=KTML_Bold=د. محمود عباس: هل كان للكرد أدباء وفلاسفة قبل الإسلام - الجزء التاسع=KTML_End=
بدراسة سريعة للمثالين التاليين، يمكن أن تقاس على أسسها (الإشكالية التاريخية) لمجل ما حصل للحيز الثقافي-العلمي في المنطقة، وبشكل خاص لمكاتب المدن الأخرى، الموجودة ضمن جغرافية كردستان الحالية، أي المدن التي كانت تتبع الحضارتين الساسانية والبيزنطية، مثل كنديشابور؛ ونصيبين؛ وأربيل؛ وكاشي واشي؛ والرها؛ وآمد؛ وبدليس؛ وكركوك؛ وأربيل، وبابل وغيرها، والتي تم ذكرهم في معظم الكتب التاريخية القديمة، ومن بينها كتب المؤرخين المسلمين المعاصرين للخلفاء الأمويين وأوائل العباسيين والأندلسيين.
المثال الأول-
مكتبة أو مكاتب ومدارس مدينة (كيتسفون) المدائن، حاضرة الإمبراطورية الساسانية، والتي ينفي معظم المؤرخون المسلمون وجودها، ونقصد المكتبة، أثناء غزو القبائل العربية الجاهلية الإسلامية لها. لا شك وعلى الخلفية الثقافية؛ والبيئة التي خرجت منها تلك القبائل، كانت المكاتب والأثار الأدبية، كقيمة نوعية أو ثمن مادي، آخر ما يجلب انتباههم، فالحفاظ عليها أو جمعها لم تكن تجلب لهم الأموال والذهب، خاصة وأن المدينة كانت مليئة بالبضائع التي لا توصف مقارنة بما كانت لأبناء الصحراء القاحلة، إلى جانب الأطفال والنساء التي كانوا جزء من الغنائم ومن السهل بيعها في أسواق النخاسة، وهذه الغنائم كانت من ضمن العوامل المشجعة للقبائل العربية غير الإسلامية على المشاركة في الغزوات الإسلامية! وقد كتب عنها معظم المؤرخين المسلمين كالطبري والبلاذري والحموي وأبن الأثير وأبن الكثير وغيرهم، إلى جانب مؤرخين وباحثين في العصر الحديث، كالباحث الفرنسي (لوسيان بولسترون) وبشكل خاص في كتابه (كتب تحترق) الفصل الرابع، رغم ما يتخلل الكتاب من تأويلات متحيزة.
والفكرة المنتقاة من جميع المؤرخين، واستناداً على الخلفية الثقافية للقبائل العربية ومنطق قادة الغزوات، والتي أسلفناه سابقاً، هي أنه لا يعقل أن تنجوا تلك المكتبة من التدمير والنهب، خاصة وأن مقتنياتها كانت أكثر من وجود الكتب، وهي ما نهبت وأرسلت مع بناة كسرى والسجادة المشهورة في التاريخ إلى المدينة، والتي شاور فيها الخليفة عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب، وعلى أثرها قطعت السجادة ووزعت، وضاعت مع الأثار التاريخية الأخرى لتلك الحضارة. ونحن هنا لسنا بقصد الحكم على الماضي العربي الإسلامي، بقدر ما نطمح إلى تبيان أسباب ضياع الذخيرة الثقافية لشعوب حضارية، لو تم الحفاظ عليها لكانت ركيزة لتطور الإمبراطورية الإسلامية ذاتها، وبنية أساسية لقيام حضارة جديدة على أنقاض المدمرة.
التمعن في مجريات الأحداث، ومنها منطق بناء العمران، عند القبائل العربية الإسلامية الغازية، توضح مدى إهمالهم أو تقييمهم للرموز الحضارية، فغرابة بناء الكوفة والبصرة (بجانب كنائس قديمة كانت موجودة في المكان) توضح ما آلت إليه مصير المدن، والمكاتب، فالمدينتين بنيتا من القصب أولا، ولسبب ما احترقتا، وعلى أثرها سمح لهم الخليفة عمر بن الخطاب البناء بالطوب واللبن. وهنا على المؤرخين الانتباه إلى أنه لم تكن فقط نسخ الكتب أو تداولها محظورة، بل وإقامة البناء الدائم، أي العمران والسكن الحضري، أيضاً في المناطق الغازية كان محظوراً.
