لبدء التمرّد.
لكن في هذا الوقت، شجّعت الحركة القومية في دمشق أنصارها في الجزيرة على بدء تمرّد معاكس ضدّ المسيحيين وإظهارهم على أنّهم من بدأوا بإشعال فتيل التمرّد ضدّ الحكومة.
بسبب ذلك، تعرضّ الحي المسيحي في عامودا إلى الهجوم والاعتداء صباح 09-08-1937، وقاوم سكّان الحي مدّة 48 ساعة باستخدام 60 بندقية مقابل 700 بندقية. وكان مثل هذا الهجوم محضّراً له، ليتمّ في الحسكة والقامشلي والدرباسية (وكان آغا كوردي قد اعتُقل في 15 من الشهر 8، اعترف بهذا المخطّط).
وعندما أراد الضبّاط الفرنسيون الوقوف على الأحداث في عامودا والتحقق منها، وصل الضباط إلى عامودا، لكن تمّ توقيفهم وتهديدهم من قبل القوميين، وتوجّب تدخّل القوات الجوية الفرنسية. وفي 10-08-1937، تم قصف 5 قُرى في محيط عامودا، وفي 11-08-1937، في الصباح الباكر تم قصف الحيّ الكوردي في عامودا.
وفي الليلة السابقة، نجح المسيحيون من الفرار بفضل مساعدة آغا كوردي صديق لهم، وذلك بعد تعرّض محالّهم للنهب وتعرّض بيوتهم للحرق من قبل القوميين. قُتل 7 مسيحين، وكذلك 10 من مهاجميهم. (انتهى الاقتباس)
حقيقة ما جرى في عامودا:
كما تمت الإشارة إليه في تقرير المخابرات الفرنسية، شهدت الجزيرة توتّرات سياسية حادّة بين طرفين سياسيين، أحدهم الحركة السياسية الكوردية والمسيحية المطالبة بالحكم الذاتي ولامركزية الحكم، والثاني حركة القوميين العرب المؤيدة للحكم المركزي. وصلت حدّة هذه التوتّرات إلى الاقتتال المسلح في 14-07-1937.
طالب دهام الهادي زعيم حركة القوميين العرب دمشق بإمدادهم بالسلاح والمال، وذلك في الوقت الذي بسطت فيه الحركة السياسية الكوردية والمسيحية سيطرتها على المنطقة باستثناء عامودا بعد طردها لموظفي وشرطة دمشق. جدير بالذّكر أنّ نحو 40 عائلة من العوائل المسيحية في عامودا، كانت قد اضطرّت إلى النزوح من عامودا بسبب الخطر المحدق بها والتهديدات التي تعرضوا لها من القومييّن العرب ومؤيديهم. حاول الفرنسيون الإصلاح بين قادة الحركتين السياسيتين، لكن محاولاتهم باءت بالفشل.
الوثيقة المحفوظة في الأرشيف الفرنسي في نانت، تتضمن تقريراً أصدره الكولونيل الفرنسي سرات في 30-08-1937، ورد فيه بأنه في 28-07-1937 (أي قبل 12 يوماً من أحداث عامودا)، توجّه زعماء العشائر العربية في حركة القوميين العرب، وبعدها بيوم، عدد من زعماء العشائر الكوردية المؤيدة للقوميين العرب إلى دمشق. كان زعماء العشائر الكورد هم: سعيد آغا، عيسى آغا، عبد الكريم حج شيخموس، عيسى الخلو، عيسى القطنة (كيكية دير الزور)، ويونس محمد العبدي. هذه المجموعة ذهبت بداية إلى مقرّ القوميين العرب في حلب، ومن ثمّ حصلت على السلاح والسيارات والأموال في دمشق.
وبحسب تقرير الكولونيل سرات، توجّه هذا الوفد من دمشق إلى عامودا بتاريخ 08-08-1937، أي قبل يوم واحد من أحداث عامودا. ورد أيضاً في هذا التقرير بأنّ عدداً من قادة العشائر الكوردية الموالية للقوميين العرب حاولوا الهجوم والاعتداء على المسيحيين في الدرباسية، لكن درويش آغا منعهم وحال دون حدوث الاعتداء.
