حسين جمو – المركز الكردي للدراسات
في العقود الثلاثة الأولى من إعلان الجمهورية التركية في 29 -10- 1923، كانت معاهدة لوزان هامشية في الخطاب السياسي الكردي، ولم تكن «مصدر الكارثة”، إنما تبلور هذا الاتجاه لاحقاً حين بدأ الكرد بتنظيم كرونولوجيا (تسلسل زمني) للقضية الكردية، فظهرت لوزان كقاعدة انطلاق لتفسير ما حدث من انقلاب الدولة على ما كان يفترض أنه «وطن مشترك” لمحاربي المعارك الأخيرة من عمر الدولة العثمانية.
في واحدة من التقييمات الكردية المبكرة للصدام الكردي – التركي عام 1925، كتب الجنرال الكردي السابق في الجيش العثماني، #إحسان نوري باشا# ، خطاباً مطولاً بعد أسابيع أو شهور من هزيمة ثورة عام 1925 حين كان الجنرال في بغداد. ولفت هذا البيان المكتوب بالتركية العثمانية انتباه الإدارة الفرنسية بعد عامين من كتابته وحمل عنوان «الانتفاضة الكردية» وجاء في 17 صفحة وتمت طباعته في مطبعة الاستقلال في بغداد. تناول إحسان نوري باشا في هذا البيان بعد مقدمة قصيرة، أسباب وأهمية انتفاضة الشيخ سعيد بيران وهيكليتها التنظيمية؛ وكيف أنها جاءت كحصيلة لسلسلة من الممارسات التمييزية ضد الكرد منذ المرجلة الأخيرة من الدولة العثمانية. ومما جاء في هذا البيان غير المتداول والذي نشرته صحيفة «أوزغور بوليتيكا» الكردية إن «السياسيين التُرك اليوم، الذين لا يريدون تصحيح أخطائهم رغم الدروس التي لقنتهم إياها الانتفاضات العربية والألبانية، سوف يركعون أمام الانتفاضات الكردية التي لن تنتهي..».
لم يأتِ الجنرال إحسان نوري باشا في هذا البيان على ذكر #معاهدة لوزان# ، وكأنها خارج السياق في ذلك الوقت. ويمكن فعلاً تفهم ذلك واعتبار لوزان «خارج السياق» إذا ما راجعنا تسلسل صعود مسار التناقض الكردي – التركي في السنوات المبكرة من عمر الجمهورية، حيث يحتل الانقلاب على دستور عام 1921 الذي أقر الإدارات المحلية الذاتية كنموذج للحكم، وإقرار الحكم المركزي في دستور عام 1924، صدارة الأزمات بين الجانبين، والذي توّج بإعلان الثورة الكردية العامة في 24 -02- 1925. ففي دستور عام 1924، وليس لوزان، فقَد الكرد الصفحة الأخيرة من مكاسب تحالفهم التاريخي مع الترك منذ عام 1514 في عهد السلطان سليم الأول. وعليه، يمكن اعتبار لوزان معاهدة دولية اختطفتها مجموعة طورانية حكمت البلاد وصاغت رؤيتها المتطرفة للمجتمع والدولة بشكل تدريجي استغرق اكتماله نحو 60 عاماً، أي حتى انقلاب عام 1980.
إلا أن إعادة الكرد لاحقاً هذه المعاهدة إلى صدارة الأزمة كجذر تأسيسي للقضية الكردية، له ما يبرره؛ فالمعاهدة لم تكن مجرد ترسيم للحدود القومية للدولة التركية للعناصر المسلمة المتبقية في الدولة تحت القيادة التركية، إنما صك حماية لها أيضاً من أي تهديد قد يطالها في الداخل والخارج، وبالتالي تحولت لوزان إلى «إطار علاقات» بين الغرب وتركيا بعيداً عن البنود التي أصبحت معظمها غير مطبقة، بما في ذلك بند حماية الأقليات، وبند حق التحدث والكتابة باللغة الأم لغير الأتراك. وعلى هذا الأساس، لم يطور الكرد وحدهم خطاباً تصاعدياً تجاه لوزان ومحوريتها في محنتهم، إنما النخب التركية ذاتها باتت تستخدم المعاهدة كدرع حماية وعلامة انتصار خاصة بعد رحيل مصطفى كمال.
