معد فياض
على عادة ملوك بلاد ما بين النهرين، حيث يدونون للتاريخ وللاجيال القادمة، اعظم منجزاتهم ، مثلما فعل حمورابي ونبوخذ نصر وكلكامش وآشور بانيبال، فان الملك سنحاريب دون على قمة الجبل الذي نحتت عليه نقوش آشورية في منطقة#خنس# ، 63 سطرا بالاحرف المسمارية ليوضح اهمية خنس وما انجزه من مشاريع الري، مستهلا بذكر الالهةالعظام كقسم وليمنح قدسية ومصداقية ومشروعية لما يذكره، حيث يقول في تلك المنحوتة التي ما زالت قائمة في خنس: الآلهة: آشور، آنو، إنليل، إيا، سن، شمش، أدد، مردوخ، نابو، عشتار، سبتو جعلت حكام الجهات الاربعة يسجدون عند قدمي.
في هذا الوقت قمت بتوسيع مدينة نينوى بشكل كبير واعددت سوره الداخلي والخارجي الذي لم يسبق بناؤه من قبل ورفعتها الى ارتفاع الجبال.
كانت حقوله قد تحولت الى اراضي قاحلة بسبب نقص المياه ولم يكن لسكانها دراية بالري وعيونهم كانت على الامطار من السماء.. لقد صعد عاليا وحفرت ثمانية عشر قناة من مدن ماسيتو، بانبارينا، ويذكر اسماء مدن اخرى.
من هنا نتأكد ان خنس، التي تقع على بعد 50 كيلو مترا من مركز محافظة دهوك في اقليم كوردستان، هي ليست منطقة آثارية فحسب، بل تم نحت صخور جبلها وتحولت الى موقع آثاري بسبب القناة التي امر الملك الآشوري سنحاريب بحفرها.
سمي الموقع بأسم منحوتات خنس نسبة الى قرية خنس الحالية التي ذكرت في كتاب الملك الآشوري سنحاريب بأسم ( خانوسيا) .وحسب مدير آثار محافظة دهوك، الاكاديمي، عالم الآثاري بيكس بريفكاني، المتخصص في آثار اقليم كوردستان والحاصل على شهادته العليا من جامعة(ليل) الفرنسية، فأن: موقع خنس من اهم المواقع الاثارية في العراق بصورة عامة وفي أقليم كوردستان بصورة خاصة، وهو ليس موقعا اثريا فقط بل اكثر من هذا بكثير.
معجزة شبكات الري
بريفكاني يوضح في حديثه لشبكة رووداو، قائلا: عندما بدأ الملك الآشوري سنحاريب مشروعه الاروائي بحفر قناة من هذا المكان لاخذ المياه من نهر كومل الذي يجري بمحاذاة خنس، بالضبط الى عاصمته الآشورية نينوى، قبل اكثر من 2700 سنة، ومدها بمسافة 80 كيلومترا، بارك المكان بنحت صوره وصور الاله آشور في اكثر من موقع على حافة الجبل. منبها الى ان: جميع المشاريع الاروائية التي نفذها سنحاريب، بقنواتها وتفرعاتها وقناطرها وسدودها بلغت اطوالها اكثر من 340 كيلو مترا.
يضيف مدير آثار محافظة دهوك قائلا: عندما احتل الملك سنحاريب منطقة خنس، في القرن الثامن قبل الميلاد، كان منسوب المياه في نهر دجلة الذي تقع عليه عاصمته نينوى في انحسار دائم اضافة الى تلوثه بمياه عيون الكبريت القريبة من النهر، لهذا كان لا بد من علاج لضخ مياه اضافية الى نهر دجلة ولتنقيته من الكبريت، وايضا لسقي الاف الهكتارات من الاراضي الزراعية من هنا حتى نينوى ومناطق اخرى، ونفذ في عهده اضخم المشاريع الاروائية ليبسط سيطرته على مملكته من جهة ويتقرب من شعبه من جهة ثانية، لهذا نقرأ ما كتبه في منحوتة في اعلى الجبل في خنس حول هذا الموضوع، قائلا:( الآلهة العظام اللذين ينصبون الملك لقيادة العالم. . سنحاريب الملك العظيم ، الملك القوي، ملك العالم ، ملك آشور ملك الجهات الاربع من العالم..حفرت قناة من حدود مدينة كيسرو الى نينوى وتسببت في تدفق المياه فيها. . بامر الاله آشور السيد العظيم اضفت اليها المياه .. انا سنحاريب ملك آشور حاكم كل الملوك على مياه القنوات التي حفرتها جعلت منها اشجار الفاكهة بانواعها). وهكذا يذكر كيفية بناء القناة وكيفية الحفر والاماكن التي وصلت اليها وطريقة وصول وعبور المياه.
ثور مجنح ثلاثي الابعاد
يستطرد عالم الآثار بيكس بريفكاني قائلا: بعد تنفيذه، الملك سنحاريب، هذا المشروع الاروائي الجبار وبناء القناطر، مثل قنطرة جروانة، مستخدما اكثر من مليونين قطعة حجرية كبيرة لنقل المياه في الوديان التي تصعب فيها جريان المياه، وتخليدا لهذه المنجزات الاروائية الكبيرة امر بنحت حافة الجبل في خنس لتبقى هذه المنحوتات شاهدا تاريخيا على منجزاته، كما استخدم الملك سنحاريب المنطقة للتنزه والاستجمام في فصلي الربيع والصيف، ونحن نعمل على التنقيب في الجهة الاخرى من نهر كومل وهناك ما يشير الى وجود قصر، قد يكون قصر الملك سنحاريب.
على الضفة الغربية لنهر كومل، يرقد تمثال ضخم للغاية للثور المجنح ، وهو حسب وصف بريفكاني، الاول من نوعه ولا وجود لمثيل له في اي متحف بالعالم كونه نفذ باسلوب الابعاد الثلاثية three dimensions اذ هناك نحت آخر ومماثل للثور المجنح، على ذات الصخرة، في الجهة الاخرى ، اي ان القادم من الجهة الاخرى لخنس سيرى منحوتة الثور المجنح والداخل الى المنطقة سيرى ذات المنحوتة، وهذه هي المرة الاولى التي نشاهد فيها مثل هذا الفن بتجسيد الثور المجنح.
وأوضح: المعروف ان الثور المجنح يكون برأس انسان، ايرمز الى التفكير والعقل وادارة الدولة وكذلك الدين بعقله، وجسد الثور الحيوان المعروف بقوته، ووجود الجناحين في إشارة الى الطيران وسيطرته على العالم، لكن الجديد في منحوتة الثور المجنح في خنس انه يتضمن منحوتات اضافية للاله آشور والالهة موليسو زوجة آشور والملك سنحاريب والملك كلكامش وهو يسيطر بذراعه الايمن على شبل أسد وبيده اليسرى يحمل صولجان الحكم، وهناك ايضا منحوتة لابن سنحاريب، أسرحدون، ولي العهد آنذاك. مؤكدا ان وجود الثور المجنح هنا في خنس كتميمة دينية لحماية المشروع الاروائي، كما كان يوضع عند بوابات القصور الملكية لحمايتها من الشر.. وهناك جزء منه للاسف مغمور بالمياه، واكرر هنا ان منحوتة هذا الثور المجنح فريدة من نوعها في اقليم كوردستان والعراق والعالم، وتم نحته على صخرة في بداية قناة الري لاضفاء شرعية دينية وقدسية للمشروع خاصة وجود الآله آشور الى جانب الملك سنحاريب.
لكن هذه الصخرة التي نحت عليها الثور المجنح بابعاده الثلاثية والفريدة من نوعها، اكثر من نصفها مغمورا في مياه نهر كومل، وبحسب مدير آثار دهوك، بريفكاني، فان:منحوتة الثور المجنح الى مياه نهر كومل منذ اكثر من 500 سنة، حسب اعتقادنا، حيث كان على الحافة الغربية للنهرعلى قاعدة ثابتة قبل ان يحدث زلزال ويؤدي بها الى مياه النهر وتنكسر الى اكثر من جزء، ومن الصعب جدا سحبه من المياه كون وزنه 375 طن وقد حاولنا نقله الى موقعه الاصلي بالتعاون مع جامعة جامعة أوديني الإيطالية، لكن لا تتوفر في اقليم كوردستان رافعة تستطيع حمل هذا الوزن، لكننا تواصلنا مع زملائنا في البصرة وعرفنا ان هناك رافعة بامكانها ان تسحب او ترفع ثقل 600 طن، والموضوع قيد المباحثات وهو بحاجة الى خبرات هندسية.
