محمد سيد رصاص
في صباح 07-12- 2003، كان كاتب هذه السطور في بيت رياض الترك بحمص بعد أيام قليلة من عودته من زيارته التي استغرقت شهران للقارتين الأوروبية والأميركية الشمالية. رن جهاز هاتف المنزل وكان المتحدث هو المحامي خليل معتوق والذي أخبر رياض بأن دانيال نعمة توفي مساء السبت وبأن الجنازة ستكون في بلدة مشتى الحلو الإثنين. قلت لرياض بأنه من الضروري حضوره الجنازة، خاصةً أن العلاقة الشخصية بينهما تمتد عندما كانا يسكنان غرفة واحدة بموسكو في أثناء دراستهما في معهد الماركسية اللينينية الذي كانت ترسل الأحزاب الشيوعية العالمية كوادرها للدراسة فيه. قال لي بأنه لن يذهب للجنازة أو التعزية، وبأن «دانيال هو يهوذا الحزب». وهنا، بدأ يروي لي قصة اكتشفت لاحقاً بأن قلة من الشيوعيين السوريين يعرفوها، وهي كيف أنه كان ودانيال أعضاء في وفد شيوعي سوري زار موسكو في مايو/أيار 1971 ضم معهما خالد بكداش ويوسف فيصل ومراد يوسف وبدر الغزي (الطويل) من أجل مناقشة الملاحظات السوفيتية على مشروع البرنامج السياسي للحزب، وهو ما تم على أساسه منذ ذلك الوقت الاستقطاب في الحزب في جناحين: إما مع مشروع البرنامج أو مع الملاحظات السوفياتية. قال لي رياض بأن النقاشات جرت مع قادة سوفييت ساهموا في كتابة الملاحظات منهم ميخائيل سوسلوف عضو المكتب السياسي وبوريس بوناماريوف رئيس القسم الدولي التابع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي ونائبه أوليانوفسكي وهو الخبير السوفياتي الأول بالشؤون الأفرو- آسيوية. وذكر أن الوفد الشيوعي السوري انقسم إلى ثلاثة مع المشروع هم رياض ودانيال وبدر وثلاثة قالوا بأنه يجب إجراء صياغة جديدة لمشروع البرنامج على أساس الملاحظات وهم خالد ويوسف ومراد، موضحاً أن النقاشات لم تقد إلى أي توافقٍ لا مع السوفيات ولا بين أعضاء الوفد. هنا قال رياض بأنه فوجىء في المساء وبغرفته الخاصة بالفندق بزيارة من شخص عرّف عن نفسه بأنه مسؤول في الحزب الشيوعي السوفييتي وبأنه أتى لرياض لأنه يعرف بأنه «رأس المعارضة لخالد بكداش»، وبأنه مكلف بعرض صفقة عليه: مقابل التخلي عن مشروع البرنامج من مناوئي بكداش يتخلى السوفييت عن بكداش ويقبلون بشخص من مناوئيه لتولي الأمانة العامة للحزب. وافق رياض على العرض وذهب بعد ذلك إلى غرفة دانيال وأخبره بالعرض وبأنه وافق عليه، ليتفاجىء بأن دانيال يعارض ذلك. ثم يتفاجىء أكثر بأن دانيال أخبر خالد ويوسف بذلك، واستطاع الأخيران بما يملكان من علاقاتٍ تصل إلى أعلى هرم الحزب الشيوعي السوفيتي والأجهزة السوفيتية المختلفة إقناع السوفيت بالتخلي عن هذا العرض الذي يبدو أنه لم يكن موضع إجماع في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي.