وبعد رسالة الخليفة إلى قادة الجيش العربي الإسلامي، والسماح لهم ببناء بيوتهم ومسجد، عمر معظمهم مساكنهم على أنقاض قصور المدائن والحيرة ورخامهما. ففي هذا يقول أبن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) لسنة سبع عشرة، الصفحة(352-354) ” فارتحل سعد(ابن أبي وقاص) من المدائن حتى نزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة…واستأذن أهل الكوفة في بنيان القصب، واستأذن فيه أهل البصرة أيضاً…ثم أن الحريق وقع في الكوفة والبصرة، وكانت الكوفة أشد حريقا في شوال، فبعث سعد نفرا منهم إلى عمر يستأذنوه في البنيان باللبن…فقال: افعلوا ولا يزيدن أحدكم على ثلاث أبيات، ولا تطاولوا في البنيان…وبنى ظلة في مقدمة مسجد الكوفة على أساطين رخام من بناء الأكاسرة في الحيرة، وجعلوا على الصحن خندقاً لئلا يقتحمه أحد ببنيان، وبنوا لسعد دارا بحياله، وهي قصر الكوفة اليوم، بناه روزبه من آجر بنيان الأكاسرة بالحيرة، وجعل الأسواق على شبه المساجد من سبق إلى مقعد فهو له، حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغ من بيعه” ولا شك العملية تبين، حالتين، الأولى أن الباني هو من أبناء شعوب الحضارة الساسانية، والذين لولا هذا الحدث لم كان له ذكر، وهي تبين مدى تقدمهم في هندسة البناء، ولا شك هذا الحدث يعكس المعرفة الخلفية الثقافية الأدبية والفلسفية الحتمية للشريحة التي كان ينتمي إليها البناء (روزبه)، والثانية: مدى العبثية بالحضارة، وعدم تقييم القبائل العربية للمدنية، أو ربما كرههم المترسخ على مدى القرون التي كانوا فيها تحت هيمنة الساسانيين. وهناك خلاف بين أبن الأثير واليعقوبي وبين كل من الطبري والبلاذري، وياقوت الحموي، فهؤلاء يعيدون سنة البناء إلى عام 14 هجرية، وأن الذي بناها هو عتبة بن غزوان، لكن الجميع متفقون على أنها كانت “أقصى أرض العرب وأدنى أرض العجم” كما ورد عند البلاذري في رواية عن عمر بن الخطاب.
وهذه الحقائق التاريخية ليست للطعن في الشخصية العربية بقدر ما هو محاولة للفصل بين التاريخ الصحيح من المفبرك، والذي عملت عليه السلطات العروبية وعلى مدى قرون، شوهوا بها ثقافات وأفسدوا المجتمع العربي الإسلامي ذاته، قبل المجتمعات المحتلة والتي غزيت وسلبت وسبيت.
وللتغطية على الحدث التاريخي وإبعاده عن الحقيقة أو دحض الجدلية، عرض الكتاب المسلمون المعاصرون، حجة غريبة، وهي أن مكتبة (كيتسفون) المدائن مع المعابد الزرادشتية كانت قد تعرضت إلى الحرق والتدمير أثناء اجتياحات الإسكندر المقدوني، ولم تقم لها قائمة بعدها. حتى لو سلمنا جدلاً بأنه لا يمكن نفيها، أو التأرجح بين حدوثها من عدمه، فلا تخلى الحروب من التدمير، والاغتناء، لكن التهمة وفي هذا الحيز الثقافي، ملغية بحججها، حسب اعتقادنا، لعدة أسباب وعوامل، منها: أن الفترة الزمنية ما بين الاجتياح المقدوني والإسلام 900 سنة، برزت خلالها حضارات جديدة وبنيت مكاتب ومدارس عديدة، وصلتنا أسمائها دون نتاجاتها، ولا يستبعد أن الإسكندر المقدوني قد جمع كتب مكتبة ومدارس المدائن، وأرسلها إلى الإسكندرية وبنى بها المكتبة المعروفة تاريخيا، ويقول في هذا أبن النديم في كتابه الفهرست الصفحة(240) ” خرج الإسكندر ملك اليونانيين غازيا أرض فارس…أخذ ما كان يحتاج إليه من علم النجوم والطب والطبائع فبعث بتلك الكتب وسائر ما أصاب من العلوم والأموال والخزائن والعلماء إلى بلاد مصر وكانت قد تبقت أشياء بناحية الهند والصين كانت ملوك فارس نسختها على عهد نبيهم زرادشت”. ومن المعروف أن مدينتي اسكندرونه والإسكندرية ومكاتبها، وبعض المكاتب في المدن الواقعة في الجغرافية الكردية كانت من دعم اليونانيين في فترة اجتياح الإسكندر المقدوني للمنطقة، إلى جانب أن الفترة التي بقي فيها اليونانيون هناك لا تتجاوز عقدين من الزمن، كما وهم بذاتهم كانوا قادمين ومعهم حضارة وفلسفة كفلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو ومعظم قادة جيوشه كانوا طلاب المدرسة الرواقية، ومن أحضان حضارة لا تقل عن الحضارة الأخمينية حينها، حتى ولو اختلفت الأديان، فكان لهم تقييم ما للعوالم الحضارية.
