=KTML_Bold=الكُرد وفرضية أصلهم العربي=KTML_End=
محسن سيدا
يرد الكثير من الروايات والنصوص في المصادر التاريخية الإسلامية التي ترجع نسب الكرد و الأمازيغ ( البربر) وغيرهم من الأمم والشعوب إلى القبائل العربية وقد تباينت آراء الباحثين الذين تناولوا هذا الموضوع حول الأسباب والدوافع الكامنة وراء النسب العربي لهذه الأمم . وفي هذه الدراسة أحاول مقاربة فهم الخلفيات التاريخية والسياسية والدينية والاقتصادية و الاجتماعية لهذا الموضوع حسب النصوص المتوفرة لدي. إن معظم الدارسين من الكرد ، حسب علمنا ، تناولوا هذا المبحث في معرض ردهم على التوظيف السياسي لهذه الروايات من قبل بعض الأوساط العربية الرسمية وغير الرسمية للتنصل من الحقوق القومية المشروعة للكرد ، بعيداً عن سياقها التاريخي، لذا جاءت دراساتهم كإسقاطات معاصرة و ردود انفعالية لقضايا تاريخية نشأت في الحاضنة الثقافية والسياسية لتلك المرحلة من التاريخ الإسلامي ، حتى رأى بعض الباحثين الكرد في الروايات القائلة بالأصل العربي للكرد تشويهاً لاسمهم وأصلهم ( 1 ).
لقد انتبه المؤرخون الإسلاميون مبكراً إلى ضرورة البحث عن أصول الشعوب التي ضمتها الإمبراطورية الإسلامية الناشئة ، وتعددت الآراء بتعدد المؤرخين والجغرافيين ، وكان البحث عن أصل الكرد ونشأتهم وأنسابهم من الموضوعات التي تناولها علماء التاريخ والجغرافيا المسلمون، ويذكر أن المؤرخ الشهير أبو حنيفة الدينوري أفرد كتاباً عن ” أنساب الأكراد ” ( 2 ) ، وهذا ما يؤكد انشغال المؤرخين وعلماء الأنساب بأصل الكرد أو بدء نشوئهم ، حسب تعبير القدماء ، ولكن مسألة أصل الكرد ونشأتهم لم تحسم من لدن المؤرخين والنسابة العرب ، فالكرد تارة من نسل الشيطان ، وتارة من الناجين من جور الضحاك ( 3 ) أو هم طائفة من الجن ( 4 ) . هذه الروايات التي تناولت الأصل الكردي في إطار الأسطورة تعكس بعضاً من صفات الكرد التي اشتهروا بها في التاريخ الاسلامي كروح التمرد وقيم الفروسية من شجاعة و كرم…….الخ ، وما يهمنا في هذه الدراسة هو مناقشة الروايات القائلة بالأصل العربي للكرد والدوافع الكامنة وراءها .
ظهرت الفرضية القائلة بالأصل القبلي العربي للكرد في القرن الثامن الميلادي ، حيث ذكر النسابة سحيم بن حفص أبو اليقظان في كتابه المعنون ب ” كتاب النسب الكبير ” بأن الجد الأكبر للأكراد هو ( كرد بن عمر بن عامر بن صعصعة ) ( 5 ) ، ومن الصعوبة بمكان معرفة الموطن الأول للروايات القائلة بالأصل العربي للكرد ، إلا أن المستشرق الأرمني أرشاك بولاديان في كتابه القيم عن الكرد يرجّح ولادة هذه الروايات في منطقة الجزيرة حيث الاحتكاك والتصادم بين الكرد والعرب. ( 6 ) .
إن المتأمل للروايات القائلة بانحدار الكرد من القبائل العربية يجد أن معظمها هذه ترجع نسب الكرد إلى عرب الشمال أي إلى قبيلة النبي محمد ، أما رواية ابن الكلبي ( 7 ) التي ترجع نسب الكرد إلى عرب الجنوب فلم تروج لها في نصوص المؤرخين المتأخرين . ذكر المسعودي في كتابه ” مروج الذهب ومعادن الجوهر ” أن الناس قد تنازعوا في بدء الأكراد ( فمنهم من رأى أنهم من ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان ، ……… ومن الناس من رأى أنهم من مضر بن نزار ، وأنهم من ولد كرد بن مرد بن صعصعة بن هوازن ……..ومنهم من رأى أنهم من ربيعة ومضر . …. وما قلنا من الأكراد فالأشهر عند الناس ، والأصح من أنسابهم ، أنهم من ولد ربيعة بن نزار ) ( 8 ) ويذكر المسعودي أسماء بعض القبائل الكردية التي لا تناكر بينهم أنهم من ولد ربيعة بن نزار و مضر بن نزار . يستخلص من رواية المسعودي أنه يرجع نسب الكرد إلى الشطر العدناني القرشي استناداً إلى الموروث الشعبي و ( والأشهر عند الناس ) حول أنساب الكرد و لكن الأهم في روايته أن القبائل الكردية ( لا تناكر بينهم ) حول أصولهم القبلية العربية ، أي أن فرضية الأصل العربي للكرد خرجت من موطن الأكراد ومن لدن القبائل الكردية ، فما هي مصلحة الكرد في ادعائهم النسب العربي ؟ .
