د. #سربست نبي#
بداهة هذا السؤال لا تبرر طرحه إلا من زاوية الاستهجان والاستغراب من مطالب الكرد وما يريدون..؟!! والارتياب في شرعية حقوقهم أو طموحهم وتطلعهم لوضع أمثل مستقبلاً. فهذا السؤال يضمر استياءً خفياً وعميقاً، أعمق بكثير من الحياد المعرفي الظاهر الذي يدعيه. ليس بريئاً بالقدر الذي يعلن فيه عن نفسه بصفته موضوعاً للبحث والتناول المعرفي أو السياسي فحسب.
ما يريده الكرد يتعلق بإرادتهم، ولا يتعدى موضوعه حدود إرادة الآخرين، ولهذا لا يمكن أن يكون ما يريدونه عبئاً أو على حساب الآخرين. إلا إذا أراد الآخرون أن يدسّوا إرادتهم لسبب ما في موضوع إرادة الكرد. الإرادة المقصودة هنا إرادة عامة، وبعبارة أخرى هي هويّة نوعية واعية لذاتها ووجودها في التاريخ. وليست إرادة كمية. لهذا لا تقاس أهدافها وشرعية مقاصدها بمعيار كمي. إنها إرادة الحق، الحق بصفته موضوعاً وغاية للإرادة.
وطالما أن الأمر يتعلق بالإرادة، فالكرد وحدهم معنيون بمصيرهم في سوريا، وهم من يقررون أن يكونوا سوريين حقيقيين بإرادتهم الحرّة. لا مرغمين أو مكرهين بوصاية غيرهم وإرادتهم. لا أحد يستطيع أن يجعل الآخرين سعداء مكرهين، أو يرغمهم على دخول الفردوس. الذين لا يؤمنون بحق البشر والجماعات في العدل والمساواة والحرية يستطيعون ببساطة شديدة أن يتنكروا لهذا المبدأ ويرفضوه. إن ما يجعل الكرد سوريين ويحثّهم على الكفاح لأجل سوريتهم هو فقط الأمل في الحرية والمساواة وليس أيّ شيء آخر. لا مداهنات أخوية مثل شعار(الأخوة العربية-الكردية) المجاني تاريخياً وسياسياً، ولا تملق أيديولوجي من أي صنف أو نوع، ولا أية مصادفة تاريخية اعتباطية تجعلهم سوريين دون إرادتهم. بقدر ما ستكون سوريا حرة، وبقدر ما سيكونون أحراراً فيها ومتساوين مع غيرهم، سينحازون لها.
الكرد في سوريا (غرب كردستان) لا يتفيؤون بظلال تاريخ أحد، ولا بشرعيتهم السياسية. وشرعية حقوقهم تنبثق من هنا بالذات، لا من أيّ مصدر آخر. وهذه الحقوق تتمثل في مبدأ رئيس وبدهي، هو حقهم في تقرير مصيرهم، في أن يكونوا سوريين بإرادتهم الحرّة، لا مرغمين على الاختيار.
الوجود الكردي حقيقة تاريخية وجغرافية علمية، وحقوق الكرد ليست بدعة أيديولوجية أو اختراعاً سياسياً. وهذه الحقيقة أقدم بكثير من حقيقة سوريا السياسية وأكثر شرعية من الناحية التاريخية. وكما أنكم لا تستطيعون إنكار الحقيقة العلمية ل(تفاحة نيوتن) فلا يمكنكم إنكار هذه الحقيقة العلمية التي يمكن التحقق من علميتها بالرجوع إلى التاريخ. يمكنكم أن تتنكروا للحق أو الحقوق أو تساوموا عليها أما الحقيقة العلمية فمن المحال تجاهلها، محال أن تتنكر لتفاحة نيوتن وقانون الجاذبية، لكن من الممكن الثرثرة بلا نهاية حول حقوق الهنود في أميركا.
