=KTML_Bold=غياث نعيسة: القضية الكردية ملامح وآفاق=KTML_End=
من المعهود القول، إن الحاضر يحدده الماضي وهو نفسه يرسم ملامح المستقبل، لذا فإننا في محاولة فهم سياق كفاح الشعب الكردي وأيضاً المخاطر والصراعات التي تجتاحه وتجتاح المنطقة، وبالأخص مخاطر نزاعٍ كردي – كردي في إقليم باشور كردستان، نحتاج لرسم بعض المحطات لنضاله وعدد من محددات وضعه وآفاقه، بإيجاز شديد.
يعد الشعب الكردي الذي يقدر بنحو أربعين مليون نسمة من أكبر شعوب المنطقة (والعالم) التي ليس لها دولة، ويتوزع تواجده على عدة دول أهمها تركيا وإيران والعراق وسوريا، فقد قامت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى بإعادة رسم خريطة بلدان المنطقة، وتقاسم النفوذ فيما بينها، كما استكملت ذلك بعد الحرب العالمية الثانية.
فبرزت دول جديدة بحدود حددتها ورسمتها اعتباطاً قوى الهيمنة العالمية بدون أن يكون لمطالب ومصالح شعوب المنطقة دور يذكر.
وبكل الأحوال، فإن الشعب الكردي لم يحظَ بدولة له رغم وعود واتفاق الدول الكبرى في ذلك الوقت على ذلك.
فشهد تاريخ الشعب الكردي ثورات وانتفاضات عديدة من أجل إقرار حقوقه القومية أهمها جمهورية مهاباد في إيران عام 1946، والتي دامت أقل من عام، وهو العام الذي شهد فيه تأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة الملا مصطفى البرزاني، ليصبح هذا الحزب هو القيادة السياسية والجماهيرية للحركة القومية الكردية في كل أجزاء كردستان ولعقود من الزمن، وبالتحديد لغاية منتصف السبعينات من القرن الماضي.
حيث حصل انشقاق فيه في حزيران/ يونيو عام 1975 بقيادة جلال الطالباني، عقب تراجع الثورة الكردية وانكسارها في آذار/مارس من نفس العام.
وهكذا توالت انشقاقات عدة وتشكلت أحزاب عديدة من رحم هذين الحزبين وسمت الحركة السياسية في كل أجزاء كردستان.
بيد أنه كان للوضع السياسي والاقتصادي – الاجتماعي والثقافي في تركيا خصوصيته، حيث أن النقاشات السياسية والايديولوجية المكثفة ونهوض واسع للنضالات الجماهيرية ولليسار في تركيا حددت شروط بزوغ حزب العمال الكردستاني الذي أعلن عن تأسيسه في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 1978، بهوية يسارية جذرية واضحة ومتميزة عن الحزبين القوميين السابقين، ولم يكن ذلك الحزب بقيادة عبد الله أوجلان نابعاً منهما، أو انشقاقاً عنهما، كما كانت عليه غالبية الأحزاب الكردية.
وهكذا ولوهلة من الزمن أصبح للحركة القومية الكردية ثلاث قيادات سياسية وأيديولوجية متمايزة: الحزب الديمقراطي الكردستاني -البارازاني (الذي بقي الأهم لغاية منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ليقتصر بعدها هيمنته على إقليم باشور كردستان بشكل أساسي)، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني- الطالباني (الذي اقتصر نفوذه السياسي على جزء من إقليم كردستان العراق أساساً)، وحزب العمال الكردستاني (مع الأحزاب الشقيقة له التي تشاركه الأيديولوجيا) أصبح الحزب الأقوى سياسياً وتنظيمياً في صفوف الشعب الكردي في معظم مناطق تواجده، ليصبح الحزب الأقوى في كل أجزاء كردستان، باستثناء كردستان العراق، الذي يشكل فيها القوة السياسية الثالثة الأهم وزناً وتأثيراً.
لكن واقع الحال اليوم يشير إلى أن القيادة السياسية الجماهيرية للشعب الكردي في عموم مناطق كردستان تعود لحزب العمال الكردستاني (بمنظومته الأيديولوجية، بشكل أدق)، مع خصوصية وضع إقليم كردستان العراق الذي أشرنا إليه أعلاه.
