=KTML_Bold=إبراهيم محمود يكتب : الشّاعرُ كردياً – أحمد حسيني=KTML_End=
في حلقة سابقة، أشرت إلى أن ليس لديّ مصادر مباشرة تمكّنني من الكتابة عن الشاعر أحمد حسيني الذي يتدثر داخل معطف الكردية: لغة وتصورات ومتخيلاً وميثولوجيا وحتى أوهاماً وانطباعات، ويسعى ما وسعه الجهد إلى التعريف بذاته المغايرة لذوات الكثيرين من بني جلدته، بالشعر الذي ينفتح على ذاكرة جدودية وحكائيه وجغرافية، تضج بحيويات كائناتها وجماداتها، جنّيها وإنسيها، مرئيها ولا مرئيها، ساكنها ومتحركها، سرّيها وعلنيها، نزوتها وحكمتها، موتها وحياتها..
هو اكتشاف حديث بالنسبة لي (حيث أنوّه بدايةً بأهمية ما كتبه الأستاذ نزار آغري في مقاله: النفس الحزينة ملاحظات في الكتابة الشعرية 1- : أحمد حسيني والذي قرأته في موقع عامودا كوم , بتاريخ 10 شباط 2004 , هو مقال, وإن كان فيه انطباعية لافتة إلا أنه تضمّن, كما أرى إشارات مهمة , لا بل وذكية , تنم عن وعي شعري جليّ, عند آغري, بخصوص بنية القصيدة الحسينية, إن جاز التعبير, وفي جوانب مختلفة رغم أنه أورد استشهاداته الشعرية كما هي دون ترجمتها إلى العربية, يقيناً منه – ربما- أن القارئ بوسعه متابعته أكثر, والتفكير معه, ولكن هذا يكون للقارئ بالكردية اللهجة الكرمانجية حصراً وحين يجيدها, وليس قارئ العربية والتي كتب بها مقاله), وربما تأتي هذه القراءة في انطباعيتها النسبية أحياناً بالمقابل أو جانبها التأويلي الخاطف اكتشافاً لا يمنحني شجاعة المناقشة والمقاربة بعيداً عن النسيج العاطفي للذات, هي قراءة أردتها, مهما كان نوع التقديم, أفضل من أن يبصر كتابي هذا, النور المرتقب دون أن يكون أحد مواطنيه الأدبيين من كردنا ممن تعرضت في مستوياتهم المختلفة نقدياً, وذلك من خلال الأعمال الكاملة التي وقعت بين يدي مؤخراً, وأنا أعيد تنقيح كتابي وأشذبه في نقاط مختلفة, قبل تقديمه للمطبعة, إنها الأعمال التي تضم مجموعاته الشعرية السّت, تحت اسم (الديوان): إنه لغبن كبير, أن لا يكون طي الكتاب, خصوصاً وأنا أعتبره, ومن خلال قراءتي هذه, الشاعر الذي تمكن من مقاربة ذاته كردياً أكثر من الآخرين دون استثناء ممن تعرضت لهم, وهم يكتبون بالكردية, هو اكتشاف الكردية في الذات بكل أبعادها النفسية والاجتماعية والأعرافية والثقافية, وحمولاتها من الآلام والآمال, وهي لحظة تجلّي الكردي في شعره بشعره, شعوره بالعالم الذي يمتحنه من الداخل, وشعوره بما هو فيه داخل عالم لا يتقدم فيه إلا بوصفه منزوع العالم, هو دونه, وشعوره أنه في مواجهة العالم الذي يتردد إليه وهو ساكنه, ويقاومه وهو يستبطنه ويمارس إمضاءته الوجودية عليه وهو يتنحّى عنه, ويطالبه بالاعتراف به, إذ يتوارى عنه, وفي كل الحالات هذه, ثمة الشعر الذي عرف به الكردي أكثر من غيره, وبالنسبة للحسيني, لا يكون الشعر الذي يمتهنه بضاعته وقد ردت إليه, وإنما بضاعته وقد أجرى عليها وفيها تغييراً وتنويراً ليكون الشعر: شعره المنتمي إليه, إلى عصره, بين جبلية الجد (الطوطم الأكبر) ومدنية الحفيد العائش بين كثيرين متعددي اللغات منزوعي السلف إلا من جهة الانتماء فهو خلاف من ذكرتهم يقدم لنا شعره متكلماً الكردية المعاصرة دون محو ماضيها.
سليم بركات ذهب إلى العربية أوهي جاءت إليه، ما يهم هو أنه استوطنها بشعره، إلى درجة أنه تمكّن منذ باكورة أيامه (إقامته) فيها، أن ينزع عنها ذاتيتها. أن تتحدث باسمه دون أن تمثله من حيث النشأة، الحسيني كما أرى، شرع في توطيد موقعه، إقامته في كرديته (كرمانجيته) سعى إلى أن يكون (Kurmanco) بالفعل، أن يكون سندبادها الذي كلما ابتعد عن مكان إقامته، وشهد مغامرات في أمصار شتى، عاد إلى مسقط رأسه برأس ذي جغرافية حيوية مختلفة من الداخل كما هو في تعامله مع الشعر الذي يتصادى شفاهةً, ولكنه يمتزج بالقرطاس, يتلبس رائحة المدينة وأساطيرها الكتابية وفنون القول, وهو مرتحل عن مسقط رأسه (عامودا), رغم أنه محمول داخله, وعائد إليه إثر كتابة كل قصيدة, مغتن بها أكثر.
في مطلع الفصل الأول من كتابه (خريطة للقراءة الضالة) الترجمة العربية، لِ عابد اسماعيل في الصفحة 14 يقول هارولد بلوم (ندرة هم الشعراء الأقوياء), استهلال لافت وهو يربط بين مفهوم الندرة الاقتصادي في الصميم من جهة القيمة, والقوة التي تتجلى في بعدها الرمزي من جهة أخرى, ما علاقة الشعر بالقوة؟ يوضح لاحقاً (القوة الشعرية تأتي فقط عبر الصراع المظفّر مع الأعظم من الموتى، وربما من ذاتية أكثر ظفراً)، لقد ذهب بعيداً ليكون قريباً! هكذا هو الشعر, أن توغل في البوليسية مغامراً, في عالم قصي, في هيئة كاوا الحداد, إفصاحاً عن ولادة جديدة, منعطف تاريخ, والشعراء المعنيون بأسمائهم, ضليعون في التآمر على ذواتهم الآنية, إلى حد حبك مؤامرات غاية في الشراسة لمقاومة محدوديتهم الإنسية, وإلا فإن الشعر لا يستحق شرف التسمية, وهم يصارعون رموزهم (عوائقهم) لهضمهم, ليتم تجاوزهم, وفي مثال الحسيني, ربما كان الكردي الوحيد المأتي على ذكرهم -على الأقل- الذي يقاوم أجداده من الشعراء, أو أسلافه ممن يقرأ لهم, وحتى أولئك الذين ينزل في ضيافتهم الشعرية عبر لغتهم التي يجيدها, تطعيماً للغته المتفرعة شعراً على يديه المتخيليتين.
