=KTML_Bold=طموح دولة كردستان المستقلة في خريطة الطريق لعبدالله أوجلان=KTML_End=
د. محمود زايد
في عام 2009م كتب عبد الله أوجَلان كتابًا “باللغة التركية“ موجّه للحكومة التركية حول رؤيته الجديدة لمستقبل القضية الكردية في شمال كردستان (الجزء الواقع ضمن الحدود السياسية لتركيا حاليًّا). وقامت السيدة “زاخو شيار” بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية تحت عنوان: “خريطة الطريق .. قضايا الدمقرطة في تركيا .. نماذج الحل في كردستان“. وطبعته مطبعة آزادي في عام 2012م. وأهدته لي طالبة الماجستير الكردية أ. ديرادان نور الدين، فأقدم خالص شكري وتقديري لها.
وفي هذا الكتاب، وضع أوجلان خريطة جديدة لحل القضية الكردية في تركيا من خلال عدة أُطر اصطلاحية، ونظرية، ومبدأية، ودستورية؛ مجسدًا بعض الحلول المقترحة، وواضعًا لها المخططات العملية الممكن تنفيذها على مدى مراحل متعاقبة تؤدي في النهاية إلى وضع تصور جديد للقضية الكردية في ظل الحدود السياسية لتركيا.
فمن الناحية الاصطلاحية، يرى أوجلان ضرورة اعتراف النظام التركي بمصطلح “كردستان“، مثلما سبق وأنْ اعترفت حكومة العدالة والتنمية مؤخرًا بمصطلح “الكرد“، الذي كانت تنكره الحكومات التركية منذ تأسيس الجمهورية التركية وحتى نهاية القرن العشرين تقريبا. كما يرى أوجلان وجوب تحول تركيا من دولة قومية جمهورية إلى “جمهورية وطن مشترك“، يضم بين حدوده عدة أجناس متباينة في الأصل واللغة والعادات والتقاليد، كالترك، والكرد، والأرمن وغيرهم، في شكل أطلق عليه أوجلان: “الأمة المشتركة“. ومعنى ذلك ألا وجود لما يسمى ب “الدولة القومية“؛ لأن الدولة القومية لا تعترف بين أركانها إلا بوحدة القوم واللغة والتاريخ المشترك. ومن ثم يقول أوجلان: «بالمقدور حل القضية الكردية داخل الجمهورية، لكن لا يمكن حلها بتاتًا داخل الدولة القومية التي تعني إنكار الجمهورية». أي لابد من تغيير جوهر تركيا من دولة قومية إلى وطن مشترك تطبق فيه نظرية “الأمة الديموقراطية“، التي يكون فيها الفرد هو الأساس قبل الدولة. وبهذا التصور يتنازل أوجلان عن طموح “دولة كردستان المستقلة” كما هو واضح.
أما عن المبادئ التي يرى أوجلان أن الديمقراطية الحقيقية لا تتحق إلا بها، فقد لخصها في عدة مفاهيم، مثل: 1- الأمة الديمقراطية، لا أمة الدولة. 2- الوطن المشترك الذي يتألف من مواطنين متعددي اللغات والقوميات والأديان، لا الوطن الذي تنتسب إليه إثنية ذات لغة واحدة ودين واحد…إلخ. 3- الجمهورية الديمقراطية، لا الدولة القومية. 4- الدستور الديمقراطي المسنون بتوافق مجتمعي، حيث اعتبر أوجلان الدستور الديمقراطي بمثابة الصمغِ الذي يجعل المجتمع والدولة جنبًا إلى جنب. 5- الحل الديمقراطي الذي ينشط في بنية المجتمع بدلًا من الانكباب على إجراء التغييرات الشكلية في بنية الدولة. ويرى أوجلان أن ذلك يحقق الرفاه والسعادة الاجتماعية عوضًا عن سعادة الدولة، وهذا يُنقذ المجتمع من إرغامات الحل السلطوي الدولتي على حد تعبيره. 