يعطي هذا صورة عن أهمية الحزب الشيوعي السوري عند السوفيت عندما تمت كتابة نص سوفيتي مضاد من قبل أعضاء في أعلى هرم القيادة السوفيتية ضد مشروع برنامج سياسي للشيوعيين السوريين. وكان خوف موسكو من أن هذا المشروع سيقود إلى ابتعاد الشيوعيين السوريين عن موسكو وإلى استقلاليتهم عنها. كما أن الذين يقفون وراء مشروع البرنامج يعارضون السلطة السورية الجديدة التي أتت بعد حركة 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1970 والتي أيدتها موسكو وضغطت على الشيوعيين السوريين للتعاون معها. وكان السوفيت يخشون من أن الصدام بين الشيوعيين والسلطة السورية الجديدة سيضع موسكو في وضع صعب. يمكن هنا التفكير في مقدار الإلحاح السوفيتي على حل أزمة الحزب الشيوعي السوري من خلال قياس حجم «التضحية السوفياتية» التي أبدوا استعداداً لتقديمها من خلال تقديم «قربان» بحجم بكداش في سبيل الوصول لذلك، ولكن بشرط أن يتقيد الشيوعيون السوريون بعد التضحية السوفيتية ببكداش بالخط السوفيتي الذي رسمته الملاحظات.
كما أن هذا يعطي صورة عن براغماتية رياض الترك عندما أراد مسك التنظيم مقابل تنازلات في مجالي الفكر والسياسة. والأرجح، وهو المبدئي العنيد والصلب، أنه كان يحسب بأن التمكن في التنظيم يتيح له المجال اللاحق للعودة إلى إمساك الفكر والسياسة وحتى ضد إرادة السوفيت. كما تعطي عملية استمرار قوة انفعالات شخص عن حادثة عمرها ثلث قرن تجاه شخص آخر أفشل له ما يريد صورة عن أنه كم كان مقتنعاً بتلك الصفقة السوفيتية وبجدواها.
وبعد انشقاق الحزب الشيوعي السوري إثر بيان 3 أبريل/نيسان 1972، أصبح الشيوعيون السوريون في وضعية الانقسام الانشطاري في مركزين وجسمين تنظيميين من الرأس حتى كافة أجزاء الجسم. وأجرى السوفيت ثلاث محاولات لإعادة الوحدة للشيوعيين السوريين. الأولى في موسكو في يوليو/تموز 1972، عندما ذهب وفد سباعي مكون من خالد بكداش، يوسف فيصل، مراد يوسف، رياض الترك، ظهير عبد الصمد، دانيال نعمة، وواصل فيصل. وجرت اجتماعات في العاصمة السوفيتية مع أندريه كيرلنكو عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي شارك بها بوناماريوف وأوليانوفسكي. وثانيها في دمشق في مارس/آذار 1973 من خلال لقاء حضره الطرفان مع سيزوف، رئيس لجنة الرقابة في الحزب الشيوعي السوفيتي. والمحاولة الثالثة مع كيرلنكو في دمشق في يوليو/تمو 1973 عندما حضر إلى سوريا للاحتفال بتحويل مجرى نهر الفرات عبر سد الفرات. في لقاء موسكو، جرى الاتفاق على عقد المؤتمر الرابع للحزب في نهاية عام 1972 مع تشكيل لجنة رباعية مؤلفة من خالد بكداش- يوسف فيصل- دانيال نعمة- ظهير عبدالصمد تكون بمثابة لجنة تحضيرية للمؤتمر والتي تم تشكيلها إثر انعقاد جلسة كاملة للجنة المركزية للحزب في الشهر اللاحق بناءً على نتائج اجتماع موسكو. ولكن كما في 1971، كانت ثنائية المشروع والملاحظات العقبة أمام عقد المؤتمر عندما أصر بكداش على اعتبار الملاحظات أساساً يتم من خلاله تقديم المشروع الجديد للبرنامج السياسي إلى المؤتمر، فيما قال خصومه بأن نص المشروع يبقى كما هو ويقدم إلى المؤتمر. وهناك، يمكن الاستئناس بالملاحظات السوفيتية، مع شيء جديد، أراده بكداش، وهو أن يتم الاتفاق المسبق على مندوبي المؤتمر وليس بالانتخاب من القواعد. قاد كل ما سبق إلى فشل عقد المؤتمر، وهذا مادفع جناح المكتب السياسي في أوائل 1973 إلى إضافة أعضاء جدد للمكتب السياسي واللجنة المركزية وإلى بدء تحضير منفرد للمؤتمر الرابع للحزب، من