هي أطروحتي هنا إذاً: كيف يكون الحسيني الشاعر كردياً، أي كيف يكون الكردي الذي يكونه شاعراً بالكردية متمايزاً؟.
=KTML_Bold=الشعر المتكلم بالكردية=KTML_End=
لا أعتقد أن الحسيني عاقد صداقة مع لغته الكردية, ليكون شاعراً فيها, مثل غيره من مجايليه, بقدر ما بدا الخصم العنيد فيها, هذه هي تيمة الابداع, أن تلوذ بلغتك من ناحية, وتعدمها لتحييها من ناحية أخرى, تلك هي القاعدة في قتل الشعر وبعثه مغايراً, هذا ما يفعله طائر الفينيكس, يحترق بناره بعد هرم ليرجع فتياً, في مثالنا نتجاوز اللغة ذاتها, تكون هي وخلافها, مع بقاء الشاعر الذي هو وسيطها وصوتها نعيها ووعيها, مع كل الغموض الذي يبلبل لغته, بحيث يختلط الأمر(أمر القراءة) على من يقيم فيها دون حراك, فتأسره إلى أجل غير مسمى, هو صخب الكائنات والعالم الكامن في شعره.
يحضرني هنا النوبلي ج, م كويتزي حين ألقى كلمته بمناسبة تسلمه لجائزة نوبل, سنة 2003, كان صوته موزعاً في أسماء الذين تمثلهم, دون أن يكونهم (روبنسون كروزو, فريداي الخادم, دانيال ديفو مؤلفه الراوي الذي يشي باسم المؤلف), هي أصواته دون أن يكون أياً منها, ولكنه حاضر فيها جميعاً, راسماً عبرها المشهد الأكثر مأساوية لحضارة العصر, أن تكتب هو تكون ما لا تكونه واقعاً, لتغدو الواقع الآخر المرسوم كتابةً, في شعر الحسيني, رغم أنه مشغول بِ (عاموديته) من المكان كرمز وما يحيط بها, إلا أنه شعر عامودي, أي يصعد عميقاً في جدته وليس أفقياً, وهذه هي نبرة الجدة في الابداع شعراً, بحسب تصنيف باشلار له, كيف نتلمس هذا التحديد في شعر الحسيني اللا محدد أفقاً؟
لا أعتقد أن تحديد ذلك يتطلب بذل جهد مضاعف, بقدر ما ينبغي التركيز على عملية القراءة بالذات, عبر محاولة تكمن في المقروء وما إذا كان مختلفاً عن قراءتنا السابقة أم لا, النص بتوزع علاماته ودلالاته, هو الذي يعرّف بصاحبه, وما إذا كان يستحق لقب (الصحبة) أم لا, إن لعبة المفارقات الطوابقية والمرئية من الأعلى هي التي تكفل فاعلية الأثر الشعري, كما تقول القراءة الأولى حيث الشعور المصطدم بالمقروء الشعري يضيء المسافة القائمة والفاصلة بين ما هو راسب من معلومات وتصورات وانطباعات وحتى توهمات وعوائد تقييمية, وما هو متحرك ومشع في المقروء حيث يمارس تحدياً للمطبوع سابقاً, إذ الشعور بالجميل لا يكون إلا لحظة تبديه جديداً في مجمله, ولتتم بلبلة في منظومة الوعي الشعرية للعالم.
أتذكّر هنا ما قاله الفنان رودان ذات يوم ببلاغة صاعقة (المرأة عندما تمشّط شعرها فإنها تقلّد حركات النجوم) تلك هي المعادلة التي تتجاوز ذاتها كلما رست في آلية قراءة أو كتابة معيّنة، الشعر جامع بين الشعر والنجوم، كيف يمكن لكل شعرة أن تكون قطيعاً مذنبياً هائلاً من النجوم، بحيث أن العنصر الإبهاري والإشهاري يمنع النظر من رؤية الأعماق السابحة في فضاء الكوني؟ ما على المرء سوى أن يحلق ببساط المتخيل الريحي؟ كيف يمكن للنجوم (ومن يحصيها، مثلما من يمكنه إحصاء الشعر) أن تناظر الشعر في تضافره، نجوم متضافرة نافرة؟ تلك هي قيامة الشعر المتجددة في كل آنٍ وحين.
لقارئ الحسيني أن يجمع بين الحسنيين: سلافة السلف الشعري والحكائي وعفوية السكنى في العالم وظرافة وخفة الذاتي، لئلا يبقى السلف سلفاً، لئلا يستحيل المعتبر خلفاً سلفاً لاحقاً، ويموت بالتالي انسان الشعر، كرديه، إذ بقدر ما يبرع الشعر في قول كرديته أدبياً وهو حاضر في السابق بقدر ما يكون منزوع الجهات، لئلا يتصنم، ربما الحسيني فهم اللعبة هكذا
على سرير الجبال
عروساً كانت
في عش الربيع
طي وعي الحجر
عصفورة كانت
وردة مسبعة الأجيال كانت
رقيقة الثغر
ناعسة العينين
طليقة الشعر
بجيد من الورد والألحان
وعدتني بقبلة
قبلة على عجل
قياماً لكن
الخردل الهمجي
شق شفتي
وقبلهما
حاز تفاحة الجائزة كاملة
صرخت مستنجدة
اشتعلنا بها
كان نوروز الوداع
عيد الموت
و.. دفنّا الآمال داخلنا ص 16
ذلك هو الحدث / مأثرة الرعب، أعني حلبجة، ذلك هو التوافق الملحوظ بين التاريخ الذي يشهد على مكان مفجوع بكرده وكائناته، وصوت الشاعر الذي يبرز التاريخ على طريقته، كغيره من الشعراء الكرد بأكثر من لغة، وهو هنا يعرّف بفظاعة الحدث كردياً، إذ يأتي الوصف للتقريب والتجسيد للتجديد، ولأن الذاكرة الكردية لمّا تزل مأخوذة بعرفان الشعر إن أجاد
هو الخريف هكاري
ألا انهضي يا زهية
اشربي كأنك تخاصرين سيفاً
يا أنة العطشانة
انهضي كي نتوضأ بماء الصفصاف
أليس:
طي قفطانك عصي الشروق
في تصفيقاتك ولد الغروب
الشمال حلّ خلف خنادق الليل
الجنوب أصبح ثائر وشاعر الهروب ص51
ما يبدو جلياً من جهة الكتابة هو أن ثمة وعياً برؤيا التضاد، وقد دفعت بالشاعر ليمارس ما كان ينبغي عليه ممارسته منذ عقود زمنية عدة، فهو كما يلاحظ في الحراك المتخيل للصور الشعرية، يعيش صراعاً على عدة جبهات، لا أقول إنه يخرج في كل صراع ظافراً منتصراً وإنما منكسراً، ولكنه دوّن الهزيمة شعوراً باليأس، إذ أنه وكأي شاعر يبحث عن ظله الذي يتقدمه، والذي يسبقه باستمرار.
