=KTML_Bold=لماذا يشهد الأدب الكردي اليوم حالا من التهميش العربي؟=KTML_End=
علي محمود خضير
على رغم تاريخ شعري يمتد مئات السنين، وإرث قومي وحضاري متميزين، ما زال الشعر الكردي اليوم حبيس مداولات محدودة لدى قراء الشعر العربي. وهي حالة تدل على تقصير لدى القارئ العربي أولاً، ولدى المؤسسات الثقافية العربية والكردية، حكومية أو أهلية ثانياً. يبدو غريباً حرص القارئ العربي على متابعة جديد الأعمال المترجمة في الشعر الأميركي والأوروبي، ونشدان إصدارات الشعر الأفريقي والشرق آسيوي، من دون الالتفات إلى شعر وطني له سماته وشعراؤه وفرادته. شعر يكتبه مواطنون يعيشون في ظهرانيهم ويتقاسمون معهم الظرف التاريخي والإنساني الواحد. ومن المخجل حقاً أننا لا نكاد نجد مترجماً عربياً واحداً يترجم الشعر الكردي إلى العربية، بينما نجد المئات من الكرد يترجمون، يومياً، الشعر العربي إلى قرائهم.
لعبت الأحداث السياسية دوراً في تلك العزلة المضروبة حول الشعر الكردي، فالحكومات العراقية لم تكن على وفاق مع أبناء الجبل، وقد وقع السلاح بينهم غير مرة، وضرب على اللغة الكردية أكثر من حصار، ومنعت صحفهم ومجلاتهم من التداول، مما سبب قطيعة فادحة، لكن الحال تغيرت بعد 2003، رفعت العزلة وتوقفت القطيعة السياسية وصار الأدباء العرب يحضرون بكثافة المهرجانات والملتقيات الكردية الشعرية والفنية، لكن واقع التداول وحركة الترجمة والتبادل الثقافي ظلا دون الطموح.
يرى الشاعر طيب جبار أن واقع التواصل بين المثقفين العرب والشعر الكردي ضعيف جداً، ويقول أسباب ضعف التواصل كثيرة، وتعود للطرفين، بخاصة الطرف العربي. ثمة عدم اهتمام من قبل المثقفين العرب بالشعر والثقافة الكردية، مع العلم أن الكرد من الشعوب القديمة. شعب له تاريخ وتراث وثقافة وشعر خاص به مثل بقية شعوب المنطقة وشعوب العالم.
ويرى جبار أن الجغرافيا والتاريخ هما السبب، وبخاصة خلال القرن ال20: وطننا مقسم بين أربع دول هي العراق وسوريا وتركيا وإيران، وليس لنا وطن مستقل خاص بالشعب الكردي. ويضيف: لا يوجد أديب عربي يستطيع أن يترجم قصيدة كردية إلى اللغة العربية، وهذا نقص كبير لدى العرب، وفي الأخص سوريا والعراق فهم من جيران الكرد. عند ذاك يبقى على الكرد أنفسهم أن يترجموا أدبهم وشعرهم إلى اللغة العربية. لدينا مترجمون كثر يستطيعون ذلك ولكن دور النشر العربية لا تتبنى طبع كتب الثقافة والشعر الكردي، هذا يعني أن الشاعر والأديب الكردي عليه أن يقوم بمهام الترجمة والطبع والتوزيع وعلى حسابه الخاص، وثمة بعض المحاولات في هذا القبيل من قبل الكرد في العراق وسوريا، لكن النقل والطبع والتوزيع في شأن كتب الثقافة والشعر الكرديين في الدول العربية الأخرى، في حدود اللا شيء.
ويؤكد جبار إن عدم تجاوب المثقفين العرب مع الشعر الكردي وعدم انفتاح دور النشر العربية على طبع كتب الثقافة الكردية وتوزيعها، يؤدي بالمترجمين الكرد إلى تقليل جهودهم الترجمية إلى العربية. وما ذكرناه عن العرب ينطبق على جيراننا الترك والفرس، فلا وجود لحركة ترجمية تذكر في إيران وتركيا تتجه إلى شعر الأكراد. وهذا معناه أن جميع أتعاب الترجمة والطبع والنشر تقع على عاتق المثقف الكردي وهو عمل صعب. على رغم ذلك، ثمة محاولات طبع لدواوين قليلة جداً في بغداد ودمشق وبيروت.
