=KTML_Bold=د. محمود عباس: هل كان للكرد أدباء وفلاسفة قبل الإسلام - الجزء السادس=KTML_End=
لا شك أن البحث والتنقيب عن الآثار الأدبية والفلسفية أولى من عرض الأسباب المؤدية إلى الاندثار، لكن معرفة خلفيات الضياع قد تفتح أمامنا أبوابا مفيدة في العمل وتحديد الأماكن التي يجب التنقيب فيها، وعليه سنقدم حلقات في هذا المنحى.
تضاربت الفرضيات حول أسباب فقدان (أم عدم اعتراف) أسماء ونتاج الأدباء والشعراء وفلاسفة الشعوب غير العربية، قبل الإسلام، التي تمت غزوها، في الوقت الذي تم الاحتفاظ فيها بأدق تفاصيل شعراء الجاهلية من العرب، ولم تكن منسوخة إلا نادراً، والنادرة مطعونة في حقيقة نسخها، لأن نسخ الشعر، حسب أغلبية المصادر التاريخية، بدأت في منتصف العهد الأموي، عندما بدأ تداول الرًق أو الورق الساساني والقلم في الكتابة، علماً أن بدايات ظهور شعراء الجاهلية، وحسب العديد من المصادر، لم تتجاوز مئة عام قبل ميلاد الرسول!
وللولوج في هذه المعضلة، لا بد من استخدام الاستقراء والاستنباط، والاستناد على الأسماء التي وردت في الحلقات السابقة، والتدمير الممنهج لآثارهم، والمشابهة للعديد من الكتاب الكرد والفرس، الذين برزوا في عصر الخلفاء، عندما نقدوا الإسلام، والغزوات العربية المتغطية تحت الرسالة السماوية، ك(يحيى بن إسحاق الراوندي 827م-911م) على سبيل المثال لا الحصر، ورغم أن حركة الترجمة والكتابة في هذه الفترة دعمت من بعض الخلفاء كالمأمون، إلا أن جميع كتبه أتلفت والتي يقال أنها بلغت المائة، تحت حجة الكفر والتكفير، وهي ذاتها التهمة التي كانت تطلق على الأدب وفلسفة الكرد والفرس قبل الإسلام، إلى جانب العديد من المصادر المتناولة للإشكالية التاريخية هذه وبشكل غير مباشر، ومعظمها تبين أن حركة أدبية متطورة مشابهة إن لم تكن أرقى من الحضارات المجاورة كاليونانية والهندية والرومانية، كانت تسود بين الشعوب الساسانية قبل الغزوات، وظلت آثارها مهيمنة على المجتمع حتى قرون تالية، والتي على أسسها نتجت الآداب السلطانية في بدايات العصر العباسي، وهو أسلوب مأخوذ بحذافيره من أدباء الكرد والفرس، أستخدمها أبن المقفع، في كتبه وخاصة في كليلة ودمنى.
ولربما كمحاولة للقضاء على تأثير الثقافة الساسانية وهيمنتها على المجتمع، كرست السلطات الإسلامية العربية على نشر الثقافة البدوية الجاهلية، تحت خيمة الثقافة الإسلامية مقابل المجوس الساساني. وإلى جانبها نشرت الخلافة العباسية، مفاهيم شاذة بين المجتمع، بعضها منحطة أخلاقياً، كإطلاق صفة الساساني على الشريحة الدنيا من المجتمع، إلى أن أصبحت كلمة (الساساني) تعني (المتسول أو الشحاذ) بين العرب. ولا شك كانت ردة عربية قبل أن تكون إسلامية، لتشويه القيم الأخلاقية للديانة الزرادشتية من جهة، والحضارة الساسانية من جهة ثانية، ومن خلالها تم القضاء على هيمنتها بين المجتمع لديمومة الاحتلال العربي تحت الغطاء الإسلامي.
ولتوضيح إشكالية التدمير الثقافي، أو الضياع غير المتعمد أو المتعمد، سنعرض بعض القضايا المثارة، منذ قرون، وبجدالات عقيمة. وهي إحدى أهم (إشكاليات التاريخ) والتي على أثرها تبقى أسيرة الاحتمالات، حاملة الوجهين، فيها من التأكيد على قدر الطعن:
أولاً-عدم معرفة القبائل العربية الغازية القراءة والكتابة، إلى جانب عدم فهمهم لغات تلك الشعوب.
ثانيا-الخلفية الثقافية البدوية الجاهلية لم تعير أهمية للثروة المعرفية، وخاصة للكتب، ضمن بيئة جاهلية لا ثمن لها مقابل السبايا.