يدرك أنه يجب أن يبقى كائن الهزيمة طالما يمارس قرض الشعر, وليس قرض الشعر سوى أن تبصر الخراب من حولك أن تعاني دمار الذات في نفوس من تستنسخهم في ذاتك, وتشلح عليهم ذاتك الشعرية, أن تجلو الانقراض الذي يتجدد ليظل الشعر في الأثر, فالشاعر هو الوحيد والأكثر من بقية أفراد أسرة الكتاب, الذي يرى أنه, لحظة الهزيمة (لا القهر) ومعايشتها يكون (أي هذا الشاعر) الأكثر قابلية للاستمرار وإلا فسوف يموت فيه شاعره ال لا نمطي , أو يكون عالة على الشاعر في داخله, ومزيفاً إياه, وهذا ما يكشفه شعره, حيث كلما ذقته في تصاعده وعلى هيئة دوامة, اشتهيت المتابعة أكثر, الشعور بالهزيمة هو الارتقاء بالوعي إلى مستواها, هو اليقظة والانتباه إلى أن هناك قوى متعددة كاسحة, وفي هذه النقطة يكمن عمق الأدب والشعر خصوصاً عظمة سانتياغو في (الشيخ والبحر) ل همنغواي تكمن في هزيمته ووعيه لها, لهذا فهو لم يقهر لهذا أيضاً, وبالتالي استمرت الرواية وستستمر قبله بأكثر من أربعة آلاف عام , كان جلجامش الذي لازال حاضراً في ذاكرتنا الجمعية, وفاعلاً سحرياً منشوداً, ليس لأنه انتصر وإنما بعد سلسلة مقاومات ضارية, وأدرك معنى أن ينهزم دون استسلام, لو كان منتصراً لَما كان له هذا الحضور في الأدبيات المعتبرة اشتراكية, نسيت غالبيتها لأنها ركزت وراهنت على مفهوم البطل الذي لا ينهزم, البطل الهرقلي الغالب دائماً لهذا كانت النهاية الوخيمة, بعكس شخصيات (دوستويفسكي , تشيخوف , تورغينيف..) في مجمل شعرنا الكردي يتبدى الشاعر في أوج المأساة منتصراً لينال تصفيق الجماهير القطيعي في الكثير مما هو مكتوب مازالت الحالة قائمة (تأملوا Kîme ez ل : جكرخوين, تروا ذلك, وهو ليس المثال اليتيم ولا المثال المذكور إلغاءً لشاعرية جكرخوين وإنما للتعبير عن حالات استديمت عاشها بحكم وعيه وبحكم الضرورة القاهرة كما يبدو أيضاً), ثمة شعور بالاستلاب الداخلي, لكنه غير معترف به, المأسوية لم تغد بعد فناً معتداً به في الشعر الكردي إلا نادراً, باعتبار الآخر باستمرار هو محل اللعنة, السلف هنا حاضر وثمة الشاعر يرثه ويورّثه.
الحسيني يتلبّس شخصية Beko في كتابة الشعر، في سفح العالم من خلاله، إنه المسكون بوطأة المأسوي، فلولا بكو لما كانت مم وزين، ذلك شرط حياتي، عبره الأحداث تتتالى وتتداخل والأيام تمنح التاريخ فعل الواقعة الجديرة بالقراءة.
إنه يقرأ ما حوله ويكتب لاحقاً، فهو الشاعر الرجيم اللصيق بالمكان، والمذكر به، حيث سحر التصدعات في مشهديات الحياة اليومية التي يتأملها، يتقاسمه عميقاً، وعلى هذا الأساس يمكن قراءته، ولهذا فإن (النقد هو ردة فعل على قراءة، وفي الغالب كتابة عن قراءة) كما يقول مؤلفا كتاب (قضايا أدبية راهنة) المذكور سابقاً ص156, إنها قفزة الممانعة والمنازعة، إذ شعره يقيم في قلب رموز تتعارض غالباً ليبقى طي كردية حقة.
نلاحظ ذلك الانهمام بالمكان والشعور بمستثيراته، وطرق مقاومة النسيان، لحظة استيراد كلمات تدعم الذاكرة الزمانية، والرابطة المكانية وتري الموقف الذاتي مما يعيشه الشاعر هنا، كما في قصيدته (قامشلو، Qamişlo)، ومنها
كيف أنت
تنامين؟
كيف أنت
تحلمين؟
كيف أنت
تقضين الليل؟
كيف أنت
تبكين وتضحكين؟
كيف أنت
تصغين؟
كيف أنت
بدون ربيع؟
لا بأس عليك، وردتي المخملية
ثلاثة أرباع من كينونتك
تقرّب بعدك
ثلاثة أرباع من مطرك
تسرّع ازدهار وردك ص233
إنها مقاومة النسيان، معاودة التذكير به حرصاً على الذاكرة، النقيض، وبغية إفساح المجال واسعاً للذاكرة لاحقاً لكي تنشط أكثر، لكأن الكتابة المكانية في وحدة تجلياتها الكبرى صراع الجغرافيا على ومع التاريخ وصراع التاريخ المقدّم شعراً على ومع المكان الجاري، تهميشه، إحياء لكائن اللغة واللغة ذاتها، ونهياً لكل فكرة عدمية أو تجاوزاً للزوال بمعانِ شتى.
وهذا يقودنا إلى جانب آخر في عمق المشار إليه, وهو أن الحسيني لا يقول الشعر إلا لأنه يصغي إلى صوته من الداخل, إنه الوعي المضاعف بمأسوية الذات وفذاذة اللغة عندما يتمكن الناطق بها, والشاعر هو المعني أكثر بها, من جهة ( تصدير ) الرؤية الجمالية للكوني, لذاته الكردية كإمكانية مستجدة وقابلة لأن يكون الشعر جديراً بالإصغاء إليه كردياً, طالما أنه يبقي القصيدة مفتوحة على داخلها, وخارجها في الآن عينه وأعتقد أنه أفلح كثيراً في المنحى هذا, رغم وجود ما يمكن اعتباره نوعاً من (العناد الشعري), وفرض نوع من الاقامة الجبرية على الشعر ليكون, ويتحدث باسمه كشاعر كردي, وهذا من حقه ما دام لدى كل منهما ما يؤهله ليراود الآخر عن نفسه, هي تلك الجدلية اليتيمة في ديمومة التواصل الصامت وحتى الطقوسي بين من يريد أن يكون الشاعر, دون أن يفرض اللقب على نفسه فقواه الابداعية تكفل ذلك, والشعر الذي يتلمس فيه فضاءً رحباً يغريه بالنورانية التي تتجاوزه قولاً, وتقيم على الورق كتابةً وبوسعها لفت سمع الآخر وجدانياً من الخارج ترجمةً.
