رواية #مجنون سلمى# .. مزج بين التصوف الكوردي والحب العذري
إبراهيم مراد
ينكب الكاتب الكوردي السوري #جان دوست# في إنتاجه الجديد المعنون (مجنون سلمى) على تاريخ امارة (بوتان) ويقتبس من كتاب (شرفنامة) للمؤرخ شرف خان البدليسي (السيرورة والصيرورة) التاريخية، كاشفا عن خيوط وتفاصيل الحياة اليومية والصراع على السلطة والخلافات التي تدب بين الأمراء وتأثير ذلك على مجريات الأحداث، ويلقي بالمزيد من الضوء على الفترة التي عاش فيها البطلان (ملا جزيري) والأميرة (سلمى) فيكشف لنا عن ملحمة متكوبة بالألم والعذاب ومصوغة بالآلاف من أبيات الشعرية الكلاسيكية استخدم فيها الشاعر لغته الكوردية الجميلة القادرة عن نقل المعاناة والشوق باسلوب سلس مشبع بالصوفية والقدرية والمناجاة الإلهية.
يعتبر الشاعر (ملا جزيري) وفلسفته في الجمال والحب والتصوف امتداداً طبيعياً للفلسفة الاسلامية التي تستقي الفكر والعشق الإلهي من التأثير الكبير بالفلسفة اليونانية، ولعل ارسطو (الفيلسوف اليوناني) أشار الى أن الوجود والعالم يتحرك بالعشق وانتقلت الفكرة منه الى المتصوفين وتناقلها اعلام التصوف الاسلامي بدءاً بحسن البصري الذي قال (بحب) الله بدلا عن (الخوف) منه، ومرورا برابعة العدوية وجلال الدين الرومي والسهرودي والحلاج الذين ذابت ارواحهم في الله، وتركوا سبيل الملذات الدنيوية سعيا منهم بالاندماج النهائي بالخالق الأوحد.
وتلك المقاربة اللغوية والفلسفية هو ما يعتمد عليه الروائي الكوردي السوري جان دوست في نسخ تفاصيل روايته (مجنون سلمى) فهو يأخذ بيد القارى الى مملكة (بوتان) في الجزيرة الكوردية التي شهدت ملحمة العشق الأشهر كوردياً (مم وزين) فيدخلنا في تفاصليها ونسكن في حاراتها وابراجها ومعاركها بين امرائها للسيطرة على مقاليد الحكم فيها ومدارسها وخاصة المدرسة (الحمراء) مستعرضاً قصة عشق حقيقية نبتت جذورها في الأرض واينعت قصائد غزلية مترعة بالفراق والأسى والظلم.
فالروائي يضعنا أمام ثلاث مراحل وجودية يمر بها الشاعر والمتيم والعاشق (الشرب، والسكر، والصحو) ويأخذ بيد بطله ويخرجه من حالة العشق الوجودي المتجذر في تلك الأميرة البهية، الى حالة العشق الإلهي التي تذوب فيها الذات الإنسانية في الذات الإلهية حيث تنصرف عن كل ما هو بشري لتلتحق بالذات العليا التي تتسامى عن أي نقص.
فالبطل الذي تعلق بمحبوته تعلقا حد (الجنون) - رغم عدم رؤيته لها سوى مرتين - يصطدم بالفارق الاجتماعي والطبقي الذي يدق اسفينه بينهما ويحول دون وصالهم، فالمتيم طالب علم وفقه في المدرسة (الحمراء) بجزيرة بوطان وينتمي الى عائلة متواضعة، بينما الطرف الاخر اخت امير امارة الحاكم الفعلي للامارة، لكنه لا يستسلم امام هذا الواقع المرير ويلجأ الى الشعر الصوفي القادر على نقل تلك المعاناة والأسى واللوعة الى مستوى ارفع وانقى، وتتدفق بشكل ابيات عذبة عبر قريحة مؤمنة بالقضاء والقدر، علها تستطيع ان تضمد جراحه وتخفف من ألمه والعودة الى الله والتضرع له اسلوبه في الوصول الى مبتغاه.
غلاف رواية مجنون سلمى
فالشاب العاشق بعد أن ملأ الحب قلبه لم يدخر جهداً في البحث عن وسيلة كي يبوح لحبيبته عن ما يضمره قلبه من حب وشوق، فهو يخبئ رسائله في اعواد القصب ويختمها بالشمع ويقذفها الى النهر، على امل ان تستلمها محبوبته لتبوح لها عما يختلج صدره من أهات ويلجأ الى حارس المدرسة وزوجته ليكونا وسيلته في نقل منديله المطرز، هذا المنديل الذي يستمر في الظهور مرة هنا ومرة هناك، كدليل على استمرارية تلك العاطفة الجياشة في قلب العاشقين، حتى عندما تغادر محبوبته الامارة الى امارة اخرى (حسكيف) يعلم علم اليقين انها غادرت جسدا وبقيا روحا صافيا خالية من الشوائب الدنيوية.
تستمر تفاصيل هذه القصة المجنونة ولا يقف في طريقها لا اخاديد تقدم السن والكهولة ولا المكايد التي ينسجها العدوانيون، بعد ان ملأت اشعاره الامارات الكوردية من شرقها الى غربها وذاع صيته بين مجالس الأمراء فهي كنبع دفاق لا ينضب.
الرواية بمجملها تطرح العديد من الأسئلة المشروعة وهي مقدار متانة الأساس التاريخي المبني عليها والثغرات التي تقف امامها وهي امكانية وجود الحبيبة (سلمى) بالواقع، وهل هي شخصية فنتازية خرجت من بطن التاريخ ام هي حقيقة واقعة كحقيقة ملحمة (مم وزين) التي تحتضن جريرة بوطان قبريهما الى الآن، فالحالة الصوفية تعيش في اغتراب إجتماعي يبدو من الصعوبة بمكان اصباغ رداء بشري عليها، فهم يتحدثون عن حبهم لله والسعي الى الذوبان بالذات الإلهية، في الوقت الذي نستشف انهم يتحدثون عن لوعات قلوبهم في شي مادي بحث، اذن هذه احداث الرواية حقيقة ام اننا نتاج مخيلة خصبة للكاتب يستنطق بها التاريخ بما ليس موجودا فيه.
وهل الشخصية العاشقة المترعة بالعذاب في الرواية هي حالها حال شخصية النبي (زرادشت) التي استحضرها الفيلسوف الإلماني نيشه في كتابه (هكذا تلكم زرادشت) لكي ينقل على لسانه وتصرفاته افكاره واستنتاجاته؟.
الكاتب جان دوست نجح فيما فشل فيه الكاتب الكوردي عز الدين مصطفى رسول في كتابه (احمد خاني شاعرا ومتصوفا) الذي نال عنه درجه الدكتوراه في الأدب فمصطفى يلوي عنق المجتمع البوتاني ويصبغ عليه ثوبا ليس له، ويجعله يقول انه ماركسي أكثر من ماركس نفسه، في حين ان جان ينقل لنا الاحداث التارخية عبر قصة حب مجنونة.
فالكاتب يستلخص ويتوصل الى نتيجة مفادها ان الشاعر (ملا أحمد جزيري 1567-1631) انتج تلك الفلسفة الصوفية الفائضة بالجمال والحب كنتاج ما اصاب.[1]