$تشرذم المعارضة السورية: في آثاره على العملية السياسية(2-2)$
يتجلّى تشرذم المعارضة في عدة وجوه: عسكرية وسياسية، وإثنية ودينية، وقبائلية ومناطقية، داخلية وخارجية، وبالارتهان أو التقوقع ومدنية متقدّمة أو فات زمانها أيضاً. لكنّ الصراع على المكاسب وعلى القيادة والهيمنة وعلى مستقبل سوريا وعلى المرجعية الخارجية، إلى التمسّك بحجز أماكن متقدّمة واحتكارية في أية مباحثات سياسية؛ كلّها فعلت فعلها وما تزال بتفكّك المعارضة أكثر فأكثر. وليست حالة التشرذم لافتة للقريب والبعيد وحسب، بل هي مصدر لحالة الإحباط واليأس لدى السوريين عموماً، ولنفور القوى الإقليمية والدولية- مهما كانت درجة مساهمتها الأصلية بتلك الحالة- من سوريا، أو هجرانها.
ولا بدّ من الإشارة هنا أيضاً إلى الدور الكبير الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت عموماً وتزايد الترابط الجغرافي الذي يقرّب البعيد ويحارب مشاعر الغربة في تعزيز النزعات التقسيمية وتكريسها، وفي حرارة العصبيات الناشئة والأصيلة. ساعد ذلك على رفع مستوى التشدّد والتطرّف، وورود عناصر من أماكن بعيدة لتساهم في تأجيج الحروب الصغيرة على الأرض.
هنالك تمثيل ضروري للمعارضة السورية لا بدّ أن ينعكس في العملية السياسية. وغيابه يمكن أن يكون تسليماً بأن القوى الإقليمية والدولية هي المعنية وحدها بأيْ حلّ سوري. وفي ذلك الأمر ما فيه من خلل، وربّما إهمال ونسيان أحياناً لسوريا ومشكلتها. إن تمثيل السوريين في الجهة المواجهة للنظام والذي يتمّ النظر فيه يتعلّق بالقوى المسلّحة الموجودة على الأرض والقوى السياسية ذات المعنى والمضمون أو الكمون الواقعي والمكوّنات الاجتماعية بكلّ تفرّعاتها المدنية وغير المدنية. حصة السوريين من أصحاب البلاد والقضية صغيرة جداً حتى الآن في الفضاء السياسي المتعلّق بالمشكلة وحلّها، ولزيادتها لا بدّ من التنظيم والانتظام إلى الحدّ الممكن في ظروفنا الحالية، بكلّ الروح العملية والواقعية المتفلّتة من قيود الداعمين.
أولاً- تتوزّع القوى المسلّحة المعارضة على عدة تصنيفات وتموضعات: في الشمال الغربي والشمال الشرقي والجنوب والتنف، وربّما في غيرها أيضاً. لكن الأكثر أهمّية هي تلك الموجودة في الشمالين الغربي والشرقي: في شمال حلب ومنطقة تل أبيض ورأس العين، هنالك «الجيش الوطني» الذي يدين لتركيا بالولاء وما يقارب السمع والطاعة وهو موحّد من هذه الناحية، لكنّه موزّع الأهواء الخاصة والاتجّاهات، ويصطرع داخلياً بين فترة وأخرى. لتلك القوى تقسيمات منتظمة عملت عليها تركيا ضمن فرق وفيالق كما في الجيوش. لكنّ الأصول الأكثر عمقاً، تذهب باتجاه تنافس أمراء الحرب على المغانم وتباين الانتماءات العقائدية بين إخوانية متنوّعة وسلفية متنوّعة أيضاً، والانتماءات الإثنية ما بين تركمان وعرب، والمناطقية ما بين قوى نازحة مختلفة بدورها وقوى محلّية صارت إلى أقلية مع الزمن.
بين تلك القوى، تبرز «الجبهة الشامية» و«فيلق الشام»، وكلاهما بين تنويعات الإخوان، وربّما يفصل بينهما طبيعة انتسابهما لمناطق مختلفة. في الأولى، أقرب إلى أن تكون قوى نازحة من مناطق أخرى، في حين أن الثانية أكثر انتماءً إلى حيث تتمركز. كذلك يعبّر النزوح من شرق سوريا عن ذاته في قوى متعدّدة، يغلب عليها أن تُلحق بتسمياتها كلمة «الشرقية». لتلك القوى سمات أكثر عشائرية بالطبع. إضافة إلى تلك القوى وكرأس حربة، تظهر القوى المسلّحة التركمانية بالتركيب أو بالقيادة، المنسوبة إلى سليمان شاه ومراد شاه وغيرها من القوى التي تستقوي بقرابتها للعنصر التركي، ويستقوي الأخير بها في المهمات الخاصة أيضاً.