هذا ما يسهل – كما أعتقد – تناوله أو معاينته في ورود القصيدة عنده, وكيفية تبدّيها عمارة شعرية على أرضية الرؤيا النافذة, والذي يزكّيه هو ذلك الايقاع الشعري الذي يختاره, أو يجد نفسه مأخوذاً به طواعيةً ليشرعن لما يريد أن يكونه (وليس الايقاع الشعري إلا تجلياً للإيقاع الكوني) كما يقول أوكتافيوباث في (أطفال الطين) الترجمة العربية ص123, ثمة نشأة للكائن المرتقب, أو المتخيّل وطرحه للخارج عبر توريد الصور التي تشكّل هنا الجيش اللجب في جاهزيته العالية في أداء مهمات المعاني, وبحسب المخزون المعرفي للقارئ, وهي خفة الكائن الشعري بقدر ما يكون الشعور بالمعاناة قائماً لتسلّم الكلمة الشعرية له قيادها, وهو في مجمل ما يستشعر ويسطّر, يؤسطر معانيه علامة جمال الشعر الفائقة والوحيدة في العالم.
عنصري اللغة
الحسيني يراهن على لغته الكردية، ليس لأنه يفضّلها على غيرها، وإنما ليعرّف بها العالم من حوله وربما لأنه في صراع مع نفسه ولغته وكائن آخر، لا تتحدد لغته ليثبت قدرتها على دخول التاريخ بقول الشعر وغيره، باعتماد طريقة لا يمكن تفييزها بمصداقية مسبقة، وإنما على الأقل بقدرة ملحوظة على مقاومة محلّيتها، وجرأة مواجهتها لها وهي تكابد لتكون جديرة بسكنى العالم، لا الشعري وحده، إنما العالم الذي يسكنه البشر بلغاتهم المختلفة، إنه يسمي كائناته كشاعر بلغته الكردية.
هو وعي بذات غير مهادئة رغم وعورة وخطورة المرتجى والمسلك، من خلال طريقة بنائه للجملة الشعرية مزجه بين الشعر والنثر، عبر إماتة أو محو الحدود ربما تحدياً لواقع يتمثله جغرافياً، فيوحد الجغرافيا المكانية الممزقة بوحدة جغرافية مطروحة بلغة الشعر، تتطلب وعياً مضاعفاً لفهم أو معايشة حراكه الرمزي رسم دخول للعالم الشديد التعقيد من حولنا، ويكون الشعر أكثر من مركّب كيميائي، أو من متخيل شعري وإن لم يسمّه، إنه إعادة لبناء عالمه على طريقته.
العالم الذي يتخيّله ويصيغه نثراً – شعراً poeme أو best-pexş (كصيغة تركيبية مقترحة من pexşan نثر) و(شعرhelbest ), كونه ممارس حقه ككائن لغوي مختلف, وككائن شعري يعرّف بنفسه لمن حوله بلغته كغيره هنا.
ثمة تذكير ب هيدجر المأخوذ بجاذبية الألمانية والذي أراد من الفلسفة أن تتكلم الألمانية مثلما قيل عنها أنها كانت تتكلم اليونانية قديماً, وهو الذي تبصّر في شاعر هولدرلين الصوت الروحي المحلّق شعراً لألمانيا ولأنه كان يراهن على الشعر ويصعد بإيقاعه الشعري المتفلسف, لأنه تلمّس فيه القدرة العالية في إدراك حقائق المحيط من حوله (إن الإنسان يتكلم بمقدار ما يجيب عن الكلام, والإجابة هي الإصغاء ويكون إصغاءً حين يكون انتماء إلى إيعاز الصمت) كما جاء في كتابه (إنشاد المنادى), الترجمة العربية بيروت 1994 ص20 ذلكم هو الجانب الأدبي الابداعي, الإصغاء إلى أرواح الكائنات والجمادات ضمناً بوصفها شريكتها في تشكيل لوحة الطبيعة, ذلك ما حاوله رسول حمزاتوف في عقد تلك العلائق الكونية بين بلده الصغير جغرافيةً وربما تاريخاً أحياناً, وبقية العالم, حمزاتوف تمثّل داغستان, وحضر العالم إليه من جهات شتى عبر ترجمته إلى لغات حية, هذا ما يمارسه هارولد بلوم وهو يفعّل التأويل الشعري باعتماد القبالاه, والزهار اليهوديين ضمناً, ومن خلال الفولكلور المؤسس في التوراة, كما في (قلق التأثر) وكما في (خريطة للقراءة الضالة) ومنهما ذاع صيته, كما في حال رومان جاكوبسون الذي راهن كثيراً على شاعره التشيكي المبدع كاريل ماشا, كما يُعرف به, الذي مات سنة 1836 وكان عمره ستة وعشرين عاماً, يتحدث عن عصره في مقاله (ما الشعر؟) ليكون الشعر موسوماً به في بلده لأهميته، هل استطردت أم بالغت؟ لكي أقول متسائلاً ما الذي يمنعنا من التوقف عند الحسيني وهو يهبنا لغتنا ب عنصرية فارطة لكي نتعلمها، وكأنها الوحيدة في العالم، وما أن نعيها ونختبر قواها في شعره الحافل بمفردات حول قصائد كثيرة له إلى محميات لئلا تنقرض هكذا هي الكلمات التي تنقرض كالكائنات الأخرى، حين ينعدم من يستعملها وهي ضرورية من خلال ما نتعلمه في فضائها الشعري، حتى يتحول الشعر نفسه إلى محرر لنا ما نحن فيه من عنصرية مستنفرة لننسكن على إثرها بالعالم من حولنا
لو أقبل
وفي المحصّلة الختامية في غمده
بُلي الخنجر
لو أقبل
وفي المحصّلة الختامية حصان اليقين هرب من حيّز عقلك
لو أقبل
وفي المحصّلة الختامية حمامة العالم طارت من حضنك
لو أقبل
وفي المحصّلة الختامية خريطة الخروقات حامت في عينك
لو أقبل
وجرح الزمن تعمّق أكثر
إثر خطواتك
……..
…..
لو أقبل
ووطن بمائة هامة ابتلاك
في علمك
لو أقبل
وحدود أربعة سافلة طالبت بقصاصها أرضك ص328
لا شعب بدون لغة، حتى لو بدت لغته مأخوذة من الآخر لأسباب وظروف تاريخية، لو تجلّت محدودة مادامت تتضمن الروح العارمة لشعب يودعها حيويته، وشفرة وجوده، وحقيقة تميّزه عن الآخرين، وتفاعله معهم في الآن عينه.