التوازن الهش بين القوى السياسية الكردية والتدخلات الخارجية تحدد ملامح الوضع في الإقليم
جرى في عام 1980 انقلاب عسكري في تركيا، وقامت دكتاتورية عسكرية دموية عملت على القضاء على كل القوى المعارضة ولا سيما اليسارية ومن بينها حزب العمال الكردستاني، فتبنت العديد من القوى اليسارية التركية الكفاح المسلح في مواجهة الدكتاتورية العسكرية الدموية (قدر عدد المعتقلين السياسيين حينئذ بنحو 650ألف معتقل/ة وفر خارج تركيا حوالي 30 ألف مناضل/ة وسقط تحت التعذيب أو الإعدام المئات)، بينما تبنى حزب العمال الكردستاني هذا الشكل النضالي عام 1984، لتفتح دورة دموية من المقاومة المسلحة وعنف الدولة التركية.
منذ التسعينات من القرن الماضي، تحول حزب العمال الكردستاني، وأحزابه الشقيقة، إلى الحزب الأكبر والأقوى في الحركة القومية الكردية في كل من تركيا وإيران وسوريا.
أما في كردستان العراق، فقد ارتسمت ملامح وضع أكثر تعقيداً، من جهة، كان هناك عنف الدولة البعثية ضد الحركة القومية الكردية بشقيها الطالباني- البارزاني، وأحياناً تتحالف السلطة البعثية مع هذا ضد ذاك، إضافة إلى اشتباك متواتر بين هذين القسمين (الطالباني – البارزاني) على النفوذ والهيمنة في إقليم كردستان العراق، كما تدخلت كل من تركيا وإيران في هذا الصراع بشكليه المباشر أو غير المباشر، ضد كلا القسمين أحياناً، وغالباً مع هذا الطرف الكردي ضد الآخر، من جهة أخرى.
وفي صراع النفوذ المذكور الذي كان عنيفاً في أحيان كثيرة، توصل الطرفان الكرديان إلى نوع من التفاهم على تقاسم النفوذ في إقليم كردستان العراق بعد نحو ثلاث سنوات من الحرب الأهلية الكردية دامت من عام 1994 إلى عام 1997، خلّفت آلاف القتلى والجرحى.
وبهذا الاتفاق يسيطر الاتحاد الوطني الكردستاني- الطالباني على جنوب -شرق إقليم كردستان، وله حدود وعلاقات اقتصادية وسياسية مع إيران، ويسيطر الحزب الديمقراطي الكردستاني- البارزاني على شمال-غرب إقليم كردستان، وله حدود وعلاقات سياسية واقتصادية وثيقة مع تركيا.
أدى اتفاق السلام بين حزب العمال الكردستاني وحكومة العدالة والتنمية في تركيا عام 2013، إلى الاتفاق بين الطرفين على خروج مقاتلي حزب العمال إلى جبال قنديل في إقليم كردستان العراق، بموافقة الطرفين الكرديين في الإقليم.
وبذلك أصبح شرعياً ومتوافقاً عليه وجود مقاتلي حزب العمال الكردستاني في الاقليم، وعزز من ذلك تواجده سياسياً، إذ أنه تحول إلى القوة السياسية الثالثة الأقوى في إقليم كردستان العراق.
هذا التوازن الهش بين القوى السياسية الكردية الثلاثة الأهم في إقليم كردستان العراق (الطالباني- البارازاني- العمال الكردستاني) مع تدخلات القوى الإقليمية ولا سيما تركيا وايران (وأيضا الولايات المتحدة التي احتلت العراق عام2003 ) هي ما يحدد ملامح الوضع هناك وصراعاته وأزماته وآفاقه.
وإن كان من حاجة لتوصيف الطبيعة الأساسية لكل من هذه القوى السياسية الكردية الثلاثة، يمكن القول، بشيء من الاختزال، بأن الطابع العائلي- العشائري يطغى على الحزب الديمقراطي الكردستاني- البارزاني، وأن الطابع العائلي -السياسي يطغى على حزب الاتحاد الوطني الكردستاني- الطالباني، وأن الطابع السياسي- الأيديولوجي هو السمة الحصرية لحزب العمال الكردستاني.
الهدف من التحشيدات الأخيرة للحزب الديمقراطي الكردستاني
أقام نظام أردوغان ما يزيد عن 27 قاعدة عسكرية في إقليم كردستان العراق، بينما أقر بن علي يلدرم، رئيس الوزراء التركي السابق في مؤتمر صحفي ببغداد في يونيو/حزيران 2018، بوجود 11 قاعدة عسكرية، وقال: “قمنا بإنشاء 11 قاعدة عسكرية وضاعفنا عدد جنودنا وقواتنا في تلك القواعد لمطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني”، معظم هذه القواعد العسكرية التركية أقيمت لتحقيق ثلاثة أهداف، أولها ضرب مقاتلي وقيادات حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، وثانيها، تعزيز وإدامة النفوذ والتواجد التركي المباشر في الإقليم عبر حضوره العسكري المباشر، وثالثها، ثانوياً، دعم حليفه، أي الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارازاني)، في وجه خصومه السياسيين الآخرين.