وفقاً لمضمون الرسالة المعنونة ب ثورة الجزيرة شهر 7 عام 1937، في 09-08-1937، فإنّ 700 مسلّح موالٍ للقوميين العرب هاجموا الحي المسيحي في عامودا، والذي تولّى فيه 60 مسلحاً من الحي المسيحي مهمة الدفاع عن الحي. وعند معرفة السلطات الفرنسية بحدوث الهجوم على الحي المسيحي في عامودا، توجّه الضابط الفرنسي الكابتن توماس إلى عامودا لتحرّي الحقائق والوقوف على الأحداث في عامودا، تمّ التعرّض إلى الضابط الفرنسي في تل خنزيري، وإطلاق الرصاص باتجّاه العربة التي كانت يستقلّها قبل المسلحيّن الموالين للقوميين العرب. وعليه، طلب الضابط الفرنسي الدعم الجوي من الجيش الفرنسي بشكل فوري، وفي اليومين التاليين قامت القوات الجوية الفرنسية بقصف قرى تل خنزير وبريفا وهرم جمو وتل حبش وقرية عرب قندة بالقنابل، وانتهى الهجوم بسيطرة القوات الفرنسية على عامودا دون أية مقاومة.
وورد أيضاً في الرسالة المذكورة بأنّ آغا كوردي من أصدقاء المسيحيين ساعدهم في الخروج من عامودا، لكن ورد في تقرير آخر بأن ثلاثة من زعماء العشائر الكوردية ساعدوا المسيحيين، وهم من زعماء العشائر والمنتمية للحركة السياسية المطالبة بالحكم الذاتي وهم عبدي آغا خلّو (زعيم عشيرة مرسيني) ونواف آغا وأحمد أيو (زعيم الإزيديين).
في هذا الوقت، كانت بيوت ومنازل وممتلكات المسيحيين في عامودا قد تعرّضت للنهب والحرق. وورد في تقرير آخر بأنّ القوميين العرب وأنصارهم قد تراجعوا وفرّوا من عامودا بعد القصف الفرنسي، وبأنّ زعيم العشيرة الكوردية الذي قاد الهجوم على الحيّ المسيحي كان سعيد أغا دقوري، وأنّه تم العثور على 15 جثّة مجهولة الهوية في مقرّ الشرطة. وأنّ سعيد آغا دقوري كان قد أبقى على أربعة مسيحيين كرهائن، وأنّه توجّه إلى دهام الهادي ومن ثم فرّ إلى العراق.
وفي اليوم التالي من سيطرة القوات الفرنسية على عامودا في 12-08-1937، تمكّن عدد من العائلات المسيحية من العودة إلى عامودا. وفي 13-08-1937، عُثر على الرهائن الأربع الذين كان سعيد آغا دقوري قد أبقى عليهم، مقتولين وعلى أجسادهم آثار التعذيب والحرق. وكان ذلك سبباً لإقدام المسيحيين في عامودا على الهجوم على الحي الكوردي وحرق الأسواق والبازار في نفس اليوم.
على إثره سلّم عدد من قادة العشائر المنتمية لحركة القوميين العرب أنفسهم إلى القوات الفرنسية ومنهم دهام الهادي وعبد الباقي نظام الدين وعبد الرزاق حسو وطاهر آغا ومشعل باشا، وقدمّوا تعهدّات للقوات الفرنسية بالعمل على إحلال السلام بين الطرفين، لكن القوات الفرنسية لم تحاسب هؤلاء بأي شكل من الأشكال. وبعدها بفترة زمنية، عاد سعيد آغا دقوري من العراق إلى عامودا، والذي لم يتعرّض بدوره لأي نوع من المحاسبة أو المساءلة وخاصّة أن الحكومة في دمشق لم تؤيد أو ترغب في معاقبة أنصارها. أما بالنسبة إلى لجنة التحقيق التي تمّ ذكرها في الرسالة، والتي كانت موكًّلة من قبل حكومة دمشق بإجراء التحقيق في أحداث عامودا، فلقد ذكرت في تقريرها بأنّ قوىً خارجية هي وراء الأحداث وأنّ هذه القوى مسؤولة عنها.