6- وحدة الحقوق والحريات الفردية والجماعية، كلٌ على السواء. ويعتبر أوجلان الحقوق والحريات قيمٌ لا يمكن عيشها إلا بوجود الفرد والمجتمع معًا، وبتشاطرهما إياه. 7– الحرية الإيديولوجية والاستقلال الإيديولوجي. 8– وعيّ الحاضر من خلال القضايا التاريخية ذات الصلة؛ لأن أوجلان يرى أن المجريات الحاصلة في التاريخ هي الظروف الأساسية التي تحدد الحاضر. والحاضر عبارة عن حالة يُقدم التاريخ فيها ذاته بكل مشاكله وفرص حلها. والفارق الوحيد بينهما أنه لا يمكن التدخل في الماضي في حين أنه من المقدور التدخل في الحاضر بتغييره أو بتسريع عجلته. والمستبدون في هذه الحالة يذكر أوجلان أنهم يقومون بالقضاء على الذاكرة الاجتماعية بكل حقائقها أو تزويرها، ثم تقديم الحاضر وكأنه بلا نهاية، أو على أنه نهاية التاريخ، ولا تغيير بعده. 9- مبدأ الأخلاق والضمير، فبهما يُحمى المجتمع من جبروت وسلطة القوة المجردة. 10- مبدأ الدفاع الذاتي في الديمقراطيات؛ لتحقيق فرصٍ متساوية للفرد في الحياة، مؤمِّنًا شروط الحياة الثلاث: (التوالد والمأمن والمأكل)، حيث لا استغناء عنها من أجل المجتمع البشري.
وفي ظل هذه المبادئ التي طرحها أوجلان التي اعتبرها الأسس الأولية لحل القضية الكردية، رأى ضرورة التخلص مما أوجدته الحداثة الرأسمالية التي أوجدها المحتل والمستعمر الغربي تحقيقًا لمصالحه الخاصة، التي رأت أن هيمنتها تمثلت في الإبادة القومية والتجهيل والشرزمة. وفي المقابل، فإن للقضية الكردية حسب المحيط الحدودي التي تقع في إطاره الحل الذي يراه مجتمعه، بين الفيدرالية الداخلية مثلما في جنوب كردستان، أو ضمن الأمة الديمقراطية فيما يؤمل في شمال كردستان في شكليها الفيدرالي أو الكونفيدرالي. وحدد أوجلان الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والدبلوماسية لهذا الحل، ونِسبِ كلٍ فيها.
ولم يترك أوجلان حلوله المقترحة مجردة في إطارها التنظيري فقط، وإنما وضع لها من وجهة نظره مخططًا عمليًا لتطبيقه على أرض الواقع، فهو يؤمن بأن كل نموذج حلٍ مطروح بشأن القضايا الاجتماعية لن يتعدى كونه رياضة ذهنية ما لم يُعبر عن قيمة ميدانية. وأن قيمة التحليلات الناجحة لن تتحدد إلا في الممارسة العملية. وقد حصر أوجلان المخططات العملية في ثلاثة أمور: الأول: مخطط حل التخلي عن الإنكار والإبادة التقليدي. وأشار أوجلان إلى أن كل الكرد – ما عدا من أسماهم بالمتواطئين – قد أسهموا في ذلك، واعتبر أن PKK هو في منزلة الرائد والطليعي في مقاومة الإنكار والإبادة، بما يمتلكه من طاقة وآفاق تخوله تطبيق مخططاته بمنوال شامل، وأن PKK هي القادرة على الانتقال من مخطططات الدفاع السلبي إلى مخططات الدفاع الفعال.
الثاني: مخطط الحل الفيدرالي القومويّ، حيث يرى أوجلان ضرورة تطبيقه في كل أجزء كردستان المنقسمة، مثلما تم في إقليم كردستان العراق. وطالب أوجلان كل الأطراف الكردية ضرورة التعاون في ذلك، لكسر الهيمنة الإقليمية والغربية التي تريد أن تحصر الأمر في كردستان مصغرة في إقليم كردستان العراق، أما بقية الأجزاء فتذوب وتنصهر في القوميات والدول الأخرى. وذلك لن يكون إلا بالقضاء على سياسة “فرق تسد” التي زرعها المحتل بين الكرد، ودعم ال PKK في سياسته ونضاله العسكري.