منطلق أنهم يملكون الأكثرية في اللجنة المركزية المنتخبة في المؤتمر الثالث، أي ثمانية أعضاء من أصل خمسة عشر عضواً، ومن منطلق أنها الهيئة القيادية العليا للحزب في المرحلة الواقعة بين مؤتمرين (المادة 26 من النظام الداخلي للحزب المقر في المؤتمر الثالث، وثائق المؤتمر الثالث، ص231). كما كان المنطلق أنه يحق للجنة المركزية ضم أعضاء جدد إليها من المرشحين المنتخبين في مؤتمر الحزب أومن سواهم من أعضاء الحزب (المادة 31،ص 232). بعد لقاء 1973، تم تشكيل لجنة خماسية كانت هي الرباعية السابقة زائد ابراهيم بكري. وكان هناك حلول منها إيجاد صيغة توفيقية بين المشروع والملاحظات أو أن لا يتم أي اخراج لبرنامج سياسي من المؤتمر القادم مع الاكتفاء بحل المشكلة التنظيمية. وهنا، حدث استعصاء جديد عندما وافق خالد بكداش على أن يكون بمنصب شكلي هو رئيس الحزب ولكنه اشترط أن يكون الأمين العام الجديد من غير المناوئين له، فيما رشح رياض الترك ظهير عبد الصمد ليكون الأمين العام الجديد. وذكر اقتراحا بكداش والترك في المقابلات التي أجراها طلال سلمان لصالح مجلة «الصياد» في يونيو/حزيران 1972ونشرت في المجلة على عدة حلقات.
في اللجنة الخماسية، ضغط السوفيت من أجل حل أزمة الشرعية في الحزب عبر استقطاب أعضاء في اللجنة المركزية من الجناح المضاد لبكداش لكي ينتقلوا إلى الضفة الأخرى، وهددوا من أجل ذلك بأنهم سيعترفون فقط بجناح بكداش بوصفه الحزب الشيوعي السوري المعترف به من الحركة الشيوعية العالمية، وأنهم سيسحبون المساعدة المالية التي كانت تقدم تاريخياً للحزب عن المخالفين وكذلك تسهيلات البعثات الدراسية للطلاب في دول معسكر حلف وارسو. أدى هذا الأمر عملياً إلى خلاف الثلاثي (دانيال- ظهير- إبراهيم بكري) مع أغلبية اللجنة المركزية الجديدة في جناح المكتب السياسي، خاصةً حينما عرضوا في اجتماع 28 -11- 1973 اتفاقاً مكتوباً مع جناح بكداش. وكان الاتفاق يتضمن أن يكون يوسف فيصل أميناً عاماً وخالد بكداش رئيساً للحزب مع عقد مؤتمر تكون فيه الملاحظات السوفيتية أساساً للبرنامج السياسي الجديد. انعقد اجتماع بعد يومين بحضور الثلاثي. واتخذ قراراً، متسلحاً بحضور عشرة من خمسة عشر من أعضاء المركزية المنتخبين في المؤتمر الثالث، بفصل رياض الترك وفايز الفواز ويوسف نمر من عضوية الحزب، وهو ما ترافق مع اعتراف السوفيت وبقية أحزاب الحركة الشيوعية العالمية بجناح بكداش باعتباره الحزب الشيوعي السوري.
ذهب مع الثلاثي قلة من أعضاء جناح المكتب السياسي لا يتجاوزون عشرة في المئة. في ديسمبر/كانون الأول 1973، عقد جناح المكتب السياسي المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوري. وفي سبتمبر/أيلول 1974، عقد جناح بكداش المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوري. وانتخب رياض الترك أميناً أول للحزب الشيوعي السوري المكتب السياسي. وفي المؤتمر الآخر، لم يلتزم بكداش بالاتفاق الشفوي مع يوسف فيصل والثلاثي بأن يكون يوسف أميناً عاماً جديداً، وهو ما كان أليكسي كوسيغين رئيس الوزراء السوفيتي راعياً له كاتفاق. وكان تأييد مراد يوسف لبكداش في ذلك بذرة لانشقاق مراد عام 1979والذي هو حصيلة خلاف يوسف ومراد مع تخلي بكداش بالنهاية عنه، وبذرة ثانية لانشقاق 1986بين خالد ويوسف فيصل الذي وقف معه الثلاثي. وكانت المفارقة في عام 1991عندما توحد مراد يوسف مع جناح يوسف فيصل في ما يسمى الحزب الشيوعي الموحد، وربما كان هذا انتقاماً متأخراً من مراد ضد خالد.