بعد دخول الجيوش العربية إلى كردستان تمت عملية أسلمة الكرد والتي استغرقت قرابة قرن من الزمان ، وترسخ بنيان الدولة العربية المترامية الأطراف ، والمتعددة الأجناس والأديان ، لكن الدولة لم تسو بين العرب والمسلمين من غير العرب والذين عرفوا باسم الموالي ، إذ كان للنظام المالي المتبع في ظل الدولة العربية أثره السيئ على حياتهم الاقتصادية والاجتماعية ، فرغم إسلامهم كانوا يدفعون عن أراضيهم الخراج للدولة ، وإذا تحولت ملكية هذه الأراضي إلى المسلمين العرب تصبح أرضاً عشرية ، والعشر أقل من الخراج ( 9 ) و ( لا يأخذون العطاء الذي يستحق للمقاتلة رغم اشتراكهم في الحروب ) ( 10 ) ، إذن ، فإسلام الكرد لم يعفهم من ضريبة الخراج والجزية ، وكان هذا النظام المالي معمولاً به منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب حتى خلافة عمر بن عبد العزيز الذي أسقط الجزية عن المسلمين من غير العرب . ويستخلص من هذا الكلام أن أصحاب الأرض و الفلاحين من الأكراد ادعوا النسب العربي تهرباً من الضرائب المترتبة عليهم ، ومن هنا لا يمكن التقبل بسهولة إن اختلاق فرضية الأصل العربي للكرد جاءت لاستمالتهم وجرهم إلى صفوف المقاتلين العرب ( 11 ) وخاصة أن العرب المسلمين كانوا ينظرون إلى الشعوب غير العربية نظرة دونية أو مواطنين من الدرجة الثانية.
إن العامل الاقتصادي لوحده لا يكفي لتفسير مسألة انحدار الكرد من العرب ، فقد ساهمت عوامل أخرى في الترويج لهذه الفرضية .
اشترطت نظرية الخلافة لدى أهل السنة والجماعة أن يكون الخليفة عربياً قرشيأ وبذلك أغلقت الطريق أمام الشعوب الإسلامية غير العربية تبوأ هذا المنصب وأصبحت هذه النظرية جزءاً من الثقافة السائدة لدى عامة الناس من الكرد وغيرهم من الأمم الإسلامية وبموجب هذه النظرية فإن طريق الخلافة تمر عبر النسب العربي القرشي ، وهذا ما ادعاه بعض القادة والشخصيات الإسلامية من الفرس و الكرد طمعاً بالخلافة ، كأبي مسلم الخراساني الذي اغتيل بسبب ادعائه النسب العربي ( 12 ) بالإضافة إلى الأسباب الأخرى المذكورة في كتب التاريخ و ابن سيف الإسلام أبو الفداء إسماعيل بن طغتكين بن أيوب بن شادي ابن أخي السلطان صلاح الدين الأيوبي .