صحيح أنّ أنصار وأعضاء حركة القوميين العرب الذين هاجموا على عامودا كانوا قد هُزموا وفرّوا، لكن أحداث عامودا كانت عاملاً أساسياً في بدء الشرخ بين الكورد والمسيحيين في الحركة السياسية المطالبة بالحكم الذاتي.
عمدت حركة القوميين العرب على إظهار الصراع لعامّة الناس بمظهر صراع المسلمين مع المسيحيين، ونجحت نوعاً ما في البروباغندا التي اتبّعتها. ولأنّ عدداً كبيرا من الكورد شاركوا في الهجوم على المسيحيين ونهب ممتلكاتهم، تبيّن بأنّ بروباغندا القوميين العرب قد جنت ثمارها، وساهمت في انعدام ثقة المسيحيين في الكورد. كما وأظهر تقلص حجم التأييد الكوردي للحركة المطالبة بالحكم الذاتي، وأنّ الرأي العام الكوردي بدأ يميل إلى تأييد حركة القوميين العرب.
وفي إحدى مراسلات قادة الحركة السياسية المطالبة بالحكم الذاتي مع الفرنسيين، طالب حاجو آغا والقس حبّى بمحاسبة مرتكبي الجريمة في عامودا وتعويض الضحايا والمتضررين. لكن الفرنسيين من جهتم بينوا في تعاملهم مع المسيحيين بأنّ على المسيحيين تحسين علاقاتهم مع الأغلبية وحركة القوميين العرب، كون ذلك يصبّ في صالحهم. وتوجد العديد من التقارير في الأرشيف الفرنسي تبيّن بأن الضبّاط الفرنسيين أكدّوا للقادة المسيحين في الحركة المطالبة بالحكم الذاتي على وجوب تحسين علاقاتهم مع القوميين العرب لأن ذلك في صالح المسيحيين وأن التحالف مع الكورد تحالف هش ويشكّل خطراً على المسحيين لأن المجموعتين الأخيرتين من الأقليات في سوريا.
وفي 5-08-1937، أرسل الغراف أوسترو روك ممثل المندوب السامي الفرنسي رسالة إلى وزير الخارجية الفرنسي ورد فيها بأنّ القس حبّى وصل إلى قناعة بأنّ التحالف مع الكورد تحالفٌ هش، وأنّ عليهم العمل على تحسين علاقاتهم مع القوميين العرب. وفي إحدى لقاءات أوسترو روك مع القس حبّى في شهر التاسع من عام 1937، ذكّر روك بمصير الأرمن واليونانيين في تركيا والكلدان الآشوريين في العراق وما جرى لهم، وأبدى مخاوفه من تعرّض المسيحيين في الجزيرة إلى نفس المصير إذا لم يتصالحوا مع القوميين العرب. جدير بالذكر بأنّ الملازم الفرنسي بلونديل وجّه نفس الخطاب والتحذير إلى حاجو ربيع عام 1937.
من جهة أخرى، بات واضحاً أنّ أحداث عامودا كانت لها أثراً سلبياً جداً على علاقة قادة الحركة الكوردية والمسيحية المطالبة بالحكم الذاتي من جهة، وبرلمانيّي الجزيرة في دمشق من جهة أخرى. فخلال انعقاد جلسة البرلمان السوري في دمشق في 08-11-1937، لمناقشة أحداث عامودا، تغيب أحد ممّثلي الجزيرة البرلماني قدّور بك عن الاجتماع، وكانت مداخلة ممثّل الجزيرة الآخر البرلماني سعيد إسحق مداخلة خجولة ولم يتّخذ موقفاً قويّاً من أحداث عامودا والمسؤولين عنها. وعلى إثرهِ، صاغ عدد كبير من قادة العشائر المشكّلة للحركة السياسية المطالبة بالحكم الذاتي كتاباًّ وأرسلوه على شكل برقية إلى دمشق، وأكدّوا فيه بأنّ قدّور بك وسعيد اسحق لا يمثّلون الشعب في الجزيرة، وذلك لأنّهم لم يقوما بأداء واجبهما، فأحدهما غاب عن الاجتماع والآخر تقدّم بخطاب ضعيف.[1]