#سربست نبي#
مفهوم (الإسلام السياسي) مفهوم فضفاض ينسحب على طيف واسع من التيارات والحركات السياسية المنظمة، التي تعتقد بالإسلام لا كمجرد دين أو معتقد آخروي، إنما أبعد من ذلك كنظام سياسي شامل للحكم. وهي تستلهم رؤيتها للحكم والسياسية من الشريعة الإسلامية، التي نجد ترجمة نظرية لها لدى السنة في مفهوم (الحاكمية الإلهية) وكذلك لدى الشيعة في مفهوم (ولاية الفقيه) مثالاً.
الإسلام هو دين الغالبية العظمى من الكرد، نعني الإسلام بجميع أنساقه المذهبية، الإسلام السني والإسلاميات الإمامية والباطنية؛ أهل الحق، الإسماعيلية، الإثني عشرية، وغيرها.
ليس هنالك مذهب نموذج- نمطي سائد بين الكرد، بحيث يمكن القول عنه أنه يمثل معتقد الغالبية العظمى منهم ويعبّر عن رغباتهم الروحية تماماً.
وليس هناك من أيديولوجية إسلامية واحدة تتمثل فيها جميع المعتقدات المقدسة والأنساق، دون اختلاف أو تعارض، ويمكنها أن تعمم في المجتمعات الكردستانية الراهنة، من شأنها أن تحقق وحدة قومية سياسية وأدبية متمثلة في الدين الإسلامي. مثل هذا الاعتقاد هو وهم يستلب له الكثير من الكرد ممن يدعون إلى مجتمع سياسي إسلامي كردي. فاللجوء إلى الدين الإسلامي لم يعد إيديولوجية شمولية صالحة إزاء معطيات العصر الراهن، وبخاصة تلك المتعلقة بالواقع الكردي وتحدياته.
من هنا ينبغي التأكيد على أهمية فصل الإسلام كدين ودعوة سماوية عما هو سياسي ودنيوي يتعلق بالسلطة. الكرد هم من الأمم الخصبة في التعددية الدينية وفي التنويعة النسقية – المذهبية، فإذا ما دعا أحدهم إلى أسلمة الكرد والمجتمعات الكردستانية سياسياً، أو إلى تماه الخطاب القومي في الإسلام، نسأله في الحال: أي إسلام تقصد وتعنيه من الإسلاميات المختلفة؟ هل هو إسلام الشيعي، أو السني…. الخ؟ بالطبع لا بدّ له من أن يحدد نمطاً معيناً لمقاربة الإسلام الذي يبشر به. عندئذ يدخل هذا الإسلام السياسي في تعارض فعلي ومباشر عند التطبيق مع معتقدات الغالبية من الكرد، دونكم بالمعتقدات المسيحية والأزدائية المختلفة معها أصلاً. لا بدّ أن يصبح الغالبية العظمى من الكرد ذميين من منظور هذا الإسلام أياً كانت طبيعته. هكذا يتعين أن يكون هنالك تمييز وفصل حاسمين بين (الكردايتي) والإسلام على مستوى التمثيل السياسي.
بالمقابل ليس من المنطقي والإنصاف أن تدعو الكرد إلى قطيعة تاريخية حاسمة مع الإسلام، فهذه فانتازيا تاريخية. ولأن الكرد قد أمضوا شطراً طويلاً وكثيفاً من سيرورة تاريخهم في الإسلام، فإن مثل هذه الدعوة لا تخلو من التعسف والقسر ومن الرغبة في ليّ عنق التاريخ استجابة لمآرب أيديولوجية. أياً كانت طبيعة هذا التاريخ، فلا يعقل أن تدعوهم إلى أن يتلفوا أربعة عشر قرناً من تاريخهم الخاص في الذاكرة، ويتخلوا عنه لمجرد الرغبة في إثبات الذات بمواجهة النزعة الماضوية تلك. الكرد، عوضاً عن ذلك، بحاجة إلى وعي تاريخي بالإسلام.