بعد أن آلت السلطة إلى بني أيوب ، حاولت جماعة من ملوك بني أيوب الانعتاق من الأصل الكردي و أدعوا أنهم عرب ، كما ادعى بعضهم النسب إلى بني أمية ، والنص التالي يوضح بجلاء الأسباب الكامنة وراء هذا الادعاء . (( وقد ادعى ابن سيف الإسلام لما ملك اليمن أنهم من بني مروان …… وتعاظم الى أن ولى نفسه الخلافة ، …. وعزم على إعادة الخلافة من بني هاشم إلى بني أمية ) ( 13 ) لكن السلطان صلاح الدين الايوبي أنكر هذا الادعاء قائلاً : ( ليس لهذا أصل أصلاً ) ( 14 ) ويرجح أن صلاح الدين أنكر النسب العربي لبني أيوب لأسباب سياسية ودينية وليست لأسباب قومية صرفة . وفي هذا السياق يعلق المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي على مسألة انحدار الكرد من العرب:( وهذه أقوال الفقهاء لهم ممن أراد الحظوة لديهم لما صار الملك إليهم . وإنما هم قبيل من قبائل
العجم ) (15 ) ، وضمن هذا النسق الفكري البراغماتي ، ادعى معظم أمراء الكرد انحدارهم من أصول
عربية كأمراء بهدينان ، بوطان ، شمدينان ، وهكاري وبهذا الصدد يقول الشاعر حسن بن داود البشنوي ، ابن عم أمير قلعة ” فنك ” الكردية : مفاخر الكرد في جدودي ونخوة العرب في انتسابي . (16 ) وقد تعاطى أدباء الكرد ومؤرخوهم مع هذه المسألة وكأنها مسلمات لا تقبل الجدل ( 17 ) ، نستخلص مما تقدم ، أن العوامل الدينية والسياسية أيضاً كان لها دور في مسألة الأصل العربي للكرد ، لكن هذين العاملين ، إضافة إلى العامل الاقتصادي لا يفيان بالغرض لفهم هذه المسألة ما لم نتطرق إلى العامل الاجتماعي الذي مهّد لتقبل وترويج انحدار الكرد من القبائل العربية . كثيراً ما يرد في النصوص التاريخية اسم الأكراد مقروناً باسم العرب أو الأعراب كدلالة على الشبه بين الشعبين في التركيبة الاجتماعية القبلية ونمط الحياة ، يقول ابن حوقل ( ومذاهبهم- أي الكرد – في القنية و النجعة مذاهب العرب ) (18) و أصبح لكلمة الكرد في التراث العربي معنىً اجتماعياً مرادفأ للفظة البدوي أو الراعي ( 19 ) وتزخر كتب التراث بنصوص عديدة دالة على المعنى الاجتماعي للفظة الكرد والعرب والترك ، يقول الجاحظ في رسالته ” مناقب الترك ” : ( وكذلك الترك أصحاب عمد وسكان فياف وأرباب مواش ، وهم أعراب العجم كما أن هذيلاً أكراد العرب ) ( 20 ) ، بل قيل أن الكرد هم أعراب فارس ، و هكذا نجد أن كلمة ال ( كرد ) تستخدم لتدل على القبائل التي تشبه الكرد في أنماط معيشتها وبغض النظر عن أصولها العرقية . إن التشابه في النسق الاجتماعي القبلي بين الكرد والعرب شجع النسابين في جر ّ الكرد إلى الصراع القبلي الدائر بين العرب العدنانيين والعرب القحطانيين ، وهو صراع مديد أفاض فيه النسابون واستطردوا كثيراً ، كما ألفت كتب عديدة في ” المنافرات والمفاخرات ” بين القبائل . فكان فريق العدنانيين يدعي انتساب الفرس و الكرد إليهم مما حدا بخصومهم القحطانيين إلى الادعاء بانتساب اليونان والترك أيضاً إليهم ( 21 ) والجدير بالذكر هنا أن رواية ” ابن الكلبي ” هي الوحيدة التي ترجع نسب الكرد الى عرب الجنوب باعتباره من القحطانيين ، أما باقي الروايات فتنسب الكرد الى عرب الشمال كما مرّ معنا ، وعلى ضوء هذا الصراع القبلي بين العدنانيين و القحطانيين والعوامل السالفة الذكر نقترب من فهم الدوافع التي وقفت وراء مسألة انحدار الكرد من العرب . ونستخلص مما سبق ما يلي :
1-كان للفلاحين الكرد وأصحاب الأراضي المصلحة الكبرى في ادعاء النسب العربي تهرباً من الخراج أو الجزية المفروضة عليهم ..
2- كان لزعماء الكرد وقادتهم المصلحة في ادعاء النسب العربي طمعاً بالخلافة أو السلطة .
3- الشبه الكبير في الحياة الاجتماعية بين الكرد والعرب من جهة حياة البداوة وما يتبعها من خيام وماشية وانتجاع واصطياف . كان من الأسباب التي دعمت نظرية الأصل العربي .
4- نشأت نظرية الأصل العربي للكرد لاحتوائهم وضمان ولائهم للدولة العربية الإسلامية إبان الصدام بين الكرد والعرب .