القصيدة الكردية وسؤال الحداثة
قطعت القصيدة الكردية أشواطاً كبيرة في مسار التحديث، فمنذ عبدالله كوران وحتى جيل الحداثة الثالثة في تسعينيات القرن الماضي، مرت التجربة الشعرية بأسماء وتجارب راسخة حاولت استثمار الخصوصية التاريخية والطبيعية لهذا الشعب العريق. وقدمت محاولات جادة لمواكبة القصيدة العالمية من دون التخلي عن اللمسة المحلية الفارقة في طبيعة اللغة والموضوعات، بلمسة حداثية طموحة. عن أفق التحديث في القصيدة الكردية اليوم بعد التجربة التراكمية الممتدة على مسار عقود، يقول الشاعر دلاور قرداغي: إن القصیدة الكردیة جزء من الإرث الثقافي القومي والإبداعي الإنساني. فهي منفتحة بشكل عام علی الثقافة الكونیة وتكتب أسلوباً ورؤیة، كما یكتبها أي شاعر متشبع بقیم الحداثة والتجديد. لكنني أفرق بین الكتابة تظاهراً بالحداثة والكتابة وراءها، تجاوزاً في الرؤیا والجوهر. إن ما یحدث في الحداثة من تغییر الشكل واللغة هو نتیجة تغیر الفكر والعقل والرؤی. إن إحدى الإشكاليات في مشهدنا الثقافي الكردي كما في بعض من الثقافات الأخری في المنطقة، تكمن في هیمنة الذائقة السائدة والذوق الرسمي (البطریركي) وما وراءهما من مؤسسات ثقافية متعسفة تهمش الحدیث وتبارك القدیم وتبذل الأموال الطائلة علی احتفالات ومسابقات تسمی (أدبیة)، ومهرجانات صاخبة تسمی (شعریة)، موزعة بشكل عشوائي ومجاني الجوائز والهدايا علی المشاركین، لكنه يستدرك: مع كل هذا وذاك، توجد محاولات فردیة ونخبوية خارجة عن السرب ومختلفة عن كل ما یكتب في إطار المشهد السائد الذي يدعي الازدهار والحداثة الأدبية.
ويشدد قرداغي على أن الحداثة متلكئة لعدم وجود الأرضية الخصبة والجو الملائم لتشكیل جماعات وأندية أدبية فعالة تشبه (جماعة كركوك) في ستینيات القرن الماضي، أو مجلات أدبية وفكریة فارقة، مثل مجلة (شعر 69) العراقية وبیانها الشهير الذي حمل توقيع: سامي مهدي، فاضل العزاوي، فوزي كریم وخالد مصطفی، ومجلة (مواقف) البيروتية وبیانات أدونيس الخمسة. تلك الجماعات والمجلات كانت تتخطی الوضع السائد وتتخطى من عالم الشعر أكواماً من الدواوین الشعریة الضعيفة. لقد بقیت الحداثة عندنا مشروعاً فردياً، شبه خفي، أو انعزالياً، ولیست علاقة دینامیكیة مع تطورات المجتمع ومواكبة لتحولاته الاجتماعية والاقتصادية.
واختتم قرداغي حديثه بالقول: إحدى الإشكاليات الأخری التي تواجهنا هي عدم قراءة بل وترجمة محاولات الحداثة الشعریة عندنا من الخارج، وبقاؤها داخل حدودها المحلية الضیقة من جهة، والفقر الثقافي للنقاد من جهة أخری.
شجون الترجمة وشؤونها
يبذل الشاعر الكردي ومعه المترجم الكردي جهداً استثنائياً للتعريف بنفسه وفنه. يأتي هذا الجهد في وقت تنسحب الأضواء عن الشعر حول العالم، ويغرق في ظلام التراجع القرائي وأعراض الناشرين. فإذا كان الشاعر، عموماً، في وقتنا، متهماً يبحث عن طوق براءة أمام قارئ متذمر، فإن مهمة الشاعر الكردي مضاعفة. كأنه مطالب بالدفاع عن وجوده وعن خصوصية فنه المحاصر بغربة اللغات وعزوف صناع النشر في البلاد العربية.