ولا تعني هذا أننا ندافع عن الاجتياحات المقدونية وتدميره لبلدان عديدة حتى ولو بني مقابلها، لكن عملية تدميره للمدائن ومكتبتها، غير منطقية، فيقال إن الإسكندر المقدوني كان يرسل الكثير من الكتب والمعلومات الثقافية، إلى معلمه أرسطو. وأيا كانت مخلفات التدمير أو النهب وأرسالها إلى مقدونيا فالفترة الزمنية اللاحقة كانت كافية لإقامة مكتبة عظيمة والتي أقيمت على صرحها الحضارة الساسانية، ساندتها أكبر الإمبراطوريات في ذلك العصر.
وفي هذا يقول أبن النديم في كتابه المذكور سابقا وفي نفس الصفحة ” أن ملك أردشير بن بابك من نسل ساسان (الكردي) …بعث إلى بلاد الهند والصين في الكتب التي كانت قبلهم، وإلى الروم ونسخ ما كان سقط إليهم وتتبع بقايا يسيرة بقيت بالعراق فجمع منها متفرقاً وألف منها ما كان متبايناً وفعل ذلك من بعده أبنه شابور حتى نسخت تلك الكتب كلها بالفارسية….وعمل بها مثله كسرى أنو شيروان لنيته في العلم ” ونعلم أن مدينة (كيتسفون) المدائن كانت عاصمة الإمبراطورية وجمع فيها هؤلاء الملوك تلك الكتب، إلى جانب المدرستين العظيمتين اللتين بنيتا بمساعدة العلماء الذين هربوا من مصر إلى مدن الإمبراطورية الساسانية.
وهما مدرستي حران وكنديشابور، بناهما الوافدون من مصر بسند من ملوك الساسانيين، جمعت فيهما الألاف من الكتب، وتم ذكرهما في معظم المصادر التاريخية الإسلامية وغير الإسلامية. ولا شك مثل هذه المدارس كانت تحتضن شريحة من العلماء والفلاسفة والأدباء لتدريس الطلاب من شعوب المنطقة، وكانت تحتوي على كتب علمية وأدبية كمواد للتدريس، ومعظمهم طلابها ومدرسيها من أبناء الكرد والفرس والأراميين وغيرهم، والغرابة أنه لم يصلنا أثر أدبي علمي فلسفي واحد من تلك المدارس، بل وقبلها وعلى مدى جميع مراحل ما قبل الإسلام، ولا يمكن إلقاء المذمة على عامل غير عامل التخلف الفكري المؤدي إلى تدمير كل ما ليس له علاقة بالسبي والثروة المادية.
ويبقى السؤال المحير، حتى ولو افترضنا أن مكتبة كيتسفون وغيرها لم تكن تحتوي على أثار أدبية ومنذ تدمير الإسكندر المقدوني لها، فكيف يمكن بناء الحضارة اللاحقة، وهل يعقل أن تقام على الضحالة الأدبية والفكرية والفلسفية، وإن كان الجواب هو النفي، وهو ما يتقبل المنطق والعقل المعرفي، فأين اختفت الآثار الأدبية، وكتب مدارس أربيل؛ وحران؛ وكنديشابور؛ ونصيبين، وغيرها، وهل يعقل بأنه لم تكن في تلك المدن شعراء وأدباء وفلاسفة حين تم غزوها وتدميرها، هل تم سبيهم مع عائلاتهم، أم قتلهم مع آثارهم الأدبية؟
ذخائر هذه المكاتب هي التي نبحث عنها لمعرفة أسماء الأدباء وفلاسفة ميديا الكرد، والفرس، ونتاجهم، وللأسف وهو ما لا نجد لهم من اثر بعد، رغم الذخيرة العلمية الهائلة التي كانت تحتضنها جدران تلك المكاتب، والسبب الوحيد الذي نصطدم به، هو الدمار الذي خلفته القبائل العربية الإسلامية الغازية، وتأكيدا على هذه نأتي بما قاله أبن النديم مرة أخرى في كتابه الفهرست الصفحة(242) منقولا عن محمد بن أسحاق ” أنه انهار في سنة35 من سني الهجرة أزج آخر لم يعرف مكانه لأنه قدر في سطحه أنه مصمت إلى أن أنهار وأنكشف عن هذه الكتب الكثيرة التي لا يهتدي أحد إلى قراءتها والذي رأيت أنا بالمشاهدة أن أبا الفضل بن العميد أنفذ إلى هاهنا في سنة نيف وأربعين كتباً منقطعة أصيبت بأصبهان في سور المدينة في صناديق وكانت باليونانية فاستخرجها أهل هذا الشأن مثل يوحنا وغيره، وكانت الكتب في نهاية نتن الرائحة حتى كأن الدباغة فارقتها عن قرب” ؟!
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
[1]