5- لم تقتصر لفظة الكرد على دلالتها العرقية السلالية بل تعدت ذلك إلى تسمية كل شعب بدوي كرداً .
6 إن خوض المؤرخين والنسابة في هذه المسألة واتفاقهم على أن الكرد من أصول عربية ليس من باب العنصرية و هذا لا يعني تنزيه التاريخ الإسلامي من العنصرية المذهبية والقومية ، بل هو نتيجة منطقية للمناخات التي تحدثنا عنها آنفاً .
في الختام لا بدّ من القول أن هذه الدراسة لا تدعي إمساكها بخيوط المعضلة كلها ، والآراء الواردة فيها مطروحة للمناقشة و قابلة للتبديل والتعديل إذا توفرت نصوص وأدلة تاريخية لا تؤيدها .
=KTML_Bold=المصادر والمراجع :=KTML_End=
1 -علي أكبر كردستاني ، الحديقة الناصرية في تاريخ وجغرافية كردستان ، ص 17 ، ترجمة جان دوست ، منشورات دار آراس للطباعة والنشر ، 2002 أربيل .
2 – محمد أمين زكي ، تاريخ الدول والإمارات الكردية في العهد الإسلامي،ص384،ترجمة محمد علي عوني .
3 -أبي حنيفة الدينوري ، الأخبار الطوال، ص 5، تحقيق عبد المنعم عامر ، الطبعة الأولى 1960م القاهرة .
4 – الراغب الأصفهاني ، محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء ص426 الجزء الأول . حققه وضبط نصوصه وعلق على حواشيه الدكتور عمر الطباع ، الطبعة الأولى 1999م ، شركة دار الأرقم .
5 – أرشاك بولاديان ، الأكراد حسب المصادر العربية ، ص 105 ، نقله الى العربية الدكتور خشادور قصباريان والأستاذ عبد الكريم أبا زيد، منشورات أكاديمية العلوم في جمهورية أرمينيا السوفيتية،معهد الاستشراق، يريفان.
6 – المصدر السابق ص 122
7 – نفس المصدر ص106
8 – أبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي ، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ص 122-123 ، الجزء الثاني ،تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الثالثة 1958م .
9 – الدكتور نبيه عاقل ، دراسات في تاريخ العصر الأموي ، ص 213 ، مطبوعات جامعة دمشق ، 1987م
11 – المصدر السابق ، ص 220
12 – المسعودي ، مروج الذهب ، ص 204 الجزء الثالث ، تحقيق وتعليق سعيد محمد اللحام ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى ، بيروت ، لبنان .
13 – شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة ، الروضتين في أخبار الدولتين ص 250-251 ، الجزء الثاني . حققه وعلق عليه إبراهيم الزيبق ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة الأولى 1997م .
14 – ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ص 141 ، الجزء السابع ، تحقيق احسان عباس ، منشورات دار صادر ، بيروت ، لبنان .
15 – تقي الدين المقريزي ، المواعظ والاعتبار بذكر الخطوط والآثار والمعروف بالخطط المقريزية ، ص 112-113 ، الجزء الثالث، تحقيق الدكتور محمد زينهم و مديحة الشرقاوي ، راجعه وضبط هوامشه أحمد زيادة ، مكتبة مدبولي .
16 – صلاح الدين خليل بن إيبك الصفدي ، الوافي بالوفيات ، الجزء الثاني عشر ، تحقيق محمد بن عبيد الله ومحمد بن محمود باعتناء س ، ديدرينغ ، يطلب من دار النشر فرانز شتاين شتوتغارت ، الطبعة الثانية 1991م .
17 – ملا محمود البايزيدي ، عادات الكرد وتقاليدهم ، الترجمة عن الكردية جان دوست و محسن سيدا ، مجلة الكولان العربي العددان 80-81 .
18 – ابن حوقل ، صورة الأرض ص269، الطبعة الأولى ، 1979م ، منشورات دار مكتبة الحياة .
19 -الأخبار الطوال ص 27.
20 – الجاحظ ، رسائل الجاحظ ( مناقب الترك ) ص 71 الجزء الأول ، تحقيق وشرح عبد السلام هارون ، مكتبة الجاحظ ، الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة .
21 – الدكتور جواد علي ، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ص 498-499 ، الجزء الأول ، الطبعة الثانية . دار العلم للملايين- بيروت 1976م .
[1]