الشعب السوري واحد!! هذا الشعار لم يعد سوى خرافة حسنة النيّة. فقط لاحظوا حجم الحقد والكراهية والعنف الرمزي المقنّع في خطاب المعارضة الإسلامية، راقبوا مشاعر الشارع عبر ترجمة الشعارات السائدة لديه (النصيريون المجوس، الكرد المرتدون، المسيحيون الكفرة، الدروز…الإسماعيلية….الخ) وهذا الأمر لم يعد يقتصر على الشحنات الانفعالية في الشعارات المعلنة، وإنما أخذ يتجسد في عمليات الانتقام المتبادل التي حصلت وتحصل على نحو متزايد ومكثف في معظم المدن السورية. بداهة النظام أراد ذلك وسعى إليه بكل طاقته، ومن يسّر له هذا الأمر ومنحه الشرعية هي المعارضة المتأسلمة وحلفاؤها كي يبرروا بهذا خطابهم ويسوّقوه على أنه خطاب الإنقاذ الوحيد والبديل. لقد هللوا في الخفاء لهذا الأمر ونجحوا بموازاة فعل النظام في تحقيق هذه الكارثة، وتقاسموا معه المنافع غير البريئة لهذا الهدف.
السوريون ساروا قدماً ويسيرون بخطا راسخة على دروب الكراهية نحو عداوة أبدية. من دفعوهم إلى ذلك كانوا يدركون جيداً، ويملكون من الخبث والعقل الشيطاني ما يجعل التعايش بينهم محالاً بعدئذ. والثورة السورية التي بدأت كثورة عظيمة انتهت كسيرك عملاق للقتل والخراب، انتهت كجحيم مفتوح يلهو فيه جميع شياطين الأرض وأقزامه. الآن صار بوسع كل لص وقاطع طريق وبهلوان ومخادع أن ينتحل صفة القديس الثائر ويقحم نفسه فيها.
الكلّ مارس ويمارس فعل التقسيم، ممارسات الجميع أفضت وتفضي إلى تقسيم البلد اجتماعياً وجغرافياً وسياسياً، الكل بالفعل انفصاليون ويفصلون بين السوريين بأسوار الجماجم والدم، الإخوان، السنة العرب، التركمان، وحدهم الكرد المتهمون هنا بالانفصال دون غيرهم. الكرد هنا مشجب فعل التقسيم ونواياه لدى الجميع، مع العلم أن الكرد دون غيرهم ينفردون بطرح حلول لمشاكلهم في سياق وطن ديمقراطي وتعددي موحد، وقد بحّ صوتهم بهذا الشعار دون أن يصدقهم أحد ولن يصدّقهم إلا من يؤمن بسوريا للكل.
دعونا نبدأ من هنا، من الذي يضمن بقاء سوريا موحّدة بكل هذا التفكك والتناحر والخراب؟ واهم جداً من يتخيل أن سوريا يمكنها أن تحيا بعد الآن في حكم قومي أو طائفي مستبد، وواهم أكثر من يعتقد أنها يمكن أن تكون سلفية ويدعو لذلك. وأشدّ وهماً من هذين من يعتقد أنها ستحتمل بعد الآن طغيان أية أيديولوجية عروبية عنصرية تلغي الآخر. سوريا يمكنها البقاء بذاتها دون الاستعانة بأية تخريفات أيديولوجية من خارجها. ومن هنا يبدأ التأسيس الكبير للحل الوطني الشامل، وهذا هو الأفق الذي يمكن ضمنه حلّ القضية الكردية.
المسألة الرئيسة تكمن في كيفية المصالحة مع المستقبل، في هذه الجغرافية السياسية، وهذا ما يمكن أن نتوقعه من هذا التحول التاريخي التراجيدي. وفي هذا السياق تشكل الدولة الوطنية الحديثة الإطار السياسي والحقوقي الأرقى لتنظيم الحياة المشتركة في هذه الجغرافية. كل ذلك عبر المساهمة الحرّة للجميع في تقرير مصيرهم السياسي، والسعي إلى أن يكون مستقبلهم هو ذاتهم، ولا شيء غير ذاتهم، المستقبل الذي ينبغي أن يسهموا في صناعته ويحققوا ذاتهم فيه تحقيقاً حرّاً.
