د. #سربست نبي#
الثورات العربية جميعها حتى الآن هي مجرد (بروفات) تراجيدية للثورات التاريخية الحقيقية، ربما تؤول إلى تعلّم الشعوب العربية كيف تثور ضد الطغيان، وكيف تكون حرّة وتؤمن بحرية الآخرين وتتخلص من عبوديتها، إلا الثورة السورية. فهذه الأخيرة يحار المرء في أمرها إلامَ ستؤول، بالرغم من أكلافها الباهظة بشرياً؟ وهذا يفيد في أن شرعية الثورات تاريخياً لا تقاس بحجم التضحيات، إنما بقدر حجم إنجازاتها.
بالمقابل لم يتعظ مدّعو السياسة الكردية ومنتحلو لسان القضية القومية (القوميستانيون) من دروس التاريخ والسياسية، وبرهنوا مرة أخرى، حتى هذه اللحظة، على فشلهم الذريع في تمثيل قضية الشعب الكردي القومية.
إن غياب الخطاب السياسي المشترك، الفشل في تأسيس القرار القومي المستقل، عدم وجود نخبة سياسية قادرة على الاستقطاب والقيادة، كلها ملامح أصيلة للأزمة الخطيرة التي تواجها القضية الكردية في سوريا. ما جعلها عرضة للاختراق الخارجي، وللاستباحة من جهة القوى المعادية للقومية الكردية. نصف قرن من العجز السياسي، وأكثر من عشر سنوات تاريخية حاسمة، أثبتت فشلها وعجزها.
لمَ لا نعتاد على الاعتراف والنقد الذاتي؟ المشروع السياسي الكردي في سوريا افتقد طوال تاريخه إلى حامل سياسي نخبوي يؤمن به وينافح عنه. الحامل السياسي الراهن كان، ولايزال، على استعداد دائم للإقدام على المساومات التاريخية والسياسية، على استعداد لاختلاق التبريرات لأزمته المزمنة، هو في نهاية المطاف لا يؤمن إيماناً حقيقياً وراسخاً بالمشروع الذي يدّعي تمثيله.
قوى سياسية كردية ومجاميع باتت عاجزة، بل غارقة في عجزها وانتهازيتها، ومع ذلك تصرّ على ادعائها بالوجود والشرعية. أعارت لسانها لمحراب السكوت والصمت المخزي. ووضعت قلبها على مائدة الجبناء. هذا الكلام يخصّ كلّ من سكت ويسكت عن الإرهاب الذي تعرض له شعبنا منذ البداية في حلب وفي قسطل جندو، وحتى الآن في عفرين ورأس العين. انتهكت مجاميع المرتزقة أسوار مدننا واستباحت قرانا، أزهقت أرواح مواطنينا، كل ذلك لم تثر حفيظة محازبينا الكرد. وماذا بعد هذا الصمت المريب؟ الجماعات الإجرامية وكتائب القوميين والسلفيين، واصلت إرهابها بعد كل ذلك، مشفوعة بشماتة وغبطة بعض الأطراف الكردية، التي لم تجد حرجاً من صمتها إزاء بربرية هؤلاء اللصوص العتاد، بعثيو الأمس وجهاديو اليوم.
وظلّت جبهة الصمت الحزبية تتذرع بخرافات سياسية شتى، وتلهث وراء خيارات غير قومية، وتلجأ إلى توجيه الرأي العام نحو قضايا زائفة، تشتت اهتمامه وتصرف أنظاره عن المشاكل الحقيقية والتحديات السياسية المصيرية، حتى تسلل الغزاة المتربصون بنا والرابضون على تخومنا إلى مدننا وقرانا، وعاثوا فيها الفساد، وأمعنوا في القتل والنهب والسطو.
لن تكون هناك حرية حقيقية لشعبنا ولن يحظى بأية مساواة في سوريا المستقبل ما لم نعترف صراحة بعيوبنا السياسية حتى هذه اللحظة، وفي الوقت ذاته، ما لم نسعَ إلى توحيد إرادته حول مصالحه القومية.
لقد صادر إرادة هذا الشعب واستبد بمصيره ساسة صغار ومتسلقون لم يهدفوا إلا لمجد أو نجاح شخصي عابر، وكانت الأكلاف باهظة حتى هذه البرهة على مستقبله. وما يبدو مخيباً للجميع هو أن جميع ثورات الشعوب أنتجت أو عرفت رجالاً تاريخيين عظماء، إلا ثورة شعبنا الكردي في سوريا، التي لم تحظَ حتى هذه البرهة بوجود رجالات تاريخ حقيقيين، من الوسط السياسي الكردي السوري، ممن لديهم وعي بالمسؤولية التاريخية تجاه الأهداف القومية وبمقدورهم تجسيدها واقعياً في سلوكهم.
