#سربست نبي#
الكرد شعب ولعٌ بالكرنفالات السياسية الصاخبة، ولعٌ في اختلاق المناسبات لها وإقامتها، لتدويل حضوره السياسي وإحداث ضجيج في الساحات، طالما وأنهم عاجزون عن إثبات ذلك دبلوماسياً لافتقارهم إلى دولة مستقلة تعبّر عن هويتهم سياسياً. لكن الكردي نفسه يصبح في أوقات عديدة مجرد شبح مهرّج في مقدمة المشهد، الذي أعدّه بنفسه ويغدو ضحية للسيناريو المخطط سلفاً. هذا هو حال الحراك السياسي الكردي عموماً هذه الأيام، الذي بالغ في اهتمامه الزائف بمئوية لوزان، حتى استعار هاملت الكردي لسان نيتشه صارخاً: لوزان مااااتت، ماتت لوزان والبشرية تشيعها الآن وتسير في جنازتها إلى مثواها الأخير! واقع الحال لم يكن يسير خلف التابوت الفارغ للمعاهدة سوى الكردي نفسه، في حين انصرف جميع من شارك في ولادتها أصلاً عن الاهتمام بهذه الجنازة الزائفة، لأنهم جميعاً تواطؤ على دفنها، سرّاً وعلانية، منذ زمن طويل، بعد ولادتها بأمدٍ قصير.
لستُ هنا لأؤبن، فقد تفسخت الجثة وتحولت إلى رماد منذ زمن بعيد، ولكن لأتساءل، لماذا استيقظ هاملت الكردي متأخراً؟ مستعيراً كلمات ممدوح عدوان. كيف نفسّر هذا الاهتمام المفاجئ والصاخب لدى الكرد بهذه المعاهدة؟ لماذا وحدهم الكرد، دون غيرهم- كاليونان مثلاً، الذين لهم مصلحة أعظم في إعلان موت المعاهدة، بعد خسارتهم الكثير من الأراضي داخل العمق التركي- من يثيرون الضجيج في الساحات بدبكاتهم وزوابع الشعارات حول لوزان، كيف نفسّر هذه الصحوة المتأخرة؟
عملياً لا تترتب على مئوية لوزان وإعلان الموت المزعوم للمعاهدة أية نتائج سياسية أو قانونية لمصلحة الكرد أو غيرهم، والعودة إلى هذه المناسبة أبعد من غاية الاعتبار بالتاريخ وإعادة قراءته. لعل هذا الاهتمام يفسّره الوعي الكردي الشقي بهامشيته والرغبة الدفينة في تجاوز تفاهة واقعه وعطالة كرديته في عالم معاصر لا يرحم. فالكردي عوضاً عن البحث الواقعي والنقدي في واقعه المأزوم يحتاج إلى أسطورة لتفسير مأساته وإلى معجزة، بالمقابل، لإيجاد طريق خلاصه من راهنه القاسي. إنه كهاملت يتصوّر إنه فارس الشرق العظيم، ووريث مجده، الذي بات محكوماً بالعجز والفشل نتيجة تآمر وغدر الأمم الكولونيالية عليه، التي حكمت عليه بالتجزئة والعجز والتبعية. هذا الشعور يماثل السردية، التي يغذيها خطاب (العثمانية الجديدة) بالدعوة للعودة إلى (أرض الميعاد) المدفون في تابوت (العهد الملكي) المقدس. هاملت الكردي متورّط عملياً في المسرحية، التي أعدّها له عمه الملك كلاوديوس، وقتل أباه ثم سطا على عرشه، بعد أن تزوّج من أمه وتآمر معها في التخلّص من الملك السابق والد هاملت.
معاهدة لوزان الثانية Treaty of Lausanne -2023-07-24-م، تمييزاً لها عن لوزان الأولى 1912(أوتشي) التي استمرت مناقشاتها ومباحثاتها على مدار ثلاثة شهور، بين تركيا (كان الوفد التركي برئاسة عصمت أونونو) ودول التحالف: بريطانيا، فرنسا الجمهورية الثالثة، إيطاليا، اليونان، ودول بلقان المستقلة جديثاً.
نجمت نتائج هذه المعاهدة وفرضت بعد أن خاض الأتراك معارك ضد قوات التحالف بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، التي سميّت بحرب الاستقلال 1920- 1923م. حيث خلقت حرب الاستقلال هذه الشروط التفاوضية لأتاتورك وفرضت على الحلفاء إعادة النظر في معظم بنود معاهدة سيفر، التي أثقلت كاهل تركيا بالتقسيم والوصاية. كان من أبرز نتائج هذه المعاهدة، إلغاء معاهدة سيفر 1920م وأفضت إلى الاعتراف بحدود تركيا الراهنة واستقلالها، ورسمت حدودها رسمياً مع دول عدة مثل سوريا، العراق، اليونان، بلغاريا.