وما يبدو جليّاً لنا حتى هذه البرهة، أنه ليس ثمة بينة أو قرينة تنبئ عن استعداد المعارضة العروبية أو الإسلاموية على الاعتراف بالحقوق القومية للكرد السوريين، أو إعلان القطيعة مع ميراث البعث العنصري وسياساته الإنكارية تجاه الكرد وقضيتهم. وهذه القوى حين تجد نفسها مرغمة على الحديث عن الشأن الكردي السوري إنما تتحدث بطريقة عمومية وضبابية أقرب ما تكون إلى تصريحات وزراء إعلام حكومة البعث وناطقيه. وهي في الوقت ذاته تطالبنا بتأييد مطالبها السياسية بحزم دون الاكتراث لحقوقنا العادلة بالمقابل. ويتعذر اليوم الحديث عن تحالف مشترك للمعارضة السورية، شامل للكرد والعرب، بغياب هذا الخطاب الديمقراطي، الجذري والشامل، الذي يحتوي مطالب الكل ويستغرقها، ويؤكد على عدالة القضية القومية للكرد السوريين.
إن الاعتقاد بسوريّة القضية الكردية والاعتراف بها، من جانب هؤلاء، لا ينبغي أن يقوما على أساس وعي عروبي مجرد أو إسلاموي، وإنما من خلال وعي سوري مشخّص. وعي بالمواطنة القائمة على الاختلاف والإقرار بالتعددية السياسية والتاريخية والثقافية. وهذا الاعتقاد لا يكون ممكناً إلا عبر الإقرار الدستوري والسياسي بأن هويّة سورية السياسية ليست عربية فقط، ولا ينبغي أن تكون عروبية كذلك، إنما هي تعددية. وينبغي لأيّ نظام سياسي محتمل أن يستمدّ شرعيته من المجتمع السوري بتنوعه القومي والثقافي والاجتماعي والتاريخي القائم، وأن يجد أسسه الواقعية في هذا التنوع ويعكسه في مبادئه العامة. وعادة ما يكون الدستور هو الناظم لهذه المبادئ العامة ولعلاقاته. ولهذا من العدل تماماً أن ينصّ الدستور السوري مستقبلاً ويحدد بوضوح أن الدولة السورية هي دولة متعددة القوميات، وأن العرب والكرد وإلى جانبهم السريان يمثلون القوميات الرئيسة في سوريا. وأن على أيّ دستور ديمقراطي محتمل لسوريا أن يقرّ بالتساوي التامّ بين العرب والكرد في المكانة والدور، وفي الحقوق والواجبات، كمدخل عادل ورئيس لحلّ القضية القومية للكرد في سوريا. وعليه أن ينصّ كذلك بأن البرلمان، أو أيّة سلطة أخرى، لا يملك حق المساس، بهذا المبدأ، أو يحدّ من شموليته ومن تحققه في كلّ مناحي الحياة السياسية أو الاجتماعية، وأن أيّ قانون يمسّ هذا المبدأ أو وجاهته يطعن في دستوريته، ويعدّ مخالفاً لعقد التأسيس والشراكة، وباطلاً في نهاية المطاف.
الانتماء لسوريا هو أعدل الأشياء بيننا، هذا ما ينبغي إعلانه والتأكيد عليه. وبكل المعايير ليس هناك ممن هو سوري أكثر من سواه أو أقلّ سوريّة. سوريا هي للجميع دون تفاوت أو تفاضل. ولا معنى لحرية أيّة جماعة من دون هذه المساواة بين الكل. وعلى أيّ نظام سياسي محتمل يتصدى للتغيير أن يبرهن على أرض الواقع، وبصورة عملية، أن سوريا هي كرديّة بمقدار ما هي عربية، وعربية بمقدار ما ستكون كردية. وهي في الآن نفسه لن تكون عربية، بمقدار ما لن تكون كردية أو سريانية. وعدم القبول بهذه البداهة السياسية والثقافية سيقود المجتمع والدولة مجدداً إلى الخضوع لطغيان فئة أو جماعة عرقية واستبعاد البقية.[1]