=KTML_Bold=الأنفال.. -فصول في الجحيم-!!=KTML_End=
#بير رستم#
الحوار المتمدن-العدد: 4970 – 2015-01-30
المحور: القضية الكردية
أتذكر عندما زرت لأول مرة إقليم كوردستان (العراق) كان في عام 2003م أي بعد “فصول الجحيم الكوردي” بسنوات لكن فصول المأساة والكارثة كانت ما زالت حاضرة في كل تفاصيل الحياة الإجتماعية والسياسية وحتى في ذاكرة المكان .. وهكذا ومن بين الأمكنة التي زرتها وهي تحكي فصول من تلك المأساة والجحيم كانت مديرية “أمن سويركه” وذلك برفقة الصديق والشاعر محمد حمو حيث كان _وما زال_ يقيم في الإقليم ويعمل في تلفزيون كوردسات وذلك بسيارة وزير الثقافة وكان معنا صديق آخر وسائق الوزير نفسه حيث كان الرجل قد وضع سيارته وسائقه في خدمتنا لسهولة الحركة والتعرف على معالم المدينة وقد كان يومذاك الصديق والأستاذ عبد الفتاح زاخوي وزيراً للثقافة في حكومة السليمانية، حيث لم تكون قد توحدت الحكومتان بعد .. وللعلم ولمن لا يعرف معنى “أمن سويركه”؛ فهي المباني التي تم الإبقاء عليها من أيام الطاغية المقبور صدام حسين والتي كانت تعتبر المركز الأمني البعثي الأقوى في إقليم كوردستان _(شمال العراق)، بحسب تسمية النظام البعثي المقبور_ وقد أبقى الكورد عليها بعد تحريرها كما هي وعليها آثار القصف والدمار في بعض أجزائها نتيجة الإشتباكات وهكذا تم تحويلها لمتحف دائم؛ لتحكي لنا وللأجيال القادة إحدى فصول التراجيديا للمأساة الكوردية في عصر النفاق الأخلاقي والوجداني.
وأتذكر كذلك بأن المكان _وللوهلة الأولى_ بدا لي موحشاً، مرعباً .. هل كان بسبب ما كنت قد سمعت عنه وعما أرتكب فيها من مآسي وفظائع وجرائم، أم لأسباب ودوافع ذاتية نفسية وإنها ذكرتني بالفروع الأمنية في بلدي سوريا وأقبيتها وزنازينها وجلاوزتها، بل ربما المكان نفسه وإتساعه الجغرافي وهندسيته ومبانيه الإسمنية هي نفسها التي أوحت لي بالكآبة والرعب والتوحش والشيئ الوحيد الأليف، ربما كانت آثار طلاقات الدوشكا والمدفعية والتي تركت ثقوباً في جسد هذا الغول المكاني المرعب .. لكن ما كان فوق سطح الأرض من مباني إسمنية وإدارات أمنية (سابقة) كانت لا تقارن مع ما هو الأكثر هولاً ورعباً مما هو موجود تحت تلك المباني والتي تتوزع على مساحة عدد من الهكتارات؛ حيث وبعمق أمتار تنزل في أنفاق ودهاليز وممرات لولبية، إنها (متاهة الحياة) وعدد هائل من الممرات والأنفاق تحت تلك المباني وضمن تلك المساحات الشاسعة من جغرافية الرعب والموت وحيث يدفع بالسجين المحكوم بالإعدام _وقد كان يحكم على الجميع بالإعدام؛ بما إنك “عميل كردي”_ ويترك خلفه عدد من الكلاب الشرسة والجائعة والمدربة على قتل الإنسان وأكل لحم البشر .. وهكذا كنت تهرب، ولكن هل كان فعلاً لدى السجين القدرة على الهرب وهل تركوا لديه من القوة والقدرة لكي يهرب حيث الكلاب السريعة والأنفاق المسدودة في النهايات وليس هناك أي أفق أو أمل في الخلاص حيث الإنغلاق على الذات ووالتي تجبرك على الوقوف والرجوع لتواجه المصير المحتوم بأن تستقر في جوف تلك الحيوانات المدربة على قتلك ونهشك أنت الحي الميت والتي ربما كانت تقل وحشية عن مدربيها وأصحابها الذين رتبوا فصول الجحيم بحرفية ومهنية أي طاغية ومستبد لا يرى في الضحية إلا جزءً من فصول مسرحية هزلية.