وأكد بأن حكومة الاقليم حريصة على تخصيص الاموال والكفاءات لترميم وصيانة الاثار ومنها هذه المنحوتة، الثور المجنح، وصيانته واعادته الى موقعه الاصلي ليكون بداية لانشاء اكبر حديقة آثارية في اقليم كوردستان وهي الاولى من نوعها في العراق.
أكبر منحوتة صخرية
في واجهة جبل خنس تقع اكبر منحوتة للملك سنحاريب، وهي قيد الصيانة حاليا، يتحدث بريفكاني عنها، قائلا:عندما انتهى الملك سنحاريب من انشاء مشروعه الاروائي قام بمنحوتات عديدة هنا واكبرها هذه التي تخضع الان لاعمال الترميم من قبل جامعة أوديني الإيطالية، شارحا لنا بقوله: هذه اكبر المنحوتات في اقليم كوردستان، وهي شبه مربعة ومنحوتة على حافة الجبل، ارتفاعها 8 امتار و60 سنتيمترا، وطولها 8 امتار و90 سنتيمترا.. على يسار المنحوتة الملك سنحاريب وهو يرفع يده تذرعا للاله آشور الذي يقف على حيوان خرافي مقدس اسمه (مش خوشو) ولعل من اسمه جاءت مفردة(خوش) و(مو خوش) الدارجة باللهجة العراقية اليوم، رأسه راس تنين وذيله ثعبان وقدماه الاماميتان لثور والخلفيتنا لطائر وجسده مكسو بحراشف السمك.. وهذا الحيوان الخرافي المقدس لدى الاله مردوخ كبير الالهة البابلية موجود في المنحوتات البابلية ايضا، وكذلك تتضمن المنحوتة الالهة موليسو زوجة الاله آشور ومنحوتة لولي العهد أسر حدون خلف الاله آشور وكان الملك سنحاريب يحرص على وضع ابنه في المنحوتات ليضفي شرعية على وجوده كولي للعهد.
كهوف غريبة
الا ان هذه المنحوتة، ومنحوتات أخرى شوهتها كهوف حفرت في وسطها وعلى جوانبها، وهي كما يوضح عالم الآثار، بيكس بريفكاني:نعتقد بان هذه الكهوف حفرها الرهبان للسكن والتعبد فيها بعيدا عن الآخرين لانها آمنة، وايضا لدفن كبار الشخصيات الدينية إذ يوجد في داخل كل كهف، مهما كانت مساحته، ثلاث مساطب وهي قبور، وربما استخدمت من قبل رجال الدين الزارادشتين لوجود آثار نار وسط الكهوف. منبها الى ان الرهبان قد تعمدوا حفر الكهوف وسط المنحوتات لاظهار سيطرتهم كدين جديدعلى الديانة الآشورية بمعنى زوال الديانة القديمة ومجيء ديانة جديدة ولتشوية المنحوتات لاظهار سطوتهم، والا كان بامكانهم حفر كهوف في مناطق اخرى من الجبل دون تشويه المنحوتات. مشيرا الى وجود: عشرات المنحوتات التي تمثل الملك سنحاريب وبعض الكتابات بالاحرف المسمارية في اعلى الجبل.
قبل ان نترك خنس اخذنا بيكس بريفكاني الى آثار بقايا القناة المائية التي أمر الملك سنحاريب بحفرها او نحتها في صخور الجبال، موضحا:بان هذه القناة المائية تبدأ من منحوتة الثور المجنح وتسير بموازاة مجرى نهر كومل وتمتد تحت الارض حتى تصل الى حافة خنس ثم الى قرية (بافيان)، وهناك معابر صخرية تجري خلالها المياه حيث استغل المهندس وقتذاك ارتفاع منسوب المياه وموقع نهر كومل لتجري منه المياه الى القناة، مشيرا الى ان: صور الاقمار الصناعية وخرائط القمر كرونا رصدت وجود مسار المجرى لمسافة 80 كيلو مترا، حتى مدينة نينوى، حتى اليوم، وهذا يعد وقتذاك اعجازا هندسيا لا مثيل له.[1]