على الرغم من معارضة مناوئي بكداش للاشتراك في الوزارة التي أتت بعد يومين من حركة 1970 في سوريا ومعارضتهم الاشتراك في الجبهة الوطنية التقدمية التي أعلن قيامها في 1972، فإن جناح المكتب السياسي لم يتجه فوراً لمعارضة السلطة بل كان له ممثل في القيادة المركزية للجبهة هو دانيال نعمة بجانب العضو الشيوعي الثاني وهو خالد بكداش، وفي وزارة محمود الأيوبي بالشهر الأخير من 1972 كان الوزير الشيوعي الثاني هو ظهير عبدالصمد بجانب وزير المواصلات عمر السباعي الذي كان في جناح بكداش. وفي انتخابات مجلس الشعب في عام 1973 كان لجناح المكتب السياسي ثلاثة نواب هم ميشيل عيسى من طرطوس ويوسف نمر من دمشق ونوري حجو الرفاعي من حمص، زائد تمثيل في اتحاد الطلاب بالجامعات وفي اتحاد نقابات العمال وفي مجالس الإدارة المحلية بالمحافظات. وعندما ذهب الثلاثي: دانيال- ظهير- إبراهيم بكري إلى جناح بكداش، عرض الرئيس حافظ الأسد في اللقاء الذي جمعه مع رياض الترك في مايو/أيار 1974 أن يكون هناك ممثل للحزب الشيوعي المكتب السياسي في القيادة المركزية للجبهة وممثل في الوزارة بدلاً من دانيال وظهير، وهو ما تملص منه رياض وقال إنه وجودهم في فروع الجبهة بالمحافظات وفي مجلس الشعب يكفي. وفي لقاءات جرت عامي 1974 و1975 مع الأمين العام المساعد لحزب البعث عبدالله الأحمر والأمين القطري المساعد محمد جابر بجبوج وعضو القياد القطرية عبدالله الأحمد، كان القادة البعثيون، وفق ما هو مكتوب في المحاضر، يقولون بأنهم يشعرون بالقرب من الحزب الشيوعي المكتب السياسي في قضايا فلسطين والوحدة العربية أكثر من قربهم من الحزب الشيوعي (بكداش). وكان يفهم من ذلك بأن هذه مغازلة سياسية يريد من خلالها البعثيون الضغط على بكداش والسوفيت واحتواء الحزب الشيوعي المكتب السياسي أو ثنيه عن الاتجاه نحو المعارضة.
لم يستجب الحزب الشيوعي المكتب السياسي لذلك بل اتجه نحو معارضة تدريجية للسلطة، وهو مابدأ مع معارضته لاتفاقية فصل القوات في الجولان في 1974 ثم صار التركيز على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في ظل سياسات انفتاح اقتصادي أتاحت مجالاً لنمو رأسمالية جديدة بالتشارك بين التجار والمتعهدين وبين المتنفذين في مراكز السلطة. في الشهر الأول من عام 1976، انسحب الحزب الشيوعي المكتب السياسي من الجبهة الوطنية التقدمية عبر سحب ممثليه من فروع الجبهة في محافظات عديدة. وفي مظاهرة يوم الأرض التي جرت بجامعة دمشق في 30 مارس/آذار 1976، شارك الحزب بقوة واعتقل العديدون من أعضائه في المظاهرة. وظل اثنان منهما، وهما فرحان نيربية وحكمت أبو جمرة، أربع سنوات في الاعتقال بسجن المزة. في يونيو/حزيران 1976، أصدر الحزب الشيوعي بياناً موقعاً من قيادته ضد التدخل العسكري السوري بلبنان. وفي صيف ذلك العام، بدأ اتصالات مع قوى سياسية مثل الاتحاد الاشتراكي بقيادة جمال الأتاسي وحزب العمال الثوري بقيادة ياسين الحافظ وحزب البعث- تنظيم 23شباط وحركة الاشتراكيين العرب بقيادة أكرم الحوراني من أجل تشكيل