ولو أردنا صورة أقرب إلى الشمول عن واقع الشعر الكردي فلا بد من إطلالة على حال الترجمة، في وقت تبدو أرقام الإصدارات الشعرية المترجمة خجولة ودون الطموح. يقول المترجم عبدالله طاهر برزنجي: تاريخ الترجمة من اللغة الكردية إلى اللغات الأخرى ليس طويلاً، بإمكاننا أن نعتبر مطالع القرن ال20 بداية للترجمة الأدبية وخصوصاً الشعر والقصة. مع ظهور الصحافة وتنوعها ووصول المطابع، بدأت حركة ترجمة بدائية تظهر في الثقافة الكردية. ففي العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي أسست جرائد ومجلات أولت الثقافة الأدبية اهتماماً خاصاً، وشجعت هذه المنافذ الأدباء على الاعتناء بترجمة الآداب الأجنبية إلى اللغة الكردية وبخاصة من اللغات التركية والعربية والفارسية والفرنسية والإنجليزية، من دون ظهور مترجمين متخصصين بغية ترجمة الآداب الكردية إلى اللغات الأخرى، باستثناء جهود فردية قليلة، لبعض الأدباء، كانوا على اطلاع وعلاقة مع الصحف العربية والتركية، فأتيحت لهم فرص جيدة لنشر نتاجاتهم، ومن ضمنها ترجمة بعض النصوص الأدبية الكردية إلى اللغات التركية والعربية والفارسية.
ويضيف برزنجي إن لترجمة نصوص شعرية كردية إلى اللغة التركية حصة الأسد بين اللغات، ويعزى ذلك إلى إتقان بعض الأدباء الكرد اللغة التركية في العهد العثماني، ومتابعتهم الجادة لحركة النشر في الصحف التركية، وتولي بعضهم مناصب إدارية مهمة في الدولة العثمانية، من بينهم على سبيل المثال لا الحصر، الشاعر المجدد بيرميرد الذي كان محافظاً في تركيا وترجم عشرات النصوص الشعرية والأدبية إلى اللغة التركية نشرت في صحف تركية مهمة.
في الخمسينيات تكاثرت الفرص، فبدأ بعض الأدباء الكرد ينشرون ترجمات شعرية كردية إلى العربية التي أتقنوها إتقاناً تاماً، فقدمت نصوص جميلة ومجاميع مترجمة مطبوعة باللغة العربية.
ويعتقد برزنجي أن البداية المثلى لنشاط الشعر الكردي وانتشاره تتحدد بسبعينيات القرن الماضي، بعد إعلان بيان 11 مارس (آذار) التاريخي، والاعتراف بحقوق الشعب الكردي في العراق، واعتبار اللغة الكردية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية. كان هذا عاملاً مساعداً في تعدد قنوات النشر وغزارة الإنتاج وتنشيط الحراك الترجمي من اللغة الكردية وإليها. من هنا بدأت الصحف العربية تعنى بنشر نصوص كردية مترجمة وبرز مترجمون بارعون. ويبدو أن لهجرة عديد من الأدباء والمثقفين الكرد دوراً في توسيع الدائرة وبروز مترجمين شرعوا في نقل الآداب الكردية إلى اللغات الأوروبية.
ويحدد برزنجي الانطلاقة الأهم في ترجمة الشعر الكردي بظروف العراق الجديدة بعد 2003، ففيها ظهرت مجلات كثيرة باللغة العربية أصدرتها مؤسسات كردية، انصب اهتمامها على ترجمة الأدب الكردي إلى العربية. وعلاوة على ذلك ترجمت مجاميع وظهرت أنطولوجيات شعرية كبيرة. ويقول نعم لدينا حركة نشر تواكب الإبداع، ولكن أحياناً يختلط الغث بالسمين، أضف إلى ذلك تقاعس وزارة ثقافة الإقليم في هذا المجال، أحياناً تختار النصوص وفقاً لمستوى المترجم الهابط.
ويختتم برزنجي مشكلات الترجمة والنشر الكردي بمشكلة التسويق: أغلب المجاميع الشعرية الكردية المترجمة إلى العربية تطبع وتوزع في كردستان، لهذا يصعب اطلاع القارئ العربي عليها في بغداد ومحافظات الجنوب.[1]