والملاحظ عن الحسيني هو أنه ينتقل من وضع لآخر, أنه كائن غير مستقر يسعى إلى تجريد القصيدة من خصوصيتها الضيّقة, من وزر ماضيها الذي يزيد في الإحكام عليها, مثلما أنه يتصدى لسعار (الموضة) في كل شيء, في الزي كما هو في الشعر أو بالعكس, لا يعطي مجالاً لقصيدته في أن تفيض عليه, بحيث تغمره, بحيث تحجب عنه رؤية العالم, رؤيته ككردي لا يمكن التعريف به دون فصل كنوع قبل أي كان كأنه حالة مخاضات متتابعة, كأنه خارج من كينونته ليعود إليها إثر كل خروج تكويني, وهي عملية مستمرة يتقاسمها ذهاب وإياب أبديان, ليظل للشعر اسمه, الذي به يسمي كائناته.
ليس بالإمكان السكنى داخل شعره إلا بعد مجاهدة، ثمة عديدون، كثيرون يستصعبون عملية السكنى هذه يشتكون.
جغرافيتها الجبلية العصيّة على التسلّق، أو وعورة مسالكها، أو غموض إحداثياتها، أو تناضد وتداخل صورها.. الخ، حتى ممن ينتمون إلى لغته جنسياً، ثمة تهمة موجهة: التعقيد تغييباً للعجز عن القول الشعري المألوف، التركيب ترجمة غير موفقة للتبسيط المعمول به هنا وهناك، هذا ما أعلم به شخصياً، لماذا هذا التجني على الشعر؟
من أراد الشعر يذهب إليه، لكل بيئة، منطقة، لغة: أجواؤها، أفياؤها، أنواؤها، أسماؤها، وكلها تتطلب معاناة أو تمرينات قراءة واعية لإحداث حالة التفاعل، أو التقبل من الآخر، الذي لا ينطق إلا ما يؤهله لحمل اسمه لا ينطق إلا وفق قانون هواه الخاص به، مثله مثل أي كائن جغرافي، تاريخي، حيوي، وهو أكثر من ذلك لأنه يتجاوز حدود الكائن الواحد في محدوديته، ولأنه في حقيقته العصية على التحديد ليفيض باستمرار على المؤطر فيه، يستحق المتابعة الغوصية بحثاً عن قيعانه، مقاربة للذات ونسبها القومي أيضاً والكوني ثمئذٍ.
يمكن تعقب حركية اختياره للكلمات، ومدى نجاعتها في أداء مهامها الابداعية من جهة التلميح، بوصفها غير قابلة للنفاذ إلا عندما يكون القارىء ضيف الشعر وهو المقيم فيه بحكم علاقة جوانية، وإلا لتوقف الاتصال المتبادل بين الاثنين
لحظة
لون ترابي
يجري ناحيتك
انتفاضة دمك تستقر
حيث ماء صوتي
على جرحك ينسكب
لسانك ينعقد
كعبتك تتشوش
لم تستطيعي الفصل
بينك وبيني ص295
هي العلاقة القائمة والمتعددة الأنساق والمناخات والاتجاهات بين الشاعر وما يفكر فيه, وما يعيه كذات تنبض بالحياة وأخرى تنبض بالشعر, وثالثة تنبض بإرهاصاتها ومخاوفها ومدى تمكنها ممن تبتغيه والآخر داخل لغته وخارجها, حيث ينعدم الداخل والخارج حرفياً, وهكذا نكون مترجّمين خونة ماحيينا فيما بين أنفسنا وفيما بيننا, لهذا تبدو الحياة شهية للتمثيل واللغة لا تبقى على حالها, ولا نظرتنا إلى لغتنا وإلى نوساننا بين آمال وآلام وتوجسات, تتكفل اللغة بها بصور شتى, هي لحظة الكينونة التي نعيشها عبر سلسلة خيانات لا مفر منها, لنكتسب مصداقية إقامات مختلفة داخل عالمنا الذاتي والمحيطي, حتى لحظة قيامنا بأعمال أخرى كما في الرسم والنحت والموسيقى.. الخ، فكلها محاولات ترجمة لجعل الكون فينا واحداً ومتنوعاً بالتالي.
من وجهة نظري يبذل الحسيني الشاعر ما وسعه الجهد الذاتي لإبراز كينونته، ولإسماع صوته الآخرين بلغته، بنوع من المأسوية اللافتة، والمتمعن وحده هو الذي يمكنه اكتشاف الحسيني الشاعر، أو الشاعر داخل الحسيني، دون أن يخلو الأمر من مقاومة، كما لو أن جدالاً أو قتالاً بالنظر والتقدير البصائري يرسمان مشهد التناظر والتكاثر في مفاتيح المعاني جهة الشعر قراءةً عنده.