الجوهري في هذا الأمر أن رجال السياسة الكرد في سوريا لم يعتادوا على ممارسة أي دور تاريخي عظيم، وهم يفتقرون إلى الثقة الذاتية بإمكانية لعب هذا الدور، ولهذا نراهم في أغلب الأحيان يرتضون لأنفسهم دوراً هامشياً وتابعاً، دورُ يحتمل القول عنه إنه يليق بالرجال الصغار، وتجدهم في أوقات كثيرة يتهافتون على موائد المعارضة الفاشية من دون وقار أو مهابة. الشعوب تخدع بسهولة ولمرات، وقد خدع شعبنا من قبل ساسته في هذه المرحلة أكثر من جميع المراحل الأخرى، إلا أن الخشية تكمن في أن الخديعة هذه المرة قد تعادل انتحاراً تاريخياً.
حتى هذه البرهة من تطور الحدث السوري لم نسمع من رموز المعارضة ما يبعث على الأمل والطمأنينة. الكل يتسابق على نحو أهوج إلى إثارة الكرد عبر مواقفهم العدائية وتصريحاتهم التي تكشف عن ذهنية كريهة وضيق أفق عنصري. الكلّ يهذي ويصرخ حينما يتعلّق الأمر بحقوق الكرد وقضيتهم. الارتياب والحقد والتعصب هو حقيقة وجوهر وعي هؤلاء بالوجود الكردي. ومن الصعب عليهم إقناعنا بكلامهم المنمق عن المساواة والديمقراطية والمواطنة. الأقنعة الصدئة على وجوهم من السهل إزالتها، مثلما تجلّت في مرّات عديدة. كيفما كان تفسير هذا الأمر فهو يعبر عن حقيقة المعارضة السورية وواقع حالها اليوم.
واقعة أخرى كشفت عن حقيقة موقف هذه المعارضة، تجلّت في ردّات فعلها إزاء مشروع الإدارة الذاتية. وبصرف النظر عن موقفنا من النزوع إلى إعلان إدارة ذاتية في المناطق الكردية من جانب أطراف كردية وطبيعة المشروع نفسه، وهو من أبسط الحقوق التي يمكن لجماعة ممتدة وذات هوية مشتركة أن تحظى به ويعترف الآخرون. يلاحظ ردّة فعل فاشية، مذعورة، تطفو على مشاعر جميع المعارضين السوريين، من رعاعهم وحتى نخبهم، دون أية محاولة ظاهرة لتفهم حقوق الآخرين أو التسامح. القيح العنصري المقنع بعبارات “الوطن للجميع” و”الدولة المدنية” أخذ يطفو على مواقفهم دون خجل أو حياء، كل اللاعقلانية والغطرسة السياسية وغرور الوصاية صارت توحدهم في كتلة متراصة من المشاعر العدائية.
النبلاء منهم صاروا يستعيرون من معجم عوامهم بذاءاتهم كي ينعتوا الموقف الكردي ويعبروا دفعة واحدة وبابتذال شديد عن انفعالاتهم السياسية المتراكمة وكراهيتهم، راحوا يزعقون مثلهم، يحدثون جلبة وصراخاً لم نعهده إلا في “أسواق الجمعة” بعد أن تخلوا بيسر عن هالة الوقار والرصانة التي ادعوها طوال الحقبة السابقة. الحق هذا يثير الذعر ويعمق من شكوكنا أكثر بنواياهم، بخاصة أن أيّاً من هؤلاء لم يبد أي انفعال ظاهر، غاضب، ولو جزءاً يسيراً منه، إزاء الإمارات الإرهابية التي انبثقت كالفطر في أصقاع سوريا طوال الفترة السابقة، أو إزاء الممارسات المشينة للميلشيات المرتزقة في عفرين وسري كانيه (رأس العين). العداء للكرد والتنكر لوجودهم وحقوقهم يشكلان قاعدة صلبة ومتماسكة توحّد النظام والمعارضة في سوريا وتجعلهم في جبهة واحدة.
كان الحفاظ على استقلال القرار القومي في غرب كردستان أهم من أيّ إنجاز سياسي آخر. ولهذا يعدّ انضمام أي طرف قومي للائتلاف المعارض، الذي يعتبر وكراً فاشياً لكل إرهابي طائفي وبعثي عنصري، دليلاً على فشله في تمثيل القضية الكردية في غرب كردستان. لقد بدا هذا الانضمام متسرعاً، كما أثبتت الوقائع المتلاحقة، إذ لم يكن الغرض منه ضمان الحقوق القومية كما أثبتت الوقائع، على العكس من ذلك مثّل تصفية للقضية القومية وهدراً للحقوق. كان الهدف منه هو تحقيق بعض الانتصارات الحزبية الضيقة والتافهة على حساب مصالح الشعب الكردي ودليل قراءة خاطئة للموقف السياسي. كان هذا الانضمام على الضد من إرادة الشارع الكردي السياسية ورغبته. ومثّل مقامرة بوجوده في ظل التحديات الإقليمية المستجدة. وبالمقابل فإن بقاء الكرد كقوة سياسية مستقلة، ذات إرادة سياسية وقرار مستقلين كان أنفع بما لا يقاس من هذا التهافت اللامجدي.