انطوت معاهدة لوزان على(143) مادة، تتعلق جلّها بمشكلات المضائق، التي تم تعديلها فيما بعد خلال معاهدة مونترو 1936م وعلى قضايا مالية وقانونية تتصل بحقوق وحركة رعايا الدولة العثمانية. وتتوزع تلك المواد بنيوياً بين (اتفاقية Convention, Agreement, Accord، إعلان declaration، ميثاق Pact، تسوية Arrangement، ملحق Index، العهدة protocol)
السؤال المركزي، الجدير بالطرح في هذه المقدمة، الذي يفسّر الكثير من اللغط والمناقشات والاهتمام بمئوية هذه المعاهدة، هو هل هناك مادة أو بند في هذه المعاهدة أو في القانون الدولي، ينصّ على انتهاء نفاذ المعاهدة أو صلاحيتها بعد مئة عام؟
بداية، من روّج ويروّج بكثافة لمثل هذه الفكرة وغيرها، هي في الغالب وسائل الإعلام التركية ومؤيدي مشروع العثمانية الجديدة، بهدف تبرير طموح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية وبسط النفوذ التركي مجدداً على المضائق وعلى الجزر اليونانية والبحر المتوسط، الذي يسمى في الإعلام التركي ب (الوطن الأزرق)، وبعبارة واحدة استعادة أرض الميعاد وفق خارطة الميثاق الملّي.
إنها محض بروباغاندا أيديولوجية وإعلامية، مجرد خرافة إعلامية لتبرير فكرة المؤامرة الدولية على الإمبراطورية العثمانية، التي أدت إلى تفتيتها والقضاء على سلطة الخلافة، وبالمقابل تخفي طموحاً دفيناً في إعادة إحياء الهيمنة التركية في ظلّ سلطة العدالة والتنمية على ولاية الموصل والمضايق والبحر المتوسط، والسطو على الثروات النفطية والطبيعية في هذه المناطق النفطية. ومن المفيد التنويه بأنه يتعذر العثور في جميع مواد المعاهدة، ال(143) على مادة واحد تمنع تركيا من التنقيب عن النفط أو الثروات الطبيعية داخل الحدود الجديدة للدولة التركية وفق المعاهدة، وهذه خرافة أخرى تعزز من أسطورة المؤامرة، التي تسعى البروباغاندا التركية إلى زرعها في الرؤوس.
إن الحديث عن اتفاقيات ملزمة ومحدودة ب 99 عاماً أمر غير صحيح من وجهة نظر القانون الدولي، كما أن معاهدة لوزان لا تحتوي على أيّ بند، سرّي أو غير سرّي، يحدّد عمر المعاهدة أو يشير إلى بطلان صلاحيتها ونفاد مفعولها الحقوقي. وهناك أمثلة كثيرة في تاريخ العلاقات الدبلوماسية عمدت فيها أطراف، أو طرف، إلى الانسحاب من المعاهدات من جانب واحد وبإرادتها بعد عقدين أو أكثر من توقيعها، وربما القول ببطلان مدة المعاهدات ب 99 عاماً أتى من قبيل العرف أو العادة، ليس إلا. ويشار بهذا الخصوص إلى أن البروباغاندا التركية تنحاز في العادة إلى الاستعانة بمثال معاهدة نانكينغ Treaty of Nanking، بين بريطانيا والصين، والمقارنة بينها وبين معاهدة لوزان. فقد تنازلت الصين، كما هو معلوم، عن هونغ كونغ لبريطانيا، وفي عام 1898م حصلت بريطانيا على تسعة وتسعين عاماً أخرى ضمنت خلالها السيادة مرة أخرى على هونغ كونغ حتى تنازلت عنها عام 1984م.
بكل الأحوال، لم يمثل أمد الاتفاقية يوماً عقبة أمام الطموحات التركية في انتهاك موادها وبنودها كلما أمكنها أن تفعل ذلك منذ مئة عام، حتى أن السياسة التركية في العراق وسوريا والبحر المتوسط، قد أطاحت منذ زمن مبكر بعشرات المواد، التي باتت منتهية الصلاحية بعد عقد من الزمن، ولاسيما تلك المواد المتعلقة بتعهدات تركيا إزاء حقوق الأقليات الدينية والقومية داخل الأراض التركية، كما سيتضح ذلك جلياً في الأسطر التالية.
لعل من أوضح النتائج السياسية لهذه المعاهدة قومياً هي مقايضة الحكم الذاتي الكردي في كردستان الشمالية مقابل تنازل تركيا عن أراض لأرمينيا، وإبطال مفاعيل جميع المواد المتعلقة بالحقوق القومية للكرد في معاهدة سيفر.
وبموجب الخارطة الجديدة للحدود السيادية للدولة التركية، التي رسمتها المعاهدة، التزمت تركيا إزاء دول التحالف وعصبة الأمم بعدد من المواد، التي تضمن تعهداتها نحو حقوق الأقليات الدينية والقومية، التي رغم هشاشتها، لم تكترث السياسة التركية بها يوماً، بلّ عمدت على الدوام إلى انتهاكها متى ما وجدت في ذلك مصلحة سياسية لها. ومنها ما تستحق الإشارة إليها بصورة عابرة.
لقد أكدت المعاهدة على الحقوق اللغوية والثقافية وحق العبادة للأقليات الدينية في نطاق أراضي الدولة التركية وألزمت تركيا بعدم فرض أية قيود عليها.
تقول المادة(27) من المعاهدة، لا تجوز ممارسة أية سلطة أو ولاية قضائية في المسائل السياسية أو التشريعية أو الإدارية خارج الأراضي التركية من قبل الحكومة أو السلطات التركية. وفي الواقع لم تلتزم الحكومات التركية بهذه المادة يوماً، وبخاصة على صعيد الملفات المتعلقة، بولاية الموصل وحلب، ومسألة الأقلية التركمانية في البلدين، التي اتخذت منها تركيا على الدوام ذريعة للتدخل في مواجهة الطموح القومي للكرد.
تعهدت الدولة التركية في المادة (38) بضمان الحماية الكاملة والعامة للحياة والحرية لسكان تركيا من غير تمييز بين المولد أو الجنسية أو اللغة أو العرق أو الدين. ويحق لجميع سكان تركيا أن يمارسوا بحرية، سواء في الأماكن العامة أو الخاصة، أيّ عقيدة أو دين أو معتقد لا يتعارض احترامها مع النظام العام والأخلاق الحميدة. ومنحت المادة تلك الأقليات غير المسلمة الحرية الكاملة في التنقل والهجرة. والحق إن هذه المادة لم تشهد في أي وقت من الأوقات التزاماً بها، في الحدود الدنيا، من جانب الحكومات التركية، ويكفي أن نلقي نظرة إلى مآسي السريان والأرمن والأزديين، العلويين، حتى ندرك مدى الاستهتار الذي مثلته السياسة التركية الداخلية إزاء حقوق تلك الأقليات.
ينسحب هذا الحكم على نتائج المادة (39) التي تقول بأن المواطنين الأتراك الذين ينتمون إلى أقليات غير المسلمة يتمتعون بنفس الحقوق المدنية والسياسية، التي يتمتع بها المسلمون…. إذ رغم النهج العلماني المتشدد للدولة التركية، فقد طغى التباين في المكانة والدور، بين الأقليات غير المسلمة والأكثرية المسلمة، ولم يكن هناك في أيّ وقت من الأوقات تمثيل سياسي عادل للأقليات غير المسلمة في مؤسسات الدولة وفي الوظائف العامة.
وتضيف المادة نفسها: وعلى الرغم من وجود اللغة الرسمية، أيّ التركية، يجب توفير التسهيلات الكافية للمواطنين الأتراك، الذين يتحدثون بلغات غير التركية، لاستخدام لغتهم شفوياً أمام المحاكم.
وتعزز المادة(41) هذا الحق الأخير بنص صريح، لم تأبه به السياسات القومية الإنكارية والرسمية للدولة التركية، إذ أكدت المادة على حق التعلم باللغة الأم لأبناء الأقليات غير المسلمة إلى جانب التركية في المدارس الابتدائية.
هذه المواد وغيرها، التي تجاهلتها الحكومات التركية المتعاقبة باستمرار، كانت التزاماً على الدولة التركية بنص صريح للمادة (44) التزام ذا بعد دولي وبضمانات عصبة الأمم، وفرضت المادة على الدولة التركية عدم تعديلها أو التنصل منها دون موافقة أغلبية مجلس عصبة الأمم، وفي حال وجود أيّ خلل أو انتهاك أجازت المادة لجميع أعضاء المجلس لفت انتباه الدولة التركية وبقية الدول بوجود المخالفة. ومع هذا لم تردع جميع هذه التعهدات والالتزامات الحكومات التركية عن انتهاكها.
د. سربست نبي[1]
أستاذ الفلسفة السياسية - جامعة كويه.