قد يبدو الأمر هنا نوعاً من الاتفاق غير المشروط, ولكنه اتفاق بين الناقد (الذي هو أنا أو غيري) وقارئ متخيل, أعتبره متجاوباً معي في عملية التزكية لشعر الحسيني, والحسيني نفسه من جهة التفاوض مع قارئ لا يحبذ لا طريقة التعريف به, ولا التزكية ولا الشاعر بالذات, باعتبار أن ما أقوله يرتكز الى حالة اللاقراءة وإنما الى تصورات, مجرد تصورات افتراضية تهيب بقارئ وهمي للتشديد على أهمية النص الشعري المقترح هنا في كرديته ضد قارئ موجود هنا وهناك, لا يستسيغ مثل هذه (المبايعة) عن بعد أو ناقد مغاير لا يساير وجهة نظري فيما أذهب إليه, ولكنه الشاعر كردياً فيما يستشعره وفيما يسطره على الورق, ويقدمه للقارئ إذ الكردي مقيم في شعره في مركبه القولي: صنيع, ربيب: الجبلي, السهلي وحيثما وجد, في ( كمه وكولوزه) رمزاً مأخوذاً بحمى فولكلوره كإمكانية فارهة تهبه الأمان للشعور بالتمايز وحيوية المكان والتاريخ فيه, وصنيع المدينة تلك التي سكنها منذ الأزل: مدينته التي تحمل اسمه, أو التي يسكنها الآن, في مغارب الأرض ومشارقها, ولكنه هذه المرة يكون صنيع وربيب تجليات الحضارة, معايش الموبايل, متابع عصر الشفافيات الكبرى والداخل فيها, الهامس والناطق والعالق, بلغات شتى بحكم الضرورة, في المهاجر والمنافي وغيرها, انها هجانة أو خلاسية من نوع خاص عاشها في مختلف مراحل التاريخ, حتى في المكان الذي يشير إليه ككردي, إلى جانب آخرين, كان غريب وهو القريب, بحكم القوة التي تقيم علائق تفاضلية بين اللغات وأبنائها, ويعيشها اليوم منتقلاً من مكان إلى آخر في مكانه وهو ينسل منه, أو يتسلل منه, أو يستل منه, بحكم العنف المبذول فيه, وفي المكان الهارب إليه هروب المحتمي المرتمي في أحضان وحشية تكيّف مع الوحشي فيه تدريجياً بحكم المقارنة بين مكانه الرحمي ومكانه (الرغمي) وكل ذلك يدخل الشعر ليس في متاهة التركيب في القول, وإنما في لعبة التاريخ المصاغ هنا شعرياً, في هناءة السرد المتقطع للغة وغموض العبارة إخلاصاً للمعاش, ونشداناً لاستقرارٍ نسبي, تكون اللغة ذاته في حالة هجرة وتشظي من الداخل, بحكم كائنيتها الحية وصراعها مع تاريخها ووجودها في وعلى حلبة تاريخ وجغرافيا مختلفين والحسيني سواء أكان واعياً للعبة اللغة, /الانسان, الانسان/ اللغة, وعبر وفي الشعر, وما يفترضه الشتات الديموغرافي والجغرافي والوجداني من معاناة وطريقة حياة على المنتقل في سفر تكوين لا ينتهي ولم ينتهِ حتى الآن, أولم يكن كذلك فإنه أي (الحسيني) يبدو كائناً شتاتياً ولكنه ضده حين يفصح عنه بسوية لافتة ولهذا – وكما أعتقد – نسقط دعوى الغموض الشعرية, دعوى التصنع في شعره خصوصاً وأن الكردي قارئاً للشعر, لازال في معظمه نزيل الشعر الآخر في معظمه, ذاك الذي تكفي متابعته في شبه إغماضة للأذن الواعية, حتى يتم ادراكه, وهنا يفرض الزمن شعره, شعره الذي يمتنع على أي كان الدخول في مربعه المنزوع النهايات كالنهايات اللامعلومة لقارئه الكردي, وهي بدورها قضية زمنية, هذا يذكّرني ب ميشيل دوغي الفرنسي في مقابلة معه (مجلة الكرمل الفلسطينية, العدد 47 سنة 1993 ) وهو يتحدث عن الشعر وخصوصياته, عن الهرمسية الجيدة والهرمسية الرديئة, من جهة الكتابة الشعرية الصعبة لكن المطلسمة, لكن النفور من الشعر بدعوى غموضه دعوى باطلة, يقول في ذلك (نلاحظ أيضاً أن كل عمل شعري كبير يبدو لدى ظهوره بالغ الصعوبة, في أولى سنوات هذا القرن, كان البعض ينسخون قصيدة إلهة القدر الفتاة: ل بول فاليري لمحاولة فهمها.
واليوم هي نص مفتوح، لا باطنية فيه، بل هو أسهل على القراءة من شعر مالارمة الذي يصدره عنه فاليري.. خذ مثالاً بيرس: هو أيضاً مؤلف حاذق، سري كان يعتبر مرصوداً لأقلية، واليوم يوفر لنا عمله صعوبة هي صعوبة مشتركة لدى جميع الأعمال الكبيرة، وليس بالضرورة باطنياً أو إخفائياً ص17) كانت تلك شكوى الفرنسي ذي التاريخ العريق في علاقته مع الشعر ذي الطوابق الهرمسية المختلفة والمتداخلة، كما في حال (مالارمة، فاليري، بيرس، دوغي نفسه.. الخ) فكيف الحال مع الكردي الذي يعتبر حديث العهد بالشعر الحديث, أو المعتبر حديثاً رغم اشكالية التسمية, حيث الحديث هو في روحه القادرة على إحياء أكبر قدر ممكن من الأجساد كلما تمت قراءته, وإذا راعينا طبيعة الظروف المختلفة التي يمر بها زاد الوضع تفرّع إشكالية ولصالحه, لأن الشعر لم يعد حالة نظم أو تماه مع سلف ما, كما كنت الحال سابقاً كثيراً ليسهل تقبّله, إنما حالة تجاوز لكل نظم بالصورة النمطية, والحسيني هو حالة كردية لها ما لها وما عليها من أدوار ودوار للمعاش وللغة وطرقها التعبيرية والأدائية بالمقابل, إن قراءته هنا وهناك شرط من شروط التكيف معه أكثر
أرتد إليكم
منكساً مثل علَمكم
مثخناً بالجراح
على رؤوس أصابع الندم
كالصوف تارةً
كالوحل تارةً
عن تعويذتي أبحث
ارتعادي
على رقابكم
أسكبه
مجنون أنا مجنون!
تأزماتكم بإيقاعات بكاء
بصدوع مزلاج الباب
بهواء متوسط الشدة
بأنفاق الميت
أندفها
بخطوات طائشة
بإرادة محدودبة
أحتمي بانكماش أمانكم
بتوسّل ص217
إنها لعبة المتخيل الشعرية ولكنها في الآن الضرورة القصوى لوعي شاعر يريد تعزيز موقعه في تاريخ ينتمي إليه راهناً، مشفوعاً بجدارة الطرح وكفاءة الكيان الذي يتمثله ككردي، حتى لحظة قراءته بلغة أخرى
الترجمة خيانة؟ ولكن!
في مجالات عدة: أدبية عموماً، وفي الشعر خصوصاً يعتبر المعنيون بالأدب، الترجمة خيانة، ليس لوجود علاقة لفظية كما في la tradiction cette trahison أو لأنه تم الربط أحياناً بين الترجمة والرجم، حيث تتضمن الترجمة لعنة، أي حالة ممانعة، وإنما لأن من الصعوبة بمكان الإقامة برزخياً بين لغتين بنفس الموقف من جهة التقدير والتدبير في التفكير بهما معاً، ولأن ذلك يتطلب جهداً ويفرض على المترجم حالة حيطة مضاعفة، لئلا يساء إلى اللغة المترجم عنها، والمترجم إليها معاً.