جبهة معارضة للسلطة، وهو ما ولد عنه التجمع الوطني الديمقراطي في الشهر الأخير من عام 1979وضم القوى السياسية الخمسة المذكورة. في نفس الفترة من صيف 1976، جرى لقاء في بيروت بمساعدة وتنسيق من حركة فتح ومسؤول القطاع الغربي فيها خليل الوزير (أبو جهاد) مع مسؤول الشؤون السورية في الاستخبارات العراقية نزار حمدون، ضم رياض الترك وأعضاء آخرين من المكتب السياسي للحزب، وهو ما دشن علاقة بين الحزب وبغداد استمرت حتى عام 1989، وهي علاقة لم يعرف بها سوى أعضاء المكتب السياسي للحزب وعدد قليل من الحزبيين. وكان طرح الحزب منذ 1980 للجبهة العريضة في إطار محاولة توسيع المعارضة لكي تشمل تنظيم البعث الموالي للعراق وربما الإسلاميين. ولكن معارضة جمال الأتاسي وكذلك معارضة قيادات في الحزب الشيوعي المكتب السياسي، أفشلت هذا المسعى الذي ارتبط بمسؤول منظمة الخارج في الحزب المحامي أحمد محفل والذي كان يتحرك في مارس/آذار عام 1980 أثناء زيارته بغداد بضوء أخضر من رياض الترك.
بفعل الاتجاه نحو المعارضة السياسية للسلطة، والتي كان من مظاهرها مقاطعة انتخابات مجلس الشعب عام1977وعدم المشاركة في انتخابات اتحاد الطلبة بالجامعات، تخلى الحزب الشيوعي (المكتب السياسي) عن مقولات التطور اللارأسمالي والديمقراطية الشعبية. وبدأ عبر المؤتمر الخامس للحزب المنعقد في الشهر الأخير من عام 1978بتبني مفهوم الديمقراطية بمعناها البرجوازي الصرف في خطوة غير مسبوقة من حزب يساري سوري بشقوق اليسار السوري المختلفة من ماركسية وعروبية وكردية في الفترة الواقعة بعد 1963 وهو ما تبعته عليه كل الأحزاب اليسار ية السورية وأولها الأحزاب التي انضوت في التجمع عام 1979. ترافق هذا الاتجاه الفكري مع مسار نحو اعتبار أن التطور الاقتصادي- الاجتماعي في سوريا ما بعد 1963 يقوم على دولة شمولية تحتكر السلطة والاقتصاد والاجتماع والثقافة مع نمط اقتصادي هو رأسمالية الدولة، وهو ما أرفقه المؤتمر الخامس بطرح برنامج للتغيير يشمل دستوراً جديداً يحدد فصل السلطات وخضوع السلطة التنفيذية للتشريعية ودستور علماني لايميز بين المواطنين بسبب العرق أو الدين أو الطائفة أو الانتماء السياسي وانتخابات حرة مباشرة وسرية وإلغاء الحكم العرفي وإبعاد الجيش عن السياسة (موضوعات المؤتمر الخامس: الوضع في سورية،كراس من خمسين صفحة،ص 48-49).
عند نشوب الصدام المسلح بين الإسلاميين والسلطة في صيف 1979، اتخذ الحزب الشيوعي المكتب السياسي من برنامج المؤتمر الخامس منهاجاً للتعامل مع الأحداث السورية، إذ رآها مناسبة لطرح برنامج للتغيير كانت زبدته ما ورد في بيان التجمع الصادر في 1980، حيث دعا البيان إلى تغيير جذري في أوضاع البلاد يشمل رفع الأحكام العرفية وقانون الطوارىء، سحب الجيش من المدن، إطلاق الحريات العامة، الدعوة إلى انتخابات عامة لانتخاب جمعية تأسيسية تضع دستوراً جديداً وتتحول بعد وضع الدستور إلى برلمان. كان الجديد في بيان التجمع هو سكوته عن عنف الإسلاميين وتأكيده على أن أزمة البلاد سببها نهج السلطة.