وبعد أن عدت من رحلة الموت في إحدى فصولها الجحيمية تلك .. أستقبلنا الصديق والوزير (فتاح زاخوي) مع شاعر كوردي في أحد فنادق السليمانية على وجبة الغداء، كان الإستقبال والحفاوة وفخامة الفندق ودماثة أخلاق الوزير الصديق يمكن أن تخفف بعض الضغط لولا ذاك الكتاب الذي أعاد فصول الجحيم بكل تفاصيله ومآسيه وبطريقة أكثر تراجيديةً؛ حيث وعندما علم الوزير زاخوي بأن لي مشروع؛ لكتابة رواية عن كارثة حلبجة .. وذلك في صبيحة اليوم الذي أستقبلني فيها بالوزارة على فنجان قهوة وقبل أن يكلف سائقه لأن يبقى معنا في جولة بالمدينة والإطلاع على معالمها، فقد كان جهز لي عدد من الكتب والمصادر التي تتحدث عن تلك الكارثة الإنسانية ومن بينها كتاب لمنظمة هيومن رايتش الدولية لحقوق الإنسان وتتضمن الكثير من الشهادات التي توثق لفظائع تلك المأساة بحيث يمكننا القول؛ إنها إحدى أبشع الجرائم التي أرتكبت بحق الشعوب والإنسانية، بل يمكننا إطلاق تسمية “فصول من الجحيم” عليها وعلى الحكايات والفظائع التي أرتكبت تحت مسمى ((الأنفال)) حيث من بين تلك الوثائق والحكايات الهائلة والمرعبة، ما تحكيه إحدى الصحفيات الأمريكيات والتي ساهمت في إعداد الكتاب والتوثيق له؛ وهي تروي مأساة إمرأة تفقد كل أفراد عائلتها .. وحكايتها، بل مأساتها تبدأ مع دخول القوات العراقية لقريتها حيث الحرق والقتل والإذلال والإغتصاب.
تقول الصحفية في بداية روايتها لمأساة تلك المرأة الكوردية؛ بأنها خلال فترة روايتها لمأساتها وقعت مغشية عليها عدد من المرات بحيث كانت تنتابها حالة التخشب الجسدي من هول ذكريات المأساة والجحيم الذي عاشتها خلال فترة النفي في سجن “نقرة السلمان” بالصحراء في الجنوب، حيث كان المكان عبارة عن سكنة عسكرية قديمة أيام الإستعمار الإنكليزي باقية من أيام الإمبراطورية العثمانية وبعد رحيله حولها أهالي المنطقة ولفترة طويلة سكناً وزريبة لمواشيهم إلى أن حولها النظام العراقي المقبور إلى معتقل لأهلنا الكورد المؤنفلين، حيث كان الذي ينجو من عقوبة الموت بالرصاص ومن التصفيات الجماعية، مثل العجزة والكبار في السن أو الأطفال والرضع والنساء غير الجميلات _حيث أن الجميلات لسوق النخاسة والبيع لملاهي القاهرة ودول الخليج وذلك بعد أن تتعرض الواحدة منهنّ لأكثر من حالة إغتصاب من قبل ضباط الأمن والمخابرات العراقية وحيث يكون الرجال قد أعدموا بالرصاص على مداخل قراهم وفي ساحاتها وذلك دون محاكمات ميدانية حتى .. وهكذا يحمل الباقون من النساء والعجز والأطفال في عربات عسكرية وينقلون إلى الصحراء حيث “نقرة السلمان” والموت من الجوع والأمراض والأوبئة في زريبة لا تسكنها الحيوانات وفي جحيم حقيقي حيث الحرارة تغلي الدم في العروق .. وهكذا فاالذي ينجو من الرصاص سوف تقتله جحيم “نقرة السلمان”.
وتضيف الصحفية الأمريكية؛ بأن حكاية ومأساة هذه المرأ الكوردية بدأت مع مجيئ تلك القوات والتي أخذت منها زوجها وولديها، حيث فقدتهما من يومها وهي لا تود أن تعترف بأنهما قد قتلا، كما كل الآخرين الذين دفنوا في مقابر جماعية .. وهكذا فهي بقيت مع إبنتيها وطفلٍ رضيع في حضنها وسوف تفقد بنتيها أيضاً في طريق رحلتها إلى الجحيم حيث “نقرة السلمان” والموت المجاني، ولم يبقى في حضنها غير رضيعها .. ولكن ولغياب أي سبب من أسباب المعيشة والحياة فإن الطفل الصغير يمرض وتحاول الأم أن تداويه بحليبها لكن الضرع يجف في جحيم “نقرة السلمان” والذي يعدم الآدمي من عرقه ويجعله ناشفاً محروقاً كرمال تلك البادية الحارقة اللعينة .. وهكذا يقع الطفل دون حراك ميتاً ناشفاً ليخطفه ملاك الموت إلى حيث الراحة الأبدية، لكن الأم تعاند بإخراج رضيعها من فتحة الباب لتسليمها إلى الحراس كي يدفنوه، بل ليرموه إلى كلاب الصحراء والتي تعرف أن كل يوم لها ولائمها من جسد المؤنفلين الكورد حيث كانت قوافلها تزداد في المنطقة مع مرور الأيام وأزدياد جثث الولائم .. لكن رائحة الجسد المتعفن يجعل السجناء يجبرون المرأة المهلوسة أن تستسلم للأمر الواقع بحيث يأخذون الرضيع منها ويمررونها عبر فتحة باب الزريبة (الزنزانة) إلى الحراس حيث الكلاب في إنتظار الوليمة الجديدة .. ولكنها لا تقدر أن تروي الفصل الأخير من حكايها في الجحيم وحيث جسد رضيعها قد تهشم بين فكي كلاب الصحراء الجنوبية فقد وقعت مجدداً في حالة التخشب الجسدي.
العنوان؛ إقتباس وتغيير لعنوان “فصل في الجحيم” للشاعر الفرنسي آرثر رامبو[1]