وهنا تبرز أهمية التمييز بين المقدس في الدين وبين الدين كجملة معاملات وعلاقات دنيوية، نعني العقل العملي في الدين. أما المقدس فيظل هو واحد إلى حدّ كبير بالنسبة لجميع الأديان. وحتى هذا الأخير في مقدورنا أن ندرجه في سياق الممارسة الاجتماعية والتاريخية. المقدس يمكنه أن ينخرط في الصراعات بحيث يغدو مقدساً دنيوياً في طبيعته ويمارس دوراً مركزياً في المنظومة القيمية.
إن الوعي التاريخي النقدي بجدل الهوية والإسلام هو في جوهره وعي تنويري، يتمثل في سؤال الراهن والمصير، هذا سؤال التنوير كردياً، سؤال راهن الكرد الذي هم عليه. أي السؤال، ما الذي يجعلهم على مستوى التاريخ؟ بحيث يرقى الكرد إلى مستوى الأمم الأخرى، ويتزامنوا معها في درجة حريتهم وتقدمهم، ليس في تقرير المصير فحسب، ولكن قبل ذلك- وهذا شرط رئيس- في القدرة على التفكير بحريّة وممارسة النقد، دون هوادة، إزاء ماضيهم وحاضرهم.
معظم جماعات الإسلام السياسي في العالم تتوحّد حول قناعة أيديولوجية مشتركة، تتخطى الوعي بالانتماء القومي نحو وعي كوزموبوليتي (كوني) مجرد، قوامه الإيمان بالحقيقة الشاملة والمطلقة للإسلام. وفي هذا تزدري الجماعات الإسلامية، ومنها الكردية، خصوصيتها القومية وتعدّ الهويّة القومية هرطقة أيديولوجية غربية مضادة لروح الإسلام. وضمن هذا الأفق يمكننا أن نفهم رفض النواب الإسلاميين في برلمان كردستان الوقوف تقديراً للنشيد القومي الكردي.
هنا تثار ملاحظة تتعلق بالوعي التاريخي لدى تيارات الإسلام السياسي. وهي عموماً حين تعاود قراءة تاريخها القومي الخاص، إنما تنطلق في النظر إليه طبقاً لمجموعة مصادرات أيديولوجية ومعتقدية غير قومية، ولهذا نجدها تكفّر كل تاريخها ما قبل الإسلام وتتبرأ منه تماماً. وبموجب تلك المصادرات تقوم بتأويل تاريخ الشعوب والحضارات السابقة على الإسلام وتفسّرها. هذا التأويل هو شكل آخر مقلوب للرؤية الإسلامية للماضي العربي قبل الإسلامي بعدّه جاهلية، إسقاط معكوس.
الإسلامي السياسي العربي، عروبي بامتياز، في بنائه وفي منطقه، وهذا الانتماء العروبي شرط مقوّم حتى لإيمانه. الإسلامي السياسي (الكوردي)، بخلاف ذاك، متحلل من هويته وانتمائه، بل يجد في هذا التحلل شرطاً لإيمانه القويم. والحال أن الفرس أدركوا هذه المعادلة منذ أمد بعيد، ولهذا عدّوا من التشيّع عتبة لفرسنة الإسلام.
لايزال الإسلام السياسي الكردي يعاني من مأزق وعي الهوية، بين الانتماء إلى إيديولوجية سماوية لا تكترث بما هو دنيوي، وعي يتخطى أزمة الراهن بالقفز إلى الوراء نحو الماضي، ويلوذ بنوع من الإسلام الانقلابي النسقي الباكر من جهة أولى، وبين ما ينبغي أن يكون عليه هذا الوعي، حيث يفترض أن يكون وعياً دنيوياً – علمانياً وحداثياً من جهة ثانية. وبالنتيجة يعيش وعياً تلفيقياً، متأرجحاً، يماه بين الأمة والدين، نعني بين الكردايتي والإسلام، لمصلحة الأخير. وهو ليس كل الإسلام عموماً، إنما إسلام خاص مستمد من نمط نسقي سياسي ومذهبي معين. لكنه في نهاية المطاف يؤكد على نمط من الادعاء الشمولي في الوعي بالانتماء، وعي كوني مجرد” المؤمنون أخوة” لا يلزمه بعبء مسؤولية تأكيد ما هو ذاتي وخاص والبرهان عليهما، أو يلزمه بتأكيدات الذات المرهقة.[1]