ثالثاً-حتى ولو تجاوزنا السببين الأولين، وأسلمنا جدلا عدم فعاليتهما، فإن عدم معرفتهم للكتابة والقراءة بعربية قريش لغة السلطة والإسلام، عجزتهم عن نسخ أو ترجمة الكتب، أو ما سمعوه من الشعوب، إلى لغة النص القرآني، كما ولم يستطيعوا حفظها كما كانوا يحفظون الشعر العربي. (يقول نولدكه في كتابه لغات الشرق أنه كانت للقبائل العربية لهجات متفاوتة إلى سوية لغات خاصة، قبل هيمنة لغة القرآن، لغة قريش)
رابعاً- (لمعرفة مكانة الكرد قبل وبعد الإسلام، سنذكر التالي: مثلما كان الميديون في نهاية القرن السابع الميلادي أول من سهلوا الرّق للكتابة عليه، فإن الفضل بن يحيى البرمكي الكردي أول من أنشأ، في عهد هارون الرشيد، مصنعاً للورق ببغداد، ويقول أبن النديم في كتابه الفهرست الصفحة (144) أن البرمكي كان صاحب أضخم مكتبة حينها، وكانت تحتوي على ستمائة صندوق مملوءة بالكتب، وكان له مملوكان يكتبان له ليلا ونهارً ) وبعزل المذكور سابقا، تبقى أهمية وجود أو عدمية المادة، الورق والحبر السهل الكتابة عليه وبه، من أهم القضايا التي ربما حددت من إمكانيات السلطات الإسلامية للاستفادة من تلك الكتب، فيما لو ترجمت إلى لغة المستمع، أي العربية، وهو ما حدث بعد مرور ثلاثة قرون من الزمن على الغزوات الأولى، وانتباههم للضحالة المعرفية التي هم فيها مقابل الشعوب التي تمت احتلالها، وفي مرحلة كان الضياع قد بلغ نهاياته، ولم يسلم شيئا يمكن ذكره، وما تم تناقله بالقول نسبها الشعراء العرب إلى ذاتهم، ومثلها بالنسبة لآثار الفلاسفة ومفاهيمهم، والتي نقلها فقهاء المسلمين ببديل ملائم للنص القرآني سمي ب(علم الكلام) واستخدموه في صراعاتهم الفقهية والمذهبية، وعلى اثرها ظهرت تأويلات الطرق الصوفية الإسلامية، خاصة بين أدباء وفلاسفة دخلوا الإسلام ويعيشون ضمن مجتمع لا تزال تسيطر عليه الثقافتين الدينية والاجتماعية، الزرادشتية والمانوية والمزدكية، وكانوا يحملون مفاهيم الحضارة الساسانية الروحانية، كفرتها وكفرتهم السلطات الإسلامية العربية التجسيدية، ومن بينهم قادة الخوارج، والمعتزلة؛ والقرامطة؛ وقادة ثورة العبيد؛ والموجات الصوفية المؤدية إلى ظهور عدة مذاهب باطنية في الإسلام، ومتصوفون كان لهم تأثير على المجتمع كالحلاج، وكثيرون غيره، ومعظم قادة هذه الحركات كانوا من الشعوب غير العربية، ووجود العنصر الكردي كان بارزاً بينهم.
خامساً-الموجة المنافية للترجمة تحت حجة أنها تنقل المفاهيم المبطنة والمعادية للإسلام، وهو ما ذكره (جاحظ) وشكا منها، ذاكراً (أن الترجمة إلى العربية من الكتب المنانية والديصانية والمرقيونة المارقة تفسد عقول العوام، وهو من صنع اليهود) لذلك قضت السلطات الإسلامية العربية على تلك الكتب كخطوة استباقية لئلا يطلع عليها المسلمون من الشعوب التي تعرف لغاتها، ومنعت ترجمتها إلى العربية.
سادساً-قادة القبائل العربية الإسلامية، بدءَ من عام 18 هجرية، والتي لم تقبل لغة منافسة للغة القرآن، لغة الجنة، لغة الإسلام، ولغة الصلاة والتكبير، رفضت كتباً بديلة عن النص الإلهي، خاصة المكتوبة بلغة الكفار. وعلى أثرها، تم إلغاء كل الثقافات الواردة بلغات غير العربية، ولم تكن في العربية حينها كتاب غير القرآن، وحتى أن معظمه لم يكن منسوخا، وما تم كتابته في عهد عمر بن الخطاب، أعيد النظر فيه في عهد عثمان أبن عفان، لذلك رفض العمل بالنسخة المحفوظة عند حفصة بنت عمر بن الخطاب، وفي هذا جدال. والبعض يؤكد أنه تم نسخه بشكل تام في عهد عثمان بن عفان، وفي هذا طعن أيضاً.
ومن ثم وفي الفترة التي تم فيها بلوغ العرب المدن الكبرى وسيطروا على دواوينهم ومكاتبهم ومدارسهم، وجلبوا الورق من الأمصار، نسخوا القرآن الذي جمعه الخليفة الثالث عثمان بن عفان بسهولة، وهو أول الكتب المنسوخة على الورق عند العرب، فانتشر ككتاب سهل التداول بين المجتمع، ولأنه كان النص الإلهي الذي لا يقارن وكل الآداب تزول بحضوره، تم تسييد لغته على شعوب الحضارتين الساسانية والبيزنطية، وتلاها تدمير الحضارات والآثار الأدبية الباقية، من الساسانية إلى جزء من الرومانية البيزنطية، والقبطية، والأمازيغية، وهكذا طمر قادة الغزوات الإسلامية العربية ما كان يتوقع أن يكون على سوية ما خلفته الحضارة اليونانية للبشرية من فلسفة وعلوم، تحت عامل أن القرآن يستغني عن كل الثقافات والكتب، إلى جانب عوامل أخرى منها:
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
[1]