=KTML_Bold=التجربة الكردية تشجّع واشنطن على اعتمادها في مناطق أخرى=KTML_End=
تعد تجربة إنشاء «منطقة آمنة» في المنطقة الكردية شمالي العراق في مطلع تسعينات القرن الماضي وما رافقها من تأسيس إقليم فيديرالي شبه مستقل، أحد أهم الخيارات التي تدفع الإدارة الأميركية الجديدة لاستنساخها في مناطق مماثلة يجتاحها النزاع والتوتر في الشرق الأوسط.
وتعود فكرة إنشاء الكيان الكردي في العراق على أثر تداعيات حرب الخليج الثانية عندما أقدمت قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في آذار (مارس) عام 1991 على تحرير الكويت بعد طرد القوات العراقية بقيادة رئيس النظام السابق صدام حسين، ليدفع بالأكراد في الشمال والشيعة من الجنوب إلى إشعال انتفاضة كادت تسقط النظام لولا تراجع الإدارة الأميركية عن دعمها والسماح للطائرات العراقية بالتحليق عقب اتفاق أبرم بين الطرفين، ليشن النظام حملة عسكرية لقمع الانتفاضة، ما أدى إلى نزوح نحو مليوني كردي نحو الجبال على الحدود مع الجارتين إيران وتركيا.
وفرضت واشنطن بدعم بريطاني وفرنسي استناداً إلى قرار صدر عن مجلس الأمن (الرقم 688) يتعلق بإدانة حملة القمع و «احترام حقوق الإنسان»، حظراً جوياً تمهيداً لإنشاء «منطقة آمنة» امتدت بين خط العرض 36 شمالاً وخط العرض 32 جنوباً، مستعينة بقاعدة أنجرليك الجوية التركية لمراقبة الحظر فضلاً عن قواعد في دول الخليج، رغم أن القرار لم ينص صراحة على فرض حظر جوي، إذ خضع لتعديل تحت ضغط الشروط الصينية والروسية ليتضمن صراحة «عدم المساس بالشؤون الداخلية للعراق»، وأعلنت لاحقاً فرنسا انسحابها من التحالف عام 1996 لأن «الخطوة تجاوزت الأهداف الإنسانية».
وأطلقت وكالات الإغاثة الدولية حملة مساعدات واسعة لمساعدة اللاجئين، فيما دخل الحزبان الكرديان الرئيسان «الاتحاد الوطني» بزعامة جلال طالباني والحزب «الديموقراطي» بزعامة مسعود بارزاني في مفاوضات مع النظام حول الحكم الذاتي، لكنها سرعان ما فشلت، ليفرض الأكراد سيطرتهم على المدن الكردية كأمر واقع.
ويعزو شيرزاد حمه الضابط في قوات البيشمركة الذي واكب تلك الحوادث إنشاء المنطقة الآمنة إلى «عوامل رئيسة رجحت الكفة لمصلحة الشعب الكردي، أولها أن نظام بغداد فقد مقومات استمرار بقائه في المحافظات الكردية إثر انهيار مؤسساته الحزبية والأمنية والمخابراتية، وانضمام الوحدات الكردية الموالية له إلى قوات البيشمركة، فيما كانت الأحزاب الكردية المعارضة تعيش أفضل مراحلها من التنسيق والانسجام في إطار الجبهة الكردستانية، وباتت تملك آلاف المقاتلين، وتمكنت الجبهة من الاستحواذ على مصادر تمويل مهمة، (موارد المعابر مع الجارتين إيران وتركيا)، ويوضح حمه ل «الحياة» أن «صدام كان فقد الأرضية والأدوات التي تمكنه من العودة لمنطقة عاشت عقوداً في ظل جرائم وحروب ارتكبها بحق شعبها، واستنزفت الحرب قدراته ، كما أن واشنطن أرادت أن تستغل مناطق الحظر الجوي لمراقبة برامج النظام العسكرية …».
وأضاف حمه: «صحيح أن النظام تمكن من قمع انتفاضة الجنوب واستعاد زمام الأمور، لكن المنطقة الكردية تحولت لاحقاً إلى مركز لنشاط المعارضة العراقية، وقد حظي حزب المؤتمر الوطني العراقي المعارض بقيادة الراحل أحمد الجلبي بدعم صريح من الغرب»، وزاد: «اليوم يعتبر الإقليم بالنسبة لمصالح واشنطن نقطة حمراء، ولا ننسى موقفها عندما قرر الرئيس باراك اوباما توجيه ضربات لوقف تقدم تنظيم «داعش» عقب سيطرته على مدينة الموصل في حزيران عام 2014 عندما وصل إلى مشارف مدينة اربيل».