لم يدم اتفاق السلام بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية طويلاً، إذ أنه ترنح بعد نحو عام من توقيعه، وانتهى ليعود حرباً شاملة يشنها النظام التركي ضد المناطق الكردية منذ صيف عام 2015، بهدف “سحق الكرد” كما عبّر عن ذلك مسؤولون أتراك.
ومنذ ذلك الحين لم تتوقف العمليات العسكرية التركية ضد مواقع ومقاتلي وكوادر حزب العمال الكردستاني، وأغلبها تشن من داخل القواعد العسكرية التركية المتواجدة في إقليم كردستان تحت رعاية وبصر قيادة أربيل (الديمقراطي الكردستاني)، التي إما أنها تدعم ذلك، أو أنها تذعن للضغوط التركية.
بيد أن التحشيدات العسكرية الأخيرة لقوات البيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني (أربيل) أتت لمحاصرة مناطق جبال قنديل ولتوسيع مساحة سيطرتها بذلك على حساب مناطق تعدّ تحت سيطرة الاتحاد الوطني الكردستاني (السليمانية)، هذا ما ينذر باندلاع حرب أهلية كردية- كردية، مرة أخرى، لكنها ستكون هذه المرة باهظة الأثمان للشعب الكردي عموماً ومدمرة لقضيته ومستقبله، ولن تخدم أحداً سوى أعداء الشعب الكردي من الأنظمة المتحكمة بمصيره، أو بعض الشرائح الفاسدة منه، وستبدد إن اندلعت، مكتسبات عدة للشعب الكردي، ظفر بها بعد عقود طويلة من الكفاح والتضحيات الهائلة.
ولذلك، يجب إدانة هكذا حرب ومنعها، لأنها حرب مناهضة لمصالح الشعب الكردي ومناهضة لقضيته في التحرر الشامل، وتصب في مصلحة النظام في تركيا أولاً، وأيضاً في إيران ودمشق وبغداد، هذه الأنظمة التي تعادي الحقوق القومية للشعب الكردي، ومنها حقه المشروع في تقرير مصيره بكل حرية، وهي، أي هذه الحرب، لن تؤدي سوى إلى إعادة ومفاقمة هيمنة هذه الأنظمة على الشعب الكردي، أكثر من السابق، وسيكون من نتائجها الأخرى إنها ستضعف إلى حد كبير حركات تحرر الشعوب في عموم المنطقة، وتوجه لها ضربة موجعة. لذلك فإنها حرب رجعية بامتياز.
وحدة كفاح شعوب المنطقة ضروري كشرط للانتصار
أعطت السنوات العشر الماضية من الانتفاضات والثورات عدداً من الدروس الهامة، مؤكدة، في الوقت عينه، على عدد من الحقائق التي تتجاوز الإطار النظري الرغبوي الصرف، لكونها تعبر عن وقائع موضوعية يصعب الانفكاك منها.
والحال، فإن بلدان شرق المتوسط تشكلت، كما سبق أن ذكرنا أعلاه، ورسمت حدودها بتوافق بين الدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، ولم تكن تلك الحدود مجرد استجابة لمعطيات تاريخية أو قومية، بل كانت بالأحرى تستجيب لموازين القوى بينها وإلى تنازلات متبادلة وصفقات فيما بينها، حتى استقرت حدود هذه الدول بالشكل الذي نعرفه.
بهذا تشكلت هذه الدول “الوطنية المستقلة” وهي تحمل في طياتها مظالم قومية وأثنية وتاريخية وارتباك في الهوية تنتظر ساعة انفجارها، بخلاف حالة الدولة في مصر، مثلاً، وهي دولة نهرية مركزية منذ غابر الزمن.
في المقابل، ولن نحتاج إلى جهد كبير لإقناع أي كان به، إن أي حدث في أي بلد من بلدان شرق المتوسط يجد ارتداداته في عموم البلدان (الإقليم)، بل وعلى صعيد أوسع وعالمي، والعكس صحيح.
لتوضيح ذلك، لنأخذ سوريا مثالاً، فإنه عندما اندلعت الثورة الشعبية في سوريا في آذار/مارس 2011، إنما أتت، في جانب منها، في سياق ثورات تعم المنطقة، وأيضاً عندما جاءت هزيمتها، فإنها جاءت في سياق انتصارات الثورة المضادة في أكثر من بلد من بلدان المنطقة.