أذكّر هنا بما قاله الشاعر دوغي المستشهد به سابقاً, وهو ناقد بالمقابل, حيث ركّز على قضايا حساسة من هذا النوع, كما في خطورة دور الترجمة في الربط بين اللغات, وفي فصل من كتابه(العقل الشعري la raison poetique), منشورات غاليلة, باريس طبعة 2000 وهو (traduire) حيث يرى أن الترجمة تأويل, وقبل كل شيء, ربما لمضمون اللغة نفسها, وتفسير وتورية و(شرح), وكلها أطوار تتم عبر الترجمة), ثم يضيف موضحاً أكثر ( إن اشتقاق الكلمة هو نفسه ترجمة وتفاهم داخل الكلمة, فعندما نترجم نصاً أجنبياً يتحرك الزمن بين القراءة الأولى للنص الأصلي والقراءة الأخيرة للنص المترجم والمقرر للترجمة, الزمن يتحرك في شروحات ومناقشات وتعقيبات لا متناهية – للنص المطابق للترجمة ص106) تلك هي حقيقة اللغة كل أو أي لغة, ولكن لا مفر من الخيانة, فكلنا خونة في لغاتنا وتفكيرنا حتى داخل اللغة الواحدة كما ذكرت, عندما نقيم علاقة بين الدال والمدلول, بين الاسم والمسمى, مقتنعين أنها العلاقة الأسلم فكيف الحال في العلاقة التي نسعى إلى بلورتها بين لغتين بالترجمة, وفي المجال الشعري خصوصاً, لأن في الشعر من عصارة روح ممثلي لغته الكثير الكثير, وبشكل أخص حين يكون الشاعر عصياً على الحضور داخل أو في مغامرة التأويل بالذات ترجمة.
ترى كيف يمكن للعلاقات المثاقفية أن تتم بين الشعوب بلغاتها المختلفة دون ترجمة، وعبر أشعارها؟ والشاعر يحلم هنا كما أعتقد مرتين، عندما ينجز قصيدته وعندما يسمع بها، أو يقرأها في لغة أخرى، ليدرك حقيقة سلطته الشعرية رمزياً، ويعي ذاته داخل اللغة ومدى نجاعته ككائن مرهون عليه بأكثر من معنى.
ثمة تحدّ في الحالة هذه إزاء ما يكتبه الحسيني في الكثير من قصائده وخصوصاً تلك التي تذكّر بحالات وتواردات خواطر وانطباعات ومقابسات وتناغمات بين مجموعة الكلمات ذات الجرس الخاص، وله مجهود بارز هنا كما في صيغ فولكلورية وتوظيفها لمنح الشعر رونقاً وإيحاءات لافتة، وتذكيراً بشنان قوم بالمقابل من مثل
Hey ho li min xerîbê! Bê rizq û nesîbê
Xerîba Xwedê mo. Tara li devê rê mo
Hesreta mala bavê mo R3
أو من مثل
R77 Lê lê lê sebrê
أو
Wer Bilbilo R443
وكما في مثال أكثر تجسيداً، وعبر قصيدة مثقلة بالدلالات اعتماداً على بنيتها وهي (تستأهلين: Hêjayî)
Tu hêja yî
Tu gul î lê tu sertaca gula yî
Tu hêja yî
Tu dil î lê xencera hemi dila yî
Tu hêja yî
Tu kul î lê şêwirmenda kul yî
Tu hêja yî
Tu mil î lê tu tolgirtina Kawa yî
Tu hêja yî
Tu kil î lê tu wêran û rijîna cava yî
Tu hêja yî
Tu şil î tu Xwedaya ewrên zuha yî
Tu hêja yî
Tu Bilbil î lê tu helbestvana ker û lala yî
Tu hêja yî
Di singa min de, tu rojçêbûna balan û ba y. R445
ترى كيف يمكن مقاربة قصيدة كهذه، والحفاظ على بنية الوعي الشعرية عند الحسيني كردياً؟.
لا يمكن ترك القصيدة منغلقة على لغتها، مأخوذة بتردداتها الصوتية أو مناخاتها المتآخذة داخل مشهد شعري وفي علاقة بين صوت يخص الشاعر يتكلم باسمه, باسم أناه, وكائن – أنثى, يخص الموضوع الذي يشغل عليه ذهنه, عالمه, مع تعددية الدلالات والإيحاءات, ولكن الأنثى (الجغرافية) الأنثى (التكوين) الأنثى العلامة الفارقة كردياً هي المعنية.
لا نستطيع في الوضع المتقدم ادعاء أن ما يستشعره الحسيني يشكل بداية النهاية لشعر مختلف, بقدر ما يمكنني كقارىء ناقد أن أعتبر شعره تأسيساً رحالة للمختلف الشعري القادم أكثر, ووضع حد لسلسلة من (الخرابات) في الذوق الشعري الكردي, وممارسة المسؤولية من الداخل, جهة المادة التي يشتغل عليها بمتخيله وإدراكه, ولهذا فإن الوقوف عند قصيدته هذه عن طريق الترجمة مسعىً لا بد منه, رغم وعورة الإجراء, ولهذا فإن ما أقوم به, هو بذل جهد خاص بفهمي لها, وقد أوردتها كنموذج دقيق على صعيد البناء اللفظي, والتركيب الكلامي والرؤيا الفنية, وفي محاولة لفتح باب يطل عليها من خارجها بلغة أخرى, فأنا كلي قناعة على أن الحسيني في وعيه لذاته الكردية عانق الكثير مما يخصه ككردي شاعراً, ولكن الخطوة أو القفزة المديدة هي في تعزيز البعد الشعري العام للقصيدة, وهذه هي ترجمتي المقترحة لها:
أنت تستأهلين
وردة أنت إنما صفوة الورد أنت
أنت تستأهلين
قلب أنت إنما خنجر القلوب كافة
أنت تستأهلين
وجع أنت إنما مستشارة الأوجاع
أنت تستأهلين
سند أنت إنما أنت انتقام كاوا
أنت تستأهلين
كحل أنت إنما أنت آفة وفقء العيون
أنت تستأهلين
مبتلة أنت إنما أنت إلهة السديمات
أنت تستأهلين
بلبلة أنت إنما أنت شاعرة الصم والبكم
أنت تستأهلين
في صدري، أنت ولادة شمس الهواجس والآلام ص445
ثمة اعتماد جلي على المفارقات, مفارقات تعتمد على وعي حاد جلي بذلك التداخل التعسفي والطارئ والمستمر في آن, بين المأسوي والمثير للسخرية, وعي الكردي بكرديته, وقدرته على تحويل اليومي إلى ألبوم معرفي متنام, ومن داخل اللغة التي وعد نفسه بها وآل عليها على أن يخلص لها وينمّيها, كما جاء في مقدمته ص10 ربما لن الكردي هو ذاته كائن المفارقات, مفارقاته مثل العديدين من طريدي أمكنتهم, هو كالآخر المخلوق البشري الطبيعي بيولوجياً وليس مثله غالباً على الصعيد الاعتباري وهو يعيش تاريخه عبر سواه, وعلى أرضه ممثلاً في غيره ذاك الذي يستبد به هنا وهناك, لكأن اللغة ذاتها تعيش انشطاريتها المقهورة, مجتمعها المضغوط على ذاكرته بقصد الإمحاء , كفاحها للاستمرار, ولكنها تستوجب كائنها المباشر, كرديها قبل سواه, في وعيه لذاته ولما حوله, وللمحيطين به وكيف يفعّل شعره, قوله الشعري (الكرمانجي) إزاء فناءات عدة: في روحه وروح من يتمثلهم, وعالمه الخاص والعام, وحيوية اللغة وخطورة تمثيلها, إذ ربما تتم خيانتها في العجز عن التعبير عما يعاش, ويتم تخيّله ونشدانه أو عدم تمثيل القلق الكردي شعرياً, حتى وهو مترجم إلى لغة أخرى, أعتقد أنه قطع شوطاً في معاهدته اللغوية, وفي إقامته داخله, ليس بوصفه متفرداً مقارنة بمن ذكرتهم سابقاً, كما في حال (دلدار آشتي خصوصاً) رغم ضعف المقارنة, ولكنه الأكثر انشغالاً بقدرة اللغة على تكريم (صاحبها, عاشقها) كلما عايشها في مختلف أمور نحوها وصرفها.