وتتركّز القوى الفاعلة في إدلب على شكل ونموذج «هيئة تحرير الشام» المتناسلة من «جبهة النصرة» ف«القاعدة» أساساً. ولا يخلو الأمر في إدلب وشمال شرق اللاذقية خصوصاً من قوى أخرى خارجية صامتة أو منشقة عن القوى المتطرّفة الموجودة لتزيد على التطرّف أنغاماً خاصة بها، مثل «حرّاس الدين» والقوى التركستانية وأمثالها.
على عكس تلك الصورة نسبياً، تظهر القوى المسلّحة في الشمال الشرقي موحّدة، معتمدة خصوصاً على قوات سوريا الديموقراطية التي يقارب تعدادها المائة ألف من المسلحين ذوي التدريب والتسليح العالي المستوى بمساعدة مباشرة من التحالف الدولي ضد تنظيم داعش. تتبع تلك القوى لمجلس سوريا الديموقراطية والإدارة الذاتية التي يبرز من بين قواها المكوِّنة وحدات حماية الشعب عسكرياً وحزب الاتحاد الديموقراطي سياسياً. هنالك قوى كردية أخرى تابعة للمجلس الوطني الكردي- البيشمركة-، لكنها تتمركز في العراق وراء الحدود، وقوتها العددية والتسليحية أضعف من قوات سوريا الديموقراطية بوضوح. كما أن هنالك قوى عشائرية/ عربية عديدة أيضاً، ينتظم قسم منها في إطار «قسد» وقسم آخر ما زال تحت تأثيرات متنوعة بين «قسد» وميوله إلى الاستقلال قدر ما يستطيع.
تتواجد في الجنوب قوى غير محدّدة تماماً، يتمركز أقواها في بصرى الشام الواقعة شرق درعا وغرب السويداء، مع قوى غير محدّدة تناسلت بدورها من القوى السابقة قبل أن «ينتصر» النظام هناك شكلياً، ويسيطر رسمياً على الأرض، في حين يتقاسم السيطرة عملياً مع قوى معارضة متنوّعة وضعيفة التنظيم والتسليح في درعا والسويداء كليهما.
في أي محطة للعملية السياسية سابقاً، كانت قوى الشمال الغربي (ما عدا إدلب) موجودة إلى هذا الحدّ أو ذاك، في حين يغيب نسبياً ممثّلو الجنوب، ويغيب كلياً ممثّلو الشمال الشرقي. ولا يشعر الآخرون بالحرج أو بالضعف بسبب ذلك، انصياعاً والتزاماً برغبات القوى الإقليمية التي ترى مثلاً في قوى الشمال الشرقي خطراً مباشراً عليها وعلى «أمنها القومي».
ثانياً- لا يمكن ولا ينبغي لتمثيل السوريين أن ينحصر أو يتركّز عي حاملي السلاح، لأنّ العملية عندئذ لن ينتج عنها إلّا ما يشبه تركيب تلك القوى بعللها وتأرجحها وضعف بنيتها السياسية. في حين أن زيادة دور القوى ذات الطابع السياسي في العملية السياسية هو ما يمكن أن يُنتج حلولاً أقرب إلى المعايير الدولية والنظامية المعترف بحصافتها وحداثتها، من دون إهمال وجود القوى الفاعلة واحتوائها في ذلك المسار حتى تكون بدورها ملتزمة بما يمكن أن ينتج عنه.
إنّ وجود القوى والشخصيات السياسية ممثَّلة في عملية التفاوض يعني ضمان «سياسية» الحلول التي يمكن التوصّل إليها، ويعني تلاؤماً وتكيّفاً أفضل مع القانون الدولي. ومن ثمّ، يضمن لتلك الحلول مشروعية أكبر، وبالتالي ملاءمتها لمصلحة الشعب الذي أنهكه الصراع الطويل والنظام الاستبدادي والمعارضة القاصرة، مع تأثيرات إقليمية ودولية سلبية أخذت تلعب الدور الأكبر في هكذا ظروف.