لا نعلم أيّ عقل خارق أقنع بعض “الرؤوس السياسية” الكردية حينها، بأن الانضمام للمجلس الوطني السوري أو الائتلاف المعارض وبقية الأطر المعارضة، يعدّ مكسباً سياسياً وقومياً، وشرطاً حتمياً لأيّ اعتراف سياسي مستقبلي بدور الكرد وحقوقهم في سوريا؟ ومن المرجح أن هذه القناعة سادت بسبب القابلية للاستجداء أو التهافت الانتهازي لدى بعض الساسة العاجزين والمتسلطين على القرار الكردي نيابةً أو وكالة، أكثر من أيّ شيء آخر.
لمَ هذه الحتمية الساذجة؟ ولمَ هذه التبعية الانهزامية لإرادة سياسية غير كردية وغير وطنية سورية؟ ولمَ القول إن الكرد وحدهم، دون الاتكال على غيرهم، عاجزون عن فعل أيّ شيء، وأن قضيتهم بهذه المكانة تفتقر إلى كلّ شرعية سياسية؟
ثمّة وعي سياسي دونيّ كان وراء اتخاذ هذا القرار، ناجم عن الجهل المروّع بالواقع السياسي القائم، وعن عدم الثقة بقدرة الكرد على إنجاز أي تقدم لمصلحتهم القومية اعتماداً على قدراتهم الذاتية. يعزز هذين الأمرين رغبة العديد ممن انتحلوا الحديث باسم القضية الكردية في المضي بالمتاجرة بمستقبل البشر لأغراضهم الشخصية الأنانية، واختزال المصالح القومية المشتركة للمجتمع في أهوائهم الذاتية.
لقد قيل من قبل أن القضية الكردية مثل “العملة الفكّة على طاولة مقامرين كبار” وبالفعل أصبحت كذلك اليوم بعد أن تهافت عدد من الساسة الكرد على موائد من يتنكر لكل وجود كردي في غرب كردستان. مصادرة القرار القومي الكردي في سوريا وتسليمه لحفنة من العنصريين والمتطرفين الإسلاميين لم يكن مجاناً ولم يكن فعلاً صادراً عن حسن نية، بل جرت تسويات خفية ومقصودة، كانت أقل نتائجها ضرراً دفع القضية الكردية إلى خلف المشهد ووراء الاهتمامات الراهنة وتمييعها، بعد أن ألحقت بأجندات صغيرة غير ذات أهمية أو قيمة، وربما سيحكم عليها بالنسيان، كانت هناك مقامرة بخسة أيضاً بالقرار القومي وبإرادة الشعب الكردي من جانب سياسيين صغار، ربما لم يكونوا نتائج فعلتهم أو أرغموا على فعل ذلك.
كان أحد أهم أهداف الداعين إلى تمثيل كردي في سياق الهيئات المعارضة الأخرى، دون الاعتراف بالتمثيل المستقل، هو تمييع الطابع السياسي المستقل للقضية الكردية، والنظر إليها على أنها عتبة أو هامش على القضايا الأخرى، وفي نهاية المطاف حرمانها من أن تكتسب بعداً أو وزناً دولياً. وهذا ما سعت إليه أطراف إقليمية عبر تعاون وتهاون وتواطؤ بعض المحسوبين على السياسة الكردية السورية. فالسؤال الرئيس الذي كان ينبغي الإجابة عنه بداية هو، هل القضية الكردية متعلقة بوجود هذا النظام حتى نطمئن أن زواله سيفضي حتماً إلى حلها حلاً عادلاً، أم أنها تتعلق بالجذر السياسي والتاريخي المشوّه لتأسيس الدولة السورية؟ وهل ستنتهي مأساة الكرد في غرب كردستان بنهاية هذا النظام؟ أشك في ذلك بعمق، وأشك بعمق أشدّ اليوم في أن تقدّم مثل هذه المعارضة على أيّ حلّ جزئي أو اعتراف بحقوق الكرد مستقبلاً، علماً أن التشاؤم العقلي لديّ يحمّلني على الاعتراف بأنها لن تكون أقلّ عنصرية و إجراماً، كما أثبتت الوقائع، من النظام البعثي، ومع هذا هنالك عدد من “الأكراد الجيدين” ما يزالون يستميتون في التمسك بتلابيت هذه المعارضة الفاشية والتحالف معها حتى الآن رغم إفلاسها الأخلاقي والسياسي وطنياً وعربياً وعالمياً، ويختلقون الذرائع المجانية لتبرير بقائهم وتمثيلهم الهشّ ضمن أطر مؤسساتها .
لا يمكن لهذه المعارضة أن تقنع الكرد بأنها مع التغيير الحقيقي في سوريا وبأنها ثائر ضد الاستبداد ومع الحرية والمساواة، دون أن تكون نصيراً حقيقياً للحل الجذري للمسألة الكردية في سوريا. وبالمثل الكرد اليوم ليسوا بتلك السذاجة حتى يسعوا ويضحوا لأجل استبدال طاغية بآخر مأفون أشدّ إجراماً، هذا ما لا يرغب هؤلاء في فهمه والاقتناع به.[1]