الثالث: مخطط الحل الديمقراطي. وتطبيقه في حال عدم التمكن من المخططين السابقين. ولأن المستجدات العصرية تسير في منحى الدمقرطة فإن ذلك يضاعف من فرصة قابلية تطبيق الحل الديمقراطي لأول مرة على الرغم من كل السياسات المضادة من قبل الجبهات الشوفينية.
وحدد أوجلان ثلاث مراحل لتحقيق مخطط الحل الديمقراطي. المرحلة الأولى بأن تعلن PKK استتباب أجواء السلم وعدم الاشتباك بنحو دائم دون الانجرار نحو الألاعيب والاستفزازات، مع مواظبتها على إعداد الراي العام. المرحلة الثانية: تشكيل لجنة الوفاق وتقصي الحقائق بمبادرة من الحكومة التركية وبمصادقة البرلمان، بحيث تساعد على تذليل العوائق الحقوقية من خلال مقترحاتها، وتشكيل مؤسسة عفو، وإطلاق سراح كل المعتقلين من PKK. وفي حال تذليل كل العقبات يقوم PKK بسحب القوات خارج الحدود التركية بمراقبة دولية ومعها ما أسماه أوجلان: الإدارة الفيدرالية الكردية في العراق. المرحلة الثالثة: عودة كل المهجرين والمنفيين والمطاردين والمعتقلين الكرد، خاصة من مسؤولي ال PKK (بما فيهم أوجلان) دونما مسائلة مع وضع أسس للأنشطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والديمقراطية والعلنية من جميع النواحي.
وقد خصّ أوجلان وضعه عن غيره من القادة الكرد في تركيا بعدة أمور، منها أن إطلاق سراحه يكون تأسيسًا على مرافعة له سيتقدم بها إلى لجنة الوفاق وتقصي الحقائق، وأنه يجب تأمين الأجواء لقيامه بمهامه الوظيفية في التجهيز للحل الديمقراطي بضمانات دولية كبرى، وكذلك تأمين الدعم والمساندة اللازمة من أجل تغطية كافة احتياجاته المعيشية، بما فيها الإقامة والمسكن.
هذه كانت نظرة عامة حول رؤية أوجلان لحل القضية الكردية في تركيا، أردت عرضها حسب قراءتي وفهمي لها. ولا شك أن كتابه (خريطة الطريق) قد اشتمل على عدد من النقاط والموضوعات الفرعية التي تؤصل أو تخدم فكرته من الناحية التأريخية والفلسفية، مثل: قضية نشوء الديمقراطية في تركيا وتطورها، وعواملها الجزئية والكلية. وأصول العلاقات الكردية التركية، وموضوع سباق الجمهورية مع الدولة القومية التركية المتزمتة المتطرفة ذات البنية السلطوية المهيمنة المضادة للديمقراطية، واعتبر أوجلان أن صراع PKK مع الدولة القومية التركية وليس مع جمهورية تركيا.
لكن المهم ما ذكره أوجلان في نهايات كتابه أنه كتب مقترحاته، وأن الكرة الآن في ملعب الحكومة والبرلمان التركي، وأنه مستعد لمناقشة طروحاته ومقترحاته، وأنه متقبل لتعديل ما طرحه إذا ما قدم الآخرون ما يقتنع به. أما في حال تقاعس الحكومة التركية فإن هذا سيؤدي إلى تصاعد المقاومة الكردية الشاملة لصون وجود الكرد وجعلهم أحرارًا، ولم يعتبر أوجلان ذلك تهديدًا، وإنما عملية اضطرارية أمام انسداد الحلول الديمقراطية السلمية.
وفي نهاية هذه القراءة المطولة لكتاب خريطة الطريق، أستطيع أن أقول أن أوجلان تخلى عن طموح دولة كردستان المستقلة، ورضي بنموذج فيدرالي ضمن جمهورية وطن مشترك يحكمه دستور ديمقراطي توافقي بين الجميع.
وأخيرًا، أؤكد ما ذكرته سابقا، أن ما كتبتُه هي قراءة سريعة للكتاب. ولا شك أن لي كثيرا من الملاحظات والانتقادات لبعض ما طرحه أوجلان، لكني أريد أن أترك القارئ تجاهه؛ فهو بذاته قادر على التحليل والتفسير، خاصة من لديه جانب معرفة بمضمون أبعاد القضية الكردية في أجزائها الأربع.[1]