وشكل قرار فرض الحظر نقطة تحول في ما يتعلق بطموح الأكراد بإقامة كيان شبه مستقل والإعلان عن تشكيل ما يعرف اليوم ب «إقليم كردستان – العراق» في أول انتخابات برلمانية بعد عام من فرض الحظر الجوي، إلا أن ذلك لم يمنع من نشوب احتراب داخلي مفتوح بين الحزبين الكرديين الرئيسين «الاتحاد الوطني» بزعامة جلال طالباني» و «الحزب الديموقراطي» بزعامة مسعود بارزاني في العام 1996، الذي اضطر إلى الاستعانة بجيش النظام السابق للسيطرة على اربيل، ما دفع واشنطن لاحقاً إلى توسيع خط العرض في الشمال إلى 33 ليكون أقرب إلى حدود العاصمة بغداد.
توقف النزاع الكردي الداخلي بفعل وساطة أميركية تمخضت عن إبرام الحزبين في العام 2008 اتفاقية لتوحيد الحكومتين في مدينتي اربيل والسليمانية، وبدء مرحلة التنسيق تحت «قيادة مشتركة عليا» مع القوى العراقية في حال شن عملية عسكرية بقيادة واشنطن لإسقاط نظام صدام.
في آذار (مارس) من العام 2003، قررت أميركا وبريطانيا بدعم بعض الدول المتحالفة، واعتراض واسع من أقرب حلفائهما كفرنسا وألمانيا، شن حرب لإسقاط نظام صدام حسين خارج إطار مجلس الأمن الدولي بذريعة أن النظام ماطل في الامتثال للقرار 1441 المتعلق بنزع «أسلحة الدمار الشامل العراقية»، واتخذ الجيش الأميركي من المناطق الكردية في الشمال جبهة محورية للتعويض عن رفض تركيا السماح لطائراتها استخدام قاعدة انجرليك للهجوم على بغداد، وهبطت وحدات من المظليين بالقرب من أربيل، لتساعدها قوات البيمشركة في السيطرة على محافظتي نينوى وكركوك.
وفي مرحلة ما بعد سقوط نظام صدام، صوت الأكراد لمصلحة دستور دائم يقر بأن العراق دولة فيديرالية يشكل فيها إقليم كردستان جزءاً من الاتحاد الفيديرالي، واحتلت القائمة الموحدة للقوى الكردية المرتبة الثانية وراء القوى الشيعية في الانتخابات العامة التي شهدتها البلاد مطلع العام 2005، لتصبح رقماً صعباً في المعادلة السياسية للدولة العراقية.
خطا الأكراد في ما بعد خطوات مهمة في طريق إنشاء أسس كيان خارج سيطرة بغداد، واستحوذوا على مناصب مهمة في بغداد بعد الانتخابات، منها انتخاب طالباني رئيساً للبلاد، لأول مرة يتولى فيها كردي هذا المنصب، في حين فاز بارزاني برئاسة إقليم كردستان في جلسة للبرلمان الكردي، وأعيد انتخابه في العام 2009 باقتراع عام.
وساهمت مرحلة الاستقرار على الصعيدين الأمني والاقتصادي في أن يتجه الأكراد نحو تحقيق «استقلال اقتصادي» بمعزل عن بغداد، وبدأت الخطوات لاستقطاب شركات أجنبية للتنقيب عن النفط عقب الإعلان عن اكتشافات جديدة ووسعوا العقود مع كبريات الشركات، وانطلقت في حزيران (يونيو) عام 2009 عمليات التصدير عبر تركيا، ما عمق الخلافات بين اربيل وبغداد حول حصة الإقليم في الموازنة الاتحادية، وغالباً ما كانت خطوات تنفيذ الاتفاقات المبرمة تصطدم بالخلاف حول الكميات المصدرة وآلية الإشراف على عمليات التصدير، وحجم الإيرادات وسط اتهامات بغياب الشفافية.
ورافقت الخلافات النفطية رغبة كردية للتوسع في ضم مناطق يعتبرونها جزءاً من الإقليم إثر تعثر مراحل تطبيق المادة 140 من الدستور المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها مع بغداد، وأصبحت قوات البيشمركة بدعم من قوات «التحالف الدولي» تسيطر على مساحات واسعة في أطراف محافظة نينوى فضلاً عن محافظة كركوك بعد انهيار وحدات الجيش النظامي أمام الاجتياح السريع لتنظيم «داعش» للمناطق السنّية الشمالية والغربية في حزيران عام 2014.
وعلى رغم تهديدات القيادات الكردية المتكررة بالسعي إلى إعلان الانفصال كخيار أخير، يرى مراقبون أن المطلب لا ينسجم مع المعطيات والظروف الموضوعية الآنية على المستوى الإقليمي والدولي، فالولايات المتحدة وأوروبا ما زالتا تؤكدان «سلامة ووحدة الأراضي العراقية»، وهذا ينطبق على مواقف طهران وأنقرة اللتين لا ترغبان في إنشاء دولة كردية قرب حدودهما، ما قد يثير النزعة الانفصالية لدى الأكراد في الدولتين، إضافة إلى عوامل أخرى تتعلق بالوضع الداخلي للإقليم الذي يشهد توتراً سياسياً ونزاعاً بين القوى المنقسمة حول طبيعة نظام الحكم القائم والصراع على السلطة والنفوذ وتوزيع الموارد.
باسم فرنسيس
“الحياة”
[1]