ملحوظات
الحسيني أصدر أعماله سنة 2002 واعتبرها (الأعمال الكاملة ) وتحت اسم هو(الديوان) وهو هنا يذكرنا ب سليم بركات ومجموعاته الشعرية الأولى المجموعة في (الديوان), إلا أن اللافت أيضاً هو أن الحسيني ورغم ورود كلمة / عبارة (الديوان) يسمي مجموعاته (كتباً) هكذا الكتاب الأول, الكتاب الثاني, الكتاب الثالث… الآخر, فهل أراد بذلك التجريب في التسمية وممارسة زحزحة مفهومية, بحيث يلغي المسافة العالقة الفالقة بين كل من الشعر والنثر, كما أشرنا إلى ذلك سابقاً, هل الكتاب بات شاملاً كل ما يكتب دون اعتبار للمسائل القائمة بخصوص اشكالية التسمية؟ هل هو جزء من مغامرته داخل اللغة ذاتها, ووعيه لما يفكر فيه ويستشعره؟ وفي هذه الحالة كيف يكون الديوان معنى؟
من جهة أخرى وبخصوص الكتب التي يتضمنها الديوان, تبدو متضمناتها الشعرية في موضع المساءلة, إذ إنه ذاته يعتمد مفردة (قصيدة / شعر Helbest) وهو يعرّف بنفسه ويتحدث عن موقفه من لغته ومفهومه لما يكتب بوصفه (هلبستاً) إن جاز التعبير, تبدو المتضمنات المذكورة موزعة بين ما هو مؤرخ لها وغير مؤرخ (مثلاً الكتاب الأول مؤرخ له, أما الكتاب السادس فليس مؤرخاً له), ويبدو أن أكثر القصائد قدماً من جهة التاريخ هي(Bûka êgir : عروسة النار ص45-57), فلماذا هذا الإهمال خصوصاً وإنه يؤثر على طبيعة أي دراسة لحظة تناولها لقصائد الديوان, من جهة ترتيبها وعلاقتها بالزمكان وحتى بثقافة الشاعر وتطوره الشعري وعلاقته بشعره؟ أهو مقصود؟ ولكن التأريخ وعدم التأريخ هنا لا يشكلان عنصر تجريب في الكتابة، ولا تحدياً لفطنة الناقد، بالصورة التي يمكن تخيلها أحياناً.
وكذلك فإن الملاحظ هو أن كتب الديوان ليست على سوية واحدة (وأعتقد ذلك أمراً طبيعياً للشاعر) من جهة ورود قصائدها وتنوعها طولاً وقصراً , إنما هناك جانب آخر في الموضوع, هو أن الشاعر يبدو مأخوذاً بذلك الصراع بين الميل الى الكتابة بمناخات لا تخفي فولكلوريتها أو حضور رائحة الأجداد (لا أقول الأسلاف لاختلاف المعنى والدلالة) كما في الكتاب الأول والكتاب الثالث والكتابة برؤى حداثية أكثر كما في بعض متضمنات (الكتاب الثالث)أو (الخامس) أو (السادس), وحتى استحضار تجارب شعرية سابقة في طريقة الكتابة (انظر صفحة: 250-272 – 273 مثلاً), بل ربما أخشى أن يكون هناك ميل إلى الانحدار جهة القصيدة ذات الطابع الحداثي أكثر, بفعل العلاقة مع ثقافة محيطية مختلفة ورؤية قد (أقول قد) تضيق بصاحبها أو هو يضيق بها, وربما الأمر سيّان هنا كما يظهر ذلك للمتتبع لتوزع القصائد في الديوان, رغم أن القصيدة الأخيرة في الديوان, وفي الصفحة الأخيرة (xwe amade bike : هيئ نفسك) كما في بدايتها تشي بالتوظيف الفولكلوري في الممارسة الابداعية الشعرية ( ص488-491 ) وهذا يمنح القارئ المعني تفاؤلاً .
تبقى كلمة أخيرة تتعلّق ب(الأعمال الكاملة) إذ أن العبارة هذه تثير أكثر من سؤال، من مثل: أي دقة فيها وهل هو مأخوذ في حرفيتها؟ وإلى أي مدى يمكن تقبّلها؟ فهي عبارة باتت شائعة، خصوصاً للمتقدمين في العمر، أو بعد رحيلهم، ومن ثم بات ذلك تقليداً إذ تصدر أعمال كثيرة بالصفة المذكورة، وأصحابها مازالوا في أوج عطائهم، لكن ثمة جانباً آخر.
لقد تعرضت لهذا الموضوع في مقال لي منشور في صحيفة (الحياة) اللندنية 26 كانون الثاني 2003 تحت اسم (خرافة الأعمال الكاملة) أثرت كل ما يمكن التفكير فيه من جهة الحالات التي يعيشها الكاتب، ما هو سري وما هو علني فيه، حتى تلك المعتبرة (خربشات) وجملاً ناقصة، وكلمات مشطوبة.. الخ. وبالنسبة للحسيني، هل حقاً ما نشره ضمناً يشكل وحده المكتوب من قبله؟ كأنه لم يكتب قبل 1984 وهو من مواليد عامودا 1955, ألا توجد كتابات أخرى لم يضمّنها ديوانه، لها علاقة بجوانب وحالات حياتية مختلفة من حياته؟ هي أسئلة لها علاقة بذات الكاتب، بوعيه لما يعيش ويكتب بالمحظور والممكن التفكير فيه وكتابته أو المسموح التعرض له، بالحرية المتاحة في التعبير، والكردي نموذج جلي هنا.
الآتي من الأيام هو الذي يكشف عن ذلك، خصوصاً، وهذا هو المهم، وأن الحسيني وعد نفسه قبل قارئه وربما الاثنين، أنه مأخوذ بالتجديد والجديد، وعدم التوقف ع المقدمة ص9).[1]