من ناحية التمثيل السياسي، استطاعت القوى الإقليمية والدولية المتوافقة في فيينا أن تعالج شيئاً من تآكل احترام «الائتلاف» لما كان يدّعي احتكاره من تمثيل المعارضة، من خلال مؤتمر الرياض الأول فالثاني، واستيعاب هيئة التنسيق الوطني ومنصتي القاهرة وموسكو. لكنّ تلك «الوحدة» بقيت مُفخّخة بعدة أشكال، أولاها التبعية الخارجية للقوى المكوّنة، وثانيها اختلاف البرامج وحدّة تأثير ذلك الاختلاف أحياناً. لم تستطع هيئة التفاوض- الموحّدة- أن ترتقي إلى المستوى المطلوب في العملية السياسية، إذ تابعت الانطلاق من عقلية الرفض والإحساس المستمرّ بالظفر ومارست «ممانعة» على طريقة النظام تستسهل الرفض في معظم الأحيان. ولقد ورثت تلك العقلية من المجلس الوطني السوري الذي كانت ممانعته سبباً في تجاوزه إلي الائتلاف، ومن هيمنة قوى إسلامية تنطلق من عقلية ثأرية أحياناً وطائفية في الوقت نفسه.
تأثّرت هيئة التفاوض بوحدتها وفاعليّتها بالخلاف الخليجي في بعض الأحيان، وبمواقف دول أخرى مثل روسيا ومصر في أحيان أخرى. يشعر «الائتلاف» بفائض قوة مصطنع أحياناً نابع من اعتراف دولي به وبدوره، مع أن ذلك الاعتراف ومدلولاته انخفضت بالتدريج، حيث أصبح مقبولاً الإقرار بفوات أوانه وزمانه، من دون محو ما بقي من ذلك «التمثيل الدولي الرسمي» مهما تضاءل. كما تتزايد عزلة هيئة التنسيق وانكماشها أيضاً مع استمرار وجودها المخنوق في مناطق سيطرة النظام وصعوبة تفعيل دورها الداخلي وشعبية قاعدتها التي كانت مصدر قوّتها حتى الآن. ولا يبقي هيئة التنسيق على أهميّتها وأهميّة دورها، إلّا عند مقارنة ما حدث لها من انكماش مع وضع «الائتلاف» الأكثر هزالة وبؤساً. تتعرّض منصتّا موسكو والقاهرة لما يشبه ذلك على الرغم من احتفاظهما بمعظم شرعية وجودهما. يشارك في تدعيم شرعية مشاركة هذين الطرفين بشكل جانبي والحرص عليها، ما يشكّلانه من تمثيل محدود للأقلّيات السورية، مع هيئة التنسيق الوطنية، بالطريقة ذاتها. وبالعودة إلى التمثيل السياسي للمكوّنات والمناطق، هنالك ثغرة راهنة في تمثيل الجنوب، خصوصاً بعد انتفاضة السويداء مؤخّراً، وثغرة رئيسة كذلك فيما يخصّ تمثيل القوى والشخصيات الديموقراطية الأقرب إلى العلمانية، والتي حاول التيار الإسلامي وداعموه تهميش وجودها ودورها، على الرغم من كلّ ما تعنيه من حيث تمثيلها لاعتدال المجتمع السوري التاريخي، وغلبة الوجه المديني أيضاً ونسبياً عليه. إلّا أن الثغرة الفاضحة والحاسمة تتمثّل في الفيتو الممارس على تمثيل الكرد السوريين وحلفائهم في مناطق الإدارة الذاتية شمال شرق سوريا. إذ شكّل غياب ذلك التمثيل ثغرة مستمرّة في مسار العملية السياسية ومصلحة مشتركة ما بين النظام وقوى إقليمية مؤيّدة من الناحية الرسمية للمعارضة.
لا بدّ من توقّف السوريين عن التأثّر بمصالح أخرى غير مصالحهم العامة والجمعية في سياق العملية السياسية التي ترنو إليها سوريا وشعبها الجريح، الذي آن له أن يحظى ببعض الأنباء الطيبة، ولو بنزر يسير. ولا يمكن لأحد، مهما كان وزنه الدولي، أن يساعدهم علي الخروج من مخرج معقول إلى المستقبل الأفضل، ما دامت حالهم متشرذمة علي ما هي عليه حالياَ.
[1]