في اليوم التالي للبيان الصادر في 18 -03- 1980، جرت اعتقالات لأعضاء من الحزب الشيوعي المكتب السياسي في جامعة دمشق وفي مدينة اللاذقية وفي الشهر التالي بمدينة حلب، ولكن لم تشمل قياديين في الحزب. في 7 أكتوبر/تشرين الأول 1980، بدأت حملة واسعة من الاعتقالات لأعضاء الحزب شملت الأمين الأول للحزب رياض الترك وأعضاء من المكتب السياسي واللجنة المركزية ومئات من الكوادر والأعضاء. وحتى عام 1990 جرت سبع حملات اعتقالات كان أكبرها الحملة التي جرت في خريف 1987وشملت محمد منير مسوتي (أبو ماهر) الذي خلف رياض الترك في مركز المسؤول الأول بالحزب ثم جاء بعده عبدالله هوشة حتى خروج رياض الترك من السجن في 1998. رغم كل ذلك لم تتحطم البنية التنظيمية للحزب في الداخل السوري بل ظلت له بنية تنظيمية هرمية كاملة في الداخل بفضل الجهاز السري للحزب الذي تم بناءه في فترة 1976-1980، فيما بقية الأحزاب السورية التي تعرضت للضربات الأمنية تحولت لتنظيمات مقتصرة على خارج سوريا.
كانت مسيرة الحزب الشيوعي (بكداش) مختلفة، حيث زاد التصاقه بالسلطة رغم أنه بالترافق مع المعارضة السوفيتية عارض التدخل العسكري السوري في لبنان عام 1976، ولكن هذا الموقف كان استثناء في المسار العام، حيث عاد لمسار من التوافقات انبنت على مقولة أطلقها خالد بكداش عام 1979: «إذا أخذنا السياسة الداخلية لوحدها فيمكن أن نكون في المعارضة، ولكننا نبني سياستنا في التحالف على قضايا السياسة الخارجية التي تتضمن العلاقات الوثيقة السورية – السوفيتية». كان توثق العلاقات بين موسكو ودمشق مبنياً على مستجدات جديدة منها ابتعاد مصر عن السوفيت منذ عام 1974وابتعاد العراق عن السوفيت بعد اتفاقية الجزائر مع إيران عام 1975. وزاد هذا بعد توقيع اتفاقيات كامب دافيد برعاية أميركية بين مصر واسرائيل عام 1978. وقف البكداشيون مع السلطة في أحداث 1979-1982 ثم توثقت علاقتهم معها في فترة حكم أندروبوف 1982-1984.
كانت بيريسترويكا غورباتشوف 1985-1991 صدمة العمر لخالد بكداش وفرصة ليوسف فيصل لتحقيق ما وعده به السوفيت عام 1974 لتولي الأمانة العامة للحزب بدلاً من بكداش. ورأى بكداش صورة سوفيتية جديدة في عام 1986 تختلف عن صورة انشقاق 1972، حيث وقف السوفيت ضده مع يوسف فيصل وبدأ الأخير يعزف على نغم التوافق مع نهج سوفيتي جديد يعارض كل ما آمن به بكداش في موسكو منذ أن ذهب لهناك في الثلاثينيات. كان انشقاق 1986بين بكداش ويوسف انشقاقاً كبيراً يوازي انشقاق 1972في الرأس والجسم الحزبيين، وقد كانت أغلبية اللجنة المركزية والكوادر الحزبية ذات المراكز الوظيفية في السلطة مع يوسف فيما غالبية الجسم الحزبي مع بكداش، وكان هناك بعد ثان أن يوسف كان أقرب للسلطة من بكداش الذي وجد نفسه أبعد من يوسف تجاه الكرملين والسلطة السورية معاً في وضع معاكس لعام 1972. وعندما تفكك الاتحاد السوفياتي في أواخر عام 1991أصبح هناك سباق بين يوسف وخالد لمن هو يصبح في موقع الأقرب للسلطة السورية وهو وضع مستمر حتى الآن بين تنظيمي الحزب الشيوعي السوري (الموحد) والحزب الشيوعي بقيادة وصال فرحة بكداش وعمار خالد بكداش بعد تعاقبهما على الأمانة العامة للحزب منذ وفاة #خالد بكداش# في 1995.
بفعل مرحلة ما بعد الانهيار السوفياتي، حصلت في الألفية الجديدة تطورات كثيرة عند الشيوعيين السوريين. فكثير منهم اتجه نحو (الليبرالية الجديدة) متخلياً عن الشيوعية الماركسية، وهذا شمل الكثير من الأعضاء في الأحزاب الشيوعية في الجبهة ولكن لم يتبلور في الجسم العام للتنظيمات الشيوعية في الجبهة، فيما حصل العكس في الحزب الشيوعي المكتب السياسي حيث بدأت تتبلور طروحات منذ المؤتمر التداولي للحزب المنعقد بريف دمشق في 2001 نحو أن الحزب هو برنامج سياسي مع تعدد المصادر المعرفية وأن هناك انفصال بين الأيديولوجية والسياسة. بعد عودة رياض الترك من زيارته للغرب الأوروبي- الأميركي بالشهر الأخير من عام2003 بدأ يتجه نحو التخلي عن الماركسية وللتخلي عن اسم الحزب بالترافق مع تأييد ما فعله الأميركيون في العراق عام 2003 من تغيير داخلي بفعل قوة عسكرية خارجية . أنشأ هذا خلافاً فكرياً- سياسياً- تنظيمياً في الحزب الشيوعي المكتب السياسي قاد إلى مسارين مختلفين. الأول كان مسار تأسيس حزب الشعب الديمقراطي في 2005، والثاني مسار إعلان كوادر وأعضاء في الحزب أن الحزب الشيوعي المكتب السياسي هو حزب مستمر في نفس بنائه القديم وأن من ذهب من أعضاء الحزب لتأسيس حزب الشعب غادروا بناء الحزب وهم بنوا بناءاً حزبياً جديداً، كما أعلنوا بأنهم ما زالوا يتمسكون بالماركسية واسم الحزب ويرفضون نزعة الاستعانة بالخارج لإحداث تغيير داخلي. في التحالفات، اتجه من بقي في الحزب الشيوعي المكتب السياسي نحو المشاركة في تأسيس تجمع اليسار الماركسي-تيم عام 2007 ولتأسيس هيئة التنسيق الوطنية عام 2011، فيما ذهب حزب الشعب إلى التحالف مع الإسلاميين في إعلان دمشق عام 2005 والمجلس الوطني في 2011 والائتلاف الوطني في 2012. كان هناك انشقاق مهم في الحزب الشيوعي بقيادة وصال فرحة في 2001 عندما ظهر تيار قاسيون الذي نادى بوحدة شيوعيي سوريا واتجه نحو مسار تدريجي من المعارضة تبلور في 2014 مع الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية ثم بانضمامه (تحت اسمه الجديد:حزب الإرادة الشعبية بقيادة قدري جميل) عبر منصة موسكو إلى هيئة المفاوضات التي انبثقت عن مؤتمر الرياض2 للمعارضة السورية في 2017.
في هذا الجزء الرابع والأخير من دراسة الحزب الشيوعي السوري كان هناك اعتماد أكبر على الشفوي من التوثيقي. وهذا طبيعي في تجربة تنظيمات حزبية سرية يكون فيها الشفوي أساسياً وليس الوثائق. في عام 2005، قال كاتب هذه السطور لجمال باروت بأن كتابه عن حركة القوميين العرب عومل باستخفاف من قبل قياديين بالحركة بعد قراءتهم له، مثل أسامة الهندي وسليمان الرياشي. وعندما سأل عن السبب بعد احتجاجه بأنه بذل جهداً كبيراً في التوثيق معتمداً محفوظات النائب الكويتي أحمد الخطيب الذي كان مسؤول منطقة الخليج بالحركة، أجبته بأن السبب يكمن هنا بالذات، وأن الوثائق ليست هي الأساس في التأريخ لتاريخ تنظيمات سرية بل الشفوي عند من هم كانوا في المطبخ. أصيب باروت بصدمة من هذا الكلام. وبعد فترة قال لي بأنه سيقنع خير الدين حسيب مدير مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بأن يخصص قسم للتاريخ الشفوي عند قادة تنظيمات سياسية سورية وعربية ليرووا ما يعرفوه كتابة أو صوتاً عن تجربتهم الخاصة.
لم يحصل ذلك.[1]