#سربست نبي#
يمثل الميراث السياسي المتراكم للدولة التركية، المطبوع بطابع التفوق العرقي والتمايز، المصدر الأبرز لصناعة وإنتاج الكراهية داخل الوعي التركي وثقافته بأنساقها اللغوية والأدبية والإعلامية والفنية… إلخ، وهذا الميراث السياسي يتكئ بدوره على خلفية تاريخية وثقافية معقدة، ترى في هذا الآخر، تهديداً وجودياً، جزئياً أو كليّاً، للذات ولهوية الدولة.
إن كراهية هذا الآخر (الكردي، الأرمني، العربي، اليوناني، السرياني… إلخ) تمثل عقيدة الدولة التركية الحديثة. وهي تحترف هذه الكراهية وتحتكرها في ممارساتها وفي مواقفها الآيديولوجية وتجسدها. كذلك ترسخها في مؤسساتها الآيديولوجية والإعلامية، وفي مناهجها التربوية، وفي التجمعات الانتخابية، حتى باتت الكراهية بنية راسخة فيها، تغذي ذاتها بذاتها، وتعيد إنتاج خطابها الذاتي، الذي قوامه استغلال المشاعر الشعبوية والدينية والمذهبية، ومن ثم تعيد توظيفها في خدمة المآرب السياسية، كما يفعل الرئيس التركي اليوم، ويعبر عن ذلك في مواقفه جميعها وتصريحاته عن الأزمة السورية خصوصاً، وغيرها.
هكذا باتت الكراهية، عقيدة الدولة، واكتسبت مكانة مقدسة في العقل السياسي التركي، الذي يسعى إلى تكريسها وضمان بقائها فوق الارتياب أو النقاش. فإن لم تكن كارهاً لهؤلاء (غير الأتراك)، وما لم تعايش هذه الكراهية، وما لم تجسدها في سلوكك، في مواقفك ورؤاك للعالم، فلا تستحق أن تكون تركيّاً جديراً بالانتماء لهذه الأمة والدولة.
وينطوي الخطاب الرسمي للدولة التركية اتجاه المختلفين، ثقافياً، أو دينياً، أو عرقياً، من مواطنيها، على التفوق والوصاية الأخلاقية. إذ ثمة شعور واعتقاد عميقين لديها وفي أذهان الساسة الأتراك، بأنهم ينتمون إلى جنس سامٍ ومتفوق، تحق لهم الوصاية والهيمنة ورعاية المختلفين وتوجيه أقدارهم.
إن الدولة التركية، تتقبل مواطنها (الكردي) كما تريده هي أن يكون، لا كما هو كائن أو يريد أن يكون. فهي تفرض عليه مثالاً آيديولوجياً معيناً، ينبغي أن يجسده في سلوكه، وتحدد له قالباً نمطياً بعينه، وما عليه إلا أن يتطابق مع ما هو محدد له بصورة مسبقة، حتى يحظى بالاعتراف التركي. ومن ثم تعود الدولة عبر مؤسساتها الآيديولوجية والسياسية والأمنية للحكم على صلاحية هذا الكردي الإنسانية، وجدارته بالمواطنة التركية.
من هذا الموقع، شكّلت المؤسسات الآيديولوجية والأمنية للدولة التركية قوالب وأنماطاً ذهنية، أنتجت تقاليد فكرية ونفسية، فرضتها عبر سياسات الترويع والإرهاب الرمزي الممنهج على الكردي، عَزّزت طوال قرن من الزمان الشعور الذاتي لديه بالدونيّة والخضوع، وكرّست لديه القابلية للامتثال للصورة النمطية، التي رسمت له. بموازاة ذلك غدا هاجس الفرد «من غير التركي» التحرر من هويته الاجتماعية والثقافية والقومية والتبرؤ منها في صلاته، كي يغدو مؤهلاً وجديراً بأن يكون تركياً جيداً ومقبولاً. وهذا أقصى ما كان يتطلع إليه ويطمح ذلك الكردي الجبلي، البسيط والساذج، القادم إلى المدينة، التي بدت في إهاب تركي خالص.
التخلي عن ذاته، كان عبر التخلي عن صورته، صورته التقليدية التي قُدِمت له وعنه. الصورة النمطية، التي صنعتها له المؤسسة الدعائية والآيديولوجية التركية عنه، أي الصورة المشوهة التي تمثل الوحشية واللاتمدن والجهل، في أشدّ أشكالها تطرفاً. بوصفها الصورة الأصلية للكردية، التي تجعل من الكردي كارهاً لذاته التاريخية ولهويته، بوصفه الكائن النزق، العدواني، الوحشي والأناني، غير القابل للتمدن. وبالمقابل، فإن التركي النموذجي، وفق النمط الأمثل، هو الذي لا يتعرف على كينونته وعلى هويته، ولا يكتشف انتماءه إلا من خلال هذه الكراهية للآخر (الكردي، اليوناني، الأرمني، السرياني، العربي… إلخ) فهو لا يكترث لهويته إلا حينما يتعلق الأمر بالعداء أو العلاقة مع وجود هؤلاء في محيطه وعلى تماسٍ به. إنه يعي ذاته أوّل الأمر كتركي عبر ممارسة الكراهية إزاء هذا الآخر «المقيت» من وجهة نظره. وهو يعتقد أن الأخير يزاحمه في وجوده، يهدده، يقلّص حضوره ويجعله هامشياً إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبهذا يفصح التركي أن وجوده الطارئ على هذه الجغرافية مهدد. من هنا تقتضي عملية إثبات الذات لديه في المكان إبادة هذا الآخر المزاحم له أو إزاحته وإقصاءه، حتى إلغاءه من الوجود، وفي الحدّ الأدنى تمييع طابع وجوده وهويته وقسره على التطبع بمثاله التركي.
الدولة القومية التركية اليوم، توحي وتبوح لجمهورها ومناصريها، كما يفعل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بكراهية عمدية موجهة نحو الآخر «خاصة الكرد». تنعش فيهم الرغبة في العداء، تؤلبهم، تحضّهم على الالتزام بموقفها كي تنجح في فرض الإقصاء والإلغاء والعزلة على هذا الآخر المختلف، ومن خلال ذلك تخترع له وتختلق عنه أوصافاً وطباعاً سلبية تروّجها كي تزيد من حدّة النفور اتجاهه.
هكذا نشأت الدولة التركية الحديثة على أساس حكم مسبق ومطلق، بررت به وجودها، وما زالت، فقد عدّت الآخر المختلف، الأكثر تصالحاً مع المكان والتاريخ، عدوّاً وجودياً، بحيث بات معيار الانتماء أو الولاء للهوية هو مقدار امتلاك الوعي الارتيابي الحذر بهذا التهديد الوجودي للآخر. ومع تراكم التربية القومية للدولة، على الصعيدين النظري وعلى صعيد الممارسة، أصبح هذا الموقف معياراً حتمياً لدى الفرد التركي لوعي هويته ولإثبات إخلاصه للدولة القومية التركية.
* أستاذ الفلسفة السياسية
- جامعة كويه بكردستان العراق.[1]