في المحصلة، كانت معاهدة لوزان حصيلة إرث من الاشتباك التاريخي بين الغرب والشرق. وفي هذا الاشتباك الكثير من الاتفاق أيضاً، كما حدث في حرب القرم 1853 – 1856 حين شاركت أوروبا بكل ثقلها العسكري من أجل حماية الدولة العثمانية من الهجوم الروسي الكاسح. لذلك، حين اتخذ أنور باشا ورفاقه قرار الدخول في الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا، يمكن وصف تلك اللحظة بالخطأ الاستراتيجي الأكبر على مدى 500 عام من عمر السلطنة، وليس من الإجحاف وصف قرار الحرب بأنه أثار حزن البريطانيين والحلفاء الذين استثمروا سنوات طويلة في تمكين صمود الدولة العثمانية أمام الإمبراطورية الروسية، وما كانوا يتصورون أن تقع هذه الدولة تحت أنياب روسيا. من دون استيعاب هذا المعيار الأوروبي للأناضول ودورها كدرع ضد روسيا، لا يمكن إجراء مقاربة جادة للتسهيلات الكبيرة التي حصلت عليها تركيا بعد حرب الاستقلال التي لم تكن تشكل أي تهديد جدي على الاحتلال الغربي لاسطنبول سوى على الاحتلال اليوناني لمنطقة إيجة.
لذلك، سرعان ما استعادت تركيا دورها «البروتستانتي – البريطاني» ضد الأرثوذكسية الروسية، وفي صيغة الشيوعية هذه المرة في النصف الثاني من القرن العشرين. وتحولت كردستان الشمالية إلى قاعدة لحلف الناتو عبر قاعدتين عسكريتين في أرضروم ودياربكر منذ انضمام تركيا للحلف عام 1952.
إلى جانب ذلك، شكلت معاهدة لوزان نجاةً للدول الغربية نفسها من حرب عالمية أخرى في حال تم اعتماد مخرجات معاهدة سيفر عام 1920 كحل للمشكلة التركية، أي تقسيمها إلى دويلات وأجزاء منها تحت الاحتلال الأوروبي المباشر. والأمر الملفت في الانتقال الدولي من سيفر إلى لوزان، ليس انتصار مصطفى كمال في حرب التحرير، فقد كان بالإمكان إيقافه في مرحلة ما لولا تجاوزات اليونان على الرؤية البريطانية. وما كان بإمكان بريطانيا وفرنسا أن تمنعا روسيا من التحكم بمخرجات معاهدة سيفر، فضلاً عن مشكلة من يكون سيد اسطنبول والمضائق. فكانت لوزان مخرجاً ضرورياً للأوروبيين لتفادي حرب عالمية حتمية بين الأطراف المنتصرة في الحرب الأولى.
من هنا، علق المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي على الموقف الأوروبي من المعاهدة بتوصيف دقيق حين قال إن «قوى الحلفاء الرئيسية، بعد التخلّي عن مصالح اليونان وأرمينيا، اتّبعت الحكمة حتى النهاية بالتخلي عن مصالحها أيضاً. لقد كان هذا الطريق الهدف الصحيح، لأنه كان من الواضح أنه لا يمكن تعزيز أياً من هذه المصالح، حيث ستتضرر جميعها أكثر باستئناف الحرب».
لذلك، وقع قادة الحلفاء على المعاهدة دون أن يعبروا عن أي أسف على شيء خسروه. على العكس منذ ذلك، قدموا لتركيا جائزة كبرى بتمكينها من الانتصار على الاحتلال اليوناني، وامتناع أي دولة أوروبية المشاركة في صد قوات مصطفى كمال. لقد رسمت معاهدة لوزان حدود تركيا التي قررها الغربيون الذين لم يبذلوا أي جهد لوضع معاهدة سيفر الموقعة في 20 -08- 1920 موضع التنفيذ.
على الرغم من ذلك، كان على الجمهورية الحديثة تقديم قصتها الخاصة عن لوزان. فمصطفى كمال، في خطابه المعروف باسم «نطق» (الخطاب العظيم) الذي ألقاه في أنقرة عام 1927 أمام نواب وممثلي الحزب الجمهوري، وصف معاهدة لوزان للسلام على النحو التالي:
#معاهدة لوزان# هي الوثيقة التي تكشف بطريقة حاسمة فشل مؤامرة واسعة كانت تحاك منذ قرون ضد الأمة التركية، مؤامرة اعتقدوا أنهم حققوها من خلال معاهدة سيفر. ما حققناه هو انتصار سياسي لم يكن له مثيل على امتداد عمر الإمبراطورية العثمانية.
في الستينيات، كان المد اليساري يتصاعد في تركيا بعد الإطاحة بالحزب الديمقراطي في انقلاب 1960. واحتاج عصمت إينونو إلى جعل المسافة بين حزب الشعب الجمهوري واليساريين المتعاطفين مع السوفييت أقرب من أي وقت مضى، حيث أدرك أن القاعدة الانتخابية الإسلامية للحزب الديمقراطي المنحل لن تأتي إليه، فأعاد تقديم لوزان في خطاباته السياسية حتى أواخر الستينيات كسلام مناهض للإمبريالية، في محاولة لتخفيف العداء اليساري ضد حزبه. وأشار الأكاديمي التركي سرهات غوفنش (من جامعة قادر هاس) إلى أن الأساطير التي أطلقها اليساريون حول لوزان انتقلت لاحقاً إلى الإسلاميين.
حتى منتصف الستينيات، كانت القاعدة الانتخابية الكردية ما تزال مرتبطة بجذورها الإسلامية وأقرب إلى المناهضين لحزب الشعب الجمهوري، ولم تكن يعني لهم شيئاً التضليل الرسمي حول لوزان، بل إن الكرد ومنذ النهاية المخيبة لثورة 1925، بنوا خياراتهم السياسية والانتخابية لصالح الأطراف غير المتحمسة لمعاهدة لوزان حتى الظهور الرسمي للأحزاب السياسية الكردية مطلع التسعينيات.
تعتبر المعاهدة «شهادة الميلاد» للجمهورية. وعلى الرغم من وجود مجموعات معينة تصف دعم الشعب التركي الساحق لمعاهدة لوزان للسلام على أنه دعم ل«التفسير الرسمي لحدث تاريخي» والتقليل من شأنها باعتبارها معاهدة تسجن تركيا في الأناضول، كما يفعل بعض الكتاب الإسلاميين، لا يزال الكيان التركي يحظى بحماية دولية بفضل هذه المعاهدة.
بالنسبة للمجتمعات التي بنت آمالاً عريضة على مبادئ ويلسون و«تقرير المصير»، كان الأمر مختلفاً تماماً؛ يقول الباحث الأرمني آرا تورانيان عن المعاهدة إنه «جريمة القرن الثانية التي جاءت بعد جريمة القرن الأولى (الإبادة)».
إن صيغة تصفية التنوع والتعددية، على نحو ما جرى في التبادل السكاني بين تركيا واليونان خلال معاهدة لوزان، جعلها نقطة مرجعية في تسويات السلام حتى بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها على سبيل المثال قرار تقسيم الهند وتأسيس دولة باكستان التي كانت إلى حد كبير نتاج تصفية متبادلة للتعددية الاجتماعية والدينية.
منذ التسعينيات، وانفجار الأزمة اليوغسلافية، تمت إعادة تفسير هذه التصفية من أداة لصنع السلام، إلى «التطهير العرقي»، وكان لهذه المقاربات الدولية تأثير على مفاعيل لوزان في تركيا، فقد صعّدت الحركة الكردية مقاومتها ضد الحرب التركية، وصعّدت تركيا من وتيرة حملتها الشاملة على المجتمع الكردي في التسعينيات، لتعود أجواء التوتر وكأن عام 1925 قد حضر بكل تجلياته مجدداً. لم تنعكس تغير المقاربات الدولية، في الإعلام والمنابر الحقوقية تجاه الأحادية القومية المتشددة، بشكل مباشر على تركيا.
على الرغم من ذلك، تحتاج قراءة أحداث هذه الفترة الدموية في التسعينيات من القرن الماضي إلى الأخذ في الاعتبار هلع الجمهورية من تعريفات جديدة للحقوق الجماعية للشعوب قد تهدد الشكل القومي المتطرف لمعاهدة لوزان داخل الحدود السياسية التركية، خاصة أن تغيرات خطيرة حدثت على حدودها الجنوبية، حين ظهر كيان سياسي قومي شرعي تحت اسم «إقليم كردستان العراق»، وهو أول إخلال كبير بالصيغة التركية لمعاهدة لوزان والاتفاقيات التي أعقبتها مع بريطانيا وفرنسا في سوريا والعراق، إذ ما زالت القراءات الكردية بعيدة عن تقييم الدور التركي وراء تراجع بريطانيا عن الحكم الذاتي للكرد في ولاية الموصل طيلة تاريخ العراق الحديث.
وفي سوريا، شنت تركيا عمليات احتلال عسكرية واسعة، الهدف منها محاولة إفشال تجربة الإدارة الذاتية في روجآفا وشمال وشرق سوريا حيث تنطلق أنقرة في ظل حكم رجب طيب أردوغان، من قناعة باتت مصدراً للحروب والتدمير، وهي أن البقاء في حدود معاهدة لوزان يهدد الجمهورية بالتفكك، فانطلق إلى أيديولوجيا «الميثاق الملي».
والميثاق الملي أيديولوجيا وليس وثيقة وطنية، لأنه ما كان بالإمكان أن يظهر الميثاق الملي في 28-01- 1920 من دون المشاركة الكردية في حماية كل من كردستان والأناضول من التهديدين الروسي من الشرق واليوناني من الغرب، فهو ميثاق كتب وعرض على التصويت في البرلمان العثماني (مجلس المبعوثان) لإطلاق حركة مقاومة شاملة من قبل الشعوب المسلمة ضد الجيوش غير المسلمة. فبعد توقيع اتفاق موندروس لوقف الحرب بتاريخ 30-10-1918 مع الجيش العثماني، لن يكون هناك تقسيم للأراضي التركية داخل حدود الدولة التركية. هذا هو الميثاق الملي، وأي تعريفات لاحقة يدخل في إطار أيديولوجيا مختلقة للبناء على شيء تم تجاوزه والإقرار بإلغائه من قبل الوفد التركي في لوزان. لذلك، يدخل الهجوم التركي الحالي على شمال سوريا والمناطق الجبلية في كردستان العراق والحرب على الحركة السياسية البرلمانية الكردية في شمال كردستان، ضمن أيديولوجيا الميثاق الملي التي لا أساس لها. فعملية السلام التي أطلقها زعيم حزب العمال الكردستاني عام 2013 والتي أثمرت عن فترة هدوء تاريخية في تركيا حتى 2015، مبنية أساساً على العودة إلى روح الميثاق الملي كانطلاقة مشتركة بين الشعبين التركي والكردي، و«تصحيح» سوء الاستخدام القومي المتطرف لهذا العهد الوطن.
كان الطرح الكردي – الأوجلاني- يقضي بإحياء الميثاق الملّي وفق صيغة جديدة مشتركة (تركية- كردستانية) قائمة على الشراكة وليس التبعية والهيمنة، وتشمل كافة أجزاء كردستان مع تركيا. تبنت الحركة الكردية في شمال كردستان المبادرة كحزمة صلبة غير قابلة للتجزئة، وكانت تجربة «روجآفا» أول امتحان أمام هذه المبادرة.
وعلى حد تعبير السياسي والنائب في البرلمان التركي عن حزب الشعوب الديمقراطي، سري ثريا أوندر، حول هذه المبادرات وخطاب السلام وغاية الكرد من كل ذلك «يريد الكرد أن يكون لهم نصيباً ورأياً في مستقبل هذه الأراضي التي عاشوا عليها منذ آلاف السنين».
على عكس الهجمات التركية اللاحقة في احتلال مناطق سورية وكردية وتهجير سكانها الكرد، فإن ظهور روجآفا على مسرح السياسة في الشرق الأوسط، شكل منذ عام 2013 دفعة إيجابية للسلام بين تركيا والكرد.
انهار السلام منذ هزيمة تنظيم داعش الإرهابي في معركة كوباني، ثم الانتخابات البرلمانية التركية في يونيو/حزيران 2015. فتبنى أردوغان النسخة الطورانية من الميثاق الملي، أي بمنطق الاحتلال، وعلى طريقة مرسوم التنظيمات العثماني عام 1839 بإنهاء أي إرادة كردية مقتدرة. فيما الصيغة الكردية من الميثاق الملي نسخة مطورة سياسياً واجتماعياً عن التحالف الكردي التركي في جالديران عام 1514. لذلك الميثاق الملي نسخة واحدة لكن بقراءتين مختلفتين، تقول النسخة الكردية إنه أساس بناء وطن مشترك ثنائي التركيب، بينما النسخة الطورانية تبنت الأحادية القومية بأقسى صيغها تطرفاً.
بينما كانت محادثات السلام تقترب من لحظة اتفاق تاريخي حتى مطلع 2015 بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية، أسفرت التناقضات الداخلية التركية إلى التخلي عن هذه المبادرة المبنية على التحالف الكردي – التركي الشرق الأوسط في ذروة «الربيع العربي»، حيث اختار رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو، على سبيل المثال، نهجاً رافضاً لهذا التحالف ودفع باتجاه تحالف تركي – إخواني في مناطق الكرد، ثم تفاقم هذا الاتجاه مع تبني أردوغان خطاب حزب الحركة القومية تجاه القضية الكردية داخل تركيا وخارجها.
أعاد أردوغان إثارة الجدل حول معاهدة لوزان، منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو/تموز 2016. ففي خريف ذلك العام، شن الرئيس التركي هجوماً مفاجئاً على تلك المعاهدة واستهجن اعتبارها نصراً لتركيا.
منذ ذلك التصريح، بات البحث عن طريقة لتجاوز لوزان هاجساً لأردوغان. ففي زيارة له إلى اليونان، في17-12- 2017، فتح ملف لوزان مجدداً، زاعماً أن هناك بنوداً غير واضحة في المعاهدة، وهذا يتطلب «تحديث المعاهدة». هنا الجانب الذي يريده أردوغان في تجاوز لوزان يكمن في ثروة الغاز شرق المتوسط. فمحيط الجزر التي أقرتها المعاهدة لليونان في بحر إيجة تعد منطقة غاز حديثة، وبنود المعاهدة تقيّد قدرة تركيا على التنقيب بشكل قانوني شرق المتوسط. قبل تدشين التحالف بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، في الانتخابات البرلمانية المبكرة عام 2015، او ما يعرف في تركيا بالتحالف بين يمين الوسط وأقصى اليمين، كان حزب العدالة متهماً من قبل حزب الحركة القومية بالعمل على إعادة اتفاقية سيفر والتمهيد لتقسيم تركيا.
منذ تأسيسه عام 1969، صاغ حزب الحركة القومية خطابه الأيديولوجي حول المؤامرات السوفييتية والأطلسية لاستعادة معاهدة سيفر وإلغاء لوزان. بهذا المعنى، بقي الحزب متحركاً في اتجاهين غير منضبطين. فمن جهة، كرّس رؤيته لمحاربة كل المظاهر السياسية والاجتماعية التي تذكّر بمناخ سيفر، وبالتالي الحفاظ على مكتسبات لوزان. ومن جهة ثانية تبنّى التفسير القومي المشوّه ل«الميثاق الملي» الذي تم إقراره عام 1920 في البرلمان العثماني، ورسم حدود الدولة بما يشمل شمال سوريا بالكامل والموصل وكركوك بما في ذلك إقليم كردستان العراق وكامل جزيرة قبرص، أي أن معاهدة لوزان لا تمثل بالنسبة له انتصاراً ما بعده انتصار لتركيا كما وصفها مصطفى كمال في خطاب «نطق». هناك تعبير للأكاديمي التركي مصطفى آيدن يقول فيه إن لوزان صمدت لمدة قرن لأن «لوزان جعلت الجميع غير سعداء»، وهو يعني بشكل رئيسي اليونان وتركيا وبلغاريا. وهي مقولة إلى حد كبير جديرة بالتوقف عندها. في المقابل، لم تقتصر تأثيرات لوزان بالنسبة للكرد على السعادة المنقوصة لليونانيين والأتراك، إذ اعتبرتهم بكل بساطة غير موجودين، واعتبرت الأرمن وكأنهم لم يعيشوا يوماً على هذه الأراضي التي رسمتها المعاهدة للقومية التركية.
في مئوية لوزان، تروج آلة الدعاية التابعة للحكومة التركية وأتباعها من أحزاب إسلامية، أن هذه المعاهدة انتهت صلاحيتها، في تضليلٍ مكشوف لكن مثمر أيضاً! ويجري ضخ هذه الفكرة تزامناً مع الانهيار الحقوقي العالمي الذي يتفاقم منذ ضم روسيا منطقة القرم عام 2014 وتعطل القانون الدولي الذي لا يحمي أساساً غير «الدولة الأمة»، ومنها الجمهورية التي اكتسبت شهادة ميلادها من معاهدة لوزان. وفي ظل الاضطرابات الدولية القائمة، من حرب أوكرانيا إلى الأزمة الاقتصادية العالمية، وصعود قوى دولية جديدة، والتنافس الأميركي الصيني في المحيط الهادئ، فإن الكرد يدخلون المئوية الثانية من لوزان والمئوية الثانية من الكفاح المسلح والسياسي والحقوقي.[1]