من جهة أخرى، ما إن قامت الثورة في سوريا حتى وجدنا الدول الإقليمية كلها –تقريباً- تتدخل في الوضع السوري، إيران مع النظام، وتركيا مع فصائل إسلامية جهادية ومعارضة تابعة لها. والطرفان يتدخلان عسكرياً في بلادنا، كل من أجل مصالحه ونفوذه، فقط وليس من أجل مصالح الشعب السوري، إذن، لم تتوان الدول الإقليمية لحظة واحدة في التدخل في الوضع السوري، طالما أن مصالحها واستقرارها يتطلبان ذلك.
في جانب آخر، نجد أن الثورة الشعبية السورية، رغم ما حل بها من هزيمة لاحقاً، أدت من خلال إضعافها للنظام الحاكم، إلى إفساح حيز لحركة التحرر الكردي المنظمة والواعية أن تتخلص -إلى حد كبير- من الاضطهاد والقهر والتمييز العنصري الذي عانت منه من النظام الحاكم في دمشق لزمن طويل، وتبنى اللبنات الأولى لمشروع متميز هو الإدارة الذاتية.
يمكننا أن نأخذ إقليم كردستان العراق، أو إيران، أو تركيا، أو لبنان، أو فلسطين أو… لنجد بأن نضال الشعوب التحرري في هذه المنطقة مترابط عضوياً، وتأثيراته متبادلة سلباً أم ايجاباً، مثلما تؤكد الوقائع والأحداث بأن تحرر أي شعب في أي بلد منها لن يجد في مواجهته نظامه الحاكم وحده، بل عدداً من الأنظمة المحيطة ببلده، وبالأخص الدول الإقليمية.
هناك إذن، خندقان متلاحمان ومتواجهان، خندق شعوب المنطقة، في مقابل خندق الأنظمة الحاكمة والطبقات المالكة.
وحدة نضال الشعوب التحرري في منطقتنا، بل وأبعد منها، ليست ترفاً، إنها ضرورة تحتمها علينا الوقائع الموضوعية والتاريخية، وضرورة حشد متطلبات الانتصار، وتجاهلها أو التفريط بها يجعل من الهزيمة احتمالاً أكبر.
هذا يفسر والأمثلة متوفرة بكثرة، كيف أن النظام التركي بقدر ما هو نحى نحو التدخل العسكري في سوريا لصالح قوى رجعية وظلامية، بقدر ما أن ذلك تطلب منه نزوعاً استبدادياً داخل تركيا نفسها، لقمع الجماهير والأحزاب المعارضة في تركيا، لأن احتجاجات شعبية ومعارضة داخل تركيا نفسها ستعيق، إن لم تكن ستمنع، سياساته العدوانية والتوسعية في بلادنا، ويمكن قياس ذلك على بقية الدول الإقليمية… ما يجعل من فكرة أن انتفاضة شعبية في عموم المنطقة هي القادرة على تحرير شعوبنا حقاً.
هناك، إذن، ترابط وتشارك واضحين، أكدته الأحداث المكررة، في المصالح والمصير لشعوب المنطقة في نضالها المديد من أجل حريتها وكرامتها والعدل الاجتماعي.
في هذا الاطار، إذا نظرنا إلى القضية الكردية، فإن الموقف الأممي يعني الإقرار ودعم حق الشعب الكردي، في تقرير مصيره بكل حرية، ومنها حقه في إقامة دولته المستقلة: كردستان ديمقراطية موحدة.
ذلك لا يتناقض على صعيد عملي يستند على تشابك الأوضاع في عموم المنطقة وضرورة وحدة كفاح شعوب المنطقة كشرط للانتصار، كما ذكرنا سابقاً، لطرح مشروع اتحاد (فيدرالي) ديمقراطي اجتماعي ( بالنسبة لي اشتراكي) يضم شعوب وبلدان المنطقة المتحررة من أنظمة الاستبداد والاستغلال والشوفينية، مع حق كل شعب، باختياره الحر، الاندماج فيه أم لا، يحقق كل منهم حكمه الذاتي في هذا الإطار الفيدرالي الديموقراطي والاجتماعي، لتصبح بذلك المظلوميات السابقة جزءاً من الماضي، ويفتح أفقاً لمستقبل أكثر إنسانية وعدلاً وازدهاراً لكل شعوب المنطقة، والعالم.[1]