=KTML_Bold=لماذا استهداف الإيزيديين؟=KTML_End=
سليمان جعفر
إنّ جذور #الشعب الكردي# تمتد إلى أعماق التاريخ، وحتى الآن لم يصل أي مؤرّخ أو باحث إلى حقيقة تاريخ هذا الشعب العريق، لأنّ أغلب المراجع والوثائق، إما أُحرقت أو أُتلفت أو تمّ إخفاءها بهدف طمس معالم وتاريخ هذا الشعب الذي سيطر ولفترات طويلة على مناطق شاسعة من قارات العالم القديم (آسيا وإفريقيا وأوروبا) وقدّم للعالم الكثير من الحضارات، والأوابد تشهد على ذلك، ولكن مع الأسف ضاعت كل تلك العَظَمة والحضارة، وما تبقّى منها فقد نسبه البعض إلى قومياتهم وشعوبهم.
واليوم يحاول المثقف الكردي إزالة الغبار عن تاريخ هذا الشعب، الذي يمتد إلى فترات سحيقة، ولكن التاريخ المدوّن الموجود بين أيدينا يعود فقط إلى عشرة آلاف سنة ق.م، حيث تصدى بعض المثقفين والوطنيين الكُرد لهذه المهمة الشاقة، وهم بعملهم هذا لا يهدفون إلى إعادة إحياء أمجاد الأمة الكردية التي كانت تبسط سيطرتها (ولفترات طويلة) على المناطق الواقعة ما بين البحر الأبيض المتوسط غرباً والحدود الهندية شرقاً، وجبال قفقاسيا شمالاً واليمن جنوباً، ووصلت قواتهم لأكثر من مرة إلى إفريقيا واليونان، بل يهدفون فقط إلى أن يعرف العالم رِفعة وسمو وحضارة أمتهم ومجدها الذي كان، ومع ذلك لازال الكثيرون لا يعترفون حتى بوجود هذا الشعب.
معارك إثبات الوجود لم تتوقف يوماً، وعلى كافة الأصعدة، والمعارك المضادة لم تتوقف أيضاً، وما قزّم الكرد هو عدم ذكر بطولاتهم نتيجة الكبرياء غير المبرر أحياناً، والتواكل أحياناً أخرى، فلم يوثّقوا انتصاراتهم وفتوحاتهم، ولم يُروِّجوا لحضاراتهم، ولم يخلّدوا عظمائهم كباقي الأقوام، الأمر الذي فتح شهية الغزاة، الذين استغلوا صفاء قلوب الحكام الكرد، واتفقوا على إنهائهم، وحاولوا التشكيك بأصلهم إلى حد السخرية، فمنهم من نسبهم للجان، ومنهم من قال أنهم أتراك الجبال ومنهم من أعاد أصلهم إلى العرب، ومنهم من قال بأن الكرد ليس لديهم لغة خاصة، بل لغتهم عبارة عن خليط من اللهجات.
إن اللغة الكردية كانت لغة الشعوب القاطنة في منابع دجلة والفرات حتى الخليج الفارسي، وكان مركز هذه اللغة آرارات ثم انتقل إلى زاغروس فأصفهان فالمدائن، حتى أن الكرد كانت لهم أحرف للكتابة خاصة بهم ابتدعها (ماسي سورات)، تحولت إلى الأحرف العربية بعد مجيء الإسلام.
ولكن مع الأسف فبدخول الإسكندر الكبير عام 331 ق.م، الذي استولى على الكتب الكردية النادرة، ومنها النسخة الأصلية لزند آفستا، وحملها معه إلى اليونان، واستفاد منها فلاسفة اليونان، الذين اعترفوا بأن زردشت معلمهم، وبعد ذلك في عام 637م أرسل الخليفة الإسلامي الثاني عمر بن الخطاب جيوشه إلى كردستان واحتلها، قام هذا الجيش بإحراق كافة المكتبات الكردية فاحترقت آلاف الكتب النادرة ومن مختلف العلوم والاختصاصات.
كان الأعداء يتسابقون للقضاء على لغة وثقافة وديانة الكرد بكل الطرق والوسائل، لأن استمرار وجودها يعني القضاء على أحلام المستعمر في السيطرة على كردستان، ومع فشل المستعمرين في مساعيهم، بدأوا بالنفاذ بين الكرد لإحداث التفرقة بينهم، فاستمالوا قسماً من الكرد إليهم بعد اعتناقهم للدين الإسلامي (البعض بالإرغام والبعض الآخر طواعية)، وقسماً آخر بتقديم الإغراءات المادية لهم بطرق شتى، وبقيت أمامهم عقبة واحدة، ألا وهي تمسّك قسماً منهم وهم الإيزيديين بديانتهم وعدم اعتناق دين آخر تحت أي ظرف.
ولأن المستعمر يعلم جيداً أن القضاء على الكرد واحتلال كردستان، سيتحقق لهم ذلك بعد القضاء على الإيزيديين، فبدأت حملات الإبادة تُلاحق الكرد الإيزيديين منذ اللحظات الأولى لسقوط إمبراطورية ميديا، بدءاً من حملة الإسكندر الكبير ولغاية اليوم، وتتالت الحملات العسكرية التي كانت تحلم باقتلاع الإيزيدية من جذورها، وكانت تتخلل تلك الحملات محاولات جس النبض، والبحث عن وسائل إضافية تساعدهم في تسريع إنهاء وجود الإيزيديين، فكان العدو يعمل جاهداً لضرب أسس هذه الديانة الكردية الأولى بالتشكيك بمعتنقيها وزرع الفتن بينهم وبين بقيّة الكرد، فكان يشيع بأن هناك قبائل غير كردية تعتنق هي أيضاً الديانة الإيزيدية، كل ذلك لم يكن قادراً على التأثير على قرار الإيزيديين بعدم التخلي عن عقيدتهم.
وأقسى تلك الحملات كانت في العهد العثماني، حيث شنّ العثمانيون اثنتين وسبعين حملة إبادة، وتابع أحفادهم تلك الحملات، حيث كان الفرمان الثالث والسبعين الذي ضرب سيبا شيخ خضر، وتل عزير عام 2007 على يد تنظيم القاعدة تنفيذاً لمطالب الدولة التركيّة، وجاء الفرمان الرابع والسبعين في 03-08-2014 من أشد وأقسى الفرمانات على مر العصور، بدعم وتدريب وتسليح وإيواء وتنظيم وتمويل وعبور من وإلى تركيا، وفق تعليمات الرئيس التركي مباشرةً، ولم يكن داعش الإرهابي سوى الأداة المنفذة للأوامر الصادرة من القصر الرئاسي التركي.
كثيراً ما كنا نستمع إلى تعليمات القائد التاريخي لشعبنا عبد الله أوجلان، ولكن للأسف لم نصل لمستوى فكري يمكننا من فهم وتحليل ما يرمي إليه القائد، ليتضح بعد فترة كم كنا سُذّجاً، ولكن بعد فوات الأوان.
في نهاية عام 1990 كان لنا شرف اللقاء بالقائد التاريخي لشعبنا، للبحث في أمور تخص ديانة الأجداد والآباء، ولازالت كلمات القائد نبراساً نهتدي بها حيث قال: “الإيزيديون كُرد أصلاء، حافظوا على ديانتكم بكل قوة، فالإيزيدية هي خزينة الأدب والفن الكردي، وإذا اختفت الديانة الإيزيدية عن الوجود، لن يمر وقت طويل حتى تختفي اللغة الكردية عن الوجود”.
فكما درس القائد أوجلان التاريخ الكردي بتمعّن، كذلك الأتراك أيضاً درسوا تاريخنا جيداً، ويدركون أنه لا يمكن تحقيق حلمهم المتمثل بإعادة أمجاد السلطنة العثمانية إلا بعد القضاء على الكرد بشكلٍ عام، والكرد الإيزيديين بشكلٍ خاص، وأن خير وسيلة لتحقيق ذلك هي اتباع السياسة الاستعمارية “فرّق تسد”، فبدأوا بمحاولات شاقة لإزالة الديانة الإيزيدية من الوجود. ولو قُدّر للفرمان الرابع والسبعين النجاح لكانت الكردية في خطرٍ كبير، وكانت الإيزيدية الآن في خبر كان، لأن أردوغان كان قد عقد على هذا الفرمان أحلاماً كبيرة، أهمها وضع التاج السلطاني على رأسه.
في خضم حملات القضاء على الإيزيدية، كان لبعض الكرد مساعٍ كبيرة لا تقل حقداً عن العدو، وقد يستغرب البعض عندما يرون أفعال هؤلاء الذين يدّعون الأخوّة و”الكردوارية” والتي ترقى إلى مستوى الخيانة العظمى، ولكن الإيزيديين قد لا يأبهون لذلك، لكثرة الويلات التي ذاقوا مرارتها على أيد أخوة من ذاك القبيل، والأمثلة أكثر من أن تحصى.
بعد أن أصدر الشيخ أحمد أبو السعود العمادي مفتي السلطنة العثمانية أيام السلطان سليمان القانوني (1520- 1566م)، فتوى حسب المقاس الذي يريده العثماني المستبد، مفادها بأن من يقتل إيزيدياً سيدخل الجنة مهما كانت ذنوبه كبيرة، وعندما كان الأمير المتشدد محمد الراوندوزي (الذي أطلق عليه الكرد تسمية، الأمير الأعور Mîrȇ Kor) منتشياً بالانتصارات التي كان يحققها، طابت له أجواء الجنة بحورياتها وأنهار الخمر فيها، فقرر الخوض في سبيل الجنة، وكان ثمن الجنة المزعومة ما يقارب مائة وخمسة آلاف شهيد إيزيدي في الفترة من 1832- 1834م، وسبي أكثر من ثلاثين ألف فتاة وامرأة كردية إيزيدية (من بنات جلدته)، ووزعهن على جنوده قائلاً: أقضوا أوقاتاً ممتعة في أحضان هذه السبايا الملحدات، ولا أستغرب أن داعش يعتبرون الأمير الأعور قدوةً لهم في السبي والنخاسة”.
الكرد الإيزيديون يقولون بأن الفرمان الرابع والسبعين قد تم التخطيط له ليكون آخر فرمان وتكون الإيزيدية بعدها في خبر كان، ولكن حساباتها لم تُحقق أحلامهم.
فقد نشرت بعض المواقع الإخبارية بأنه جرى اجتماع ممثلين عن تركيا وقطر والسعودية والعراق ومستشار الرئيس البرزاني في 1/6/2014 في العاصمة الأردنية عمان، لوضع مخطط لاحتلال الموصل والقضاء على الإيزيديين، وما يحزُّ بالنفس أن المدعو فاضل ميراني مستشار مسعود برزاني كان أحد عرّابي مخطط هجوم داعش على شنكال (أكبر تجمّع إيزيدي في العالم)، عندما وقّع على صك إنهاء الإيزيديين مقابل الوعد بالسيطرة على نفط كركوك، أتبعها قادة حزبه (الديمقراطي الكردستاني) بالإيعاز للبيشمركة بالانسحاب من شنكال فور وصول طلائع داعش إلى أطراف شنكال، وهذا ما حصل، وقبل أن يغطي غبار عجلات أصحاب اللحى والسراويل القصيرة سماء شنكال، كانت طوابير البيشمركة تولي الأدبار من شنكال، تاركةً شعبها الأعزل يواجه أعتى قوة إرهابية في العالم.
لن ينسى إيزيديو شنكال تخلّي الحزب الديمقراطي الكردستاني عنهم، عندما سحب الأسلحة الفردية من الأهالي، ومنع دخول المحروقات إلى شنكال قبل أسبوع، ما يؤكد بأن الحزب الديمقراطي الكردستاني متورط حتى النخاع في محاولات القضاء على الإيزيدية (لسان حال الشنكاليين الذين التقينا بهم بعد تحرير شنكال).
بعد كسر ظهر داعش وداعميه، وتحرير شنكال على يد وحدات حماية الشعب والكريلا واتحاد المرأة الحرة، تشتت قوات داعش وتشتت معها عقول الذين قدموا شنكال لداعش على طبقٍ من ذهب.
المتآمرون على الكرد عامةً وعلى الإيزيديين خاصةً تابعوا في خططهم الرامية لإنهاء ثورة الحرية، بالاستمرار في زرع الفتن بين شعوبها، والانتقام لداعش المتقهقر، فاحتضنت تركيا فلول داعش، وأعادت تسليحهم وتدريبهم استعداداً لتجديد حلم أردوغان بأن يصبح سلطاناً، ولم يهدأ البرزاني المتحكم بموارد إقليم كردستان يوماً، لاسيما وأنه يحلم مثل صديقه أردوغان في أن يصبح رئيساً لكردستان، فحرّض وأوعز للمجلس الوطني الكردي للوقوف إلى جانب صديقه والمرتزقة الذين باعوا الثورة السوريّة للانقضاض على عفرين الآمنة، فدخلوها كالجراد ودمّروا الحجر والبشر والشجر.
من أهم أسباب حقد تركيا على حركة الحرية لهذه الدرجة، لأنها الحركة الوحيدة التي تجرأت وحملت السلاح في وجهها لانتزاع حقوق شعوب المنطقة منها، وتحالف البرزاني مع تركيا للقضاء على الإيزيديين فلأنهم يرفضون الانصياع والرضوخ له، فكان أن استمرا في القضاء على حركة حرية كردستان ومعتنقي الديانة الإيزيدية، وعندما وصل المرتزقة إلى مدينة عفرين كانت باكورة أعمالهم القذرة تدمير تمثال البطل الكردي الأسطوري كاوا الحداد، وفي اللحظة نفسها؛ كان فريق آخر يدمّر مبنى جمعية الإيزيديين وتحطيم تمثال النبي الكردي زردشت، واتبعوها بنبش وتدمير كل المزارات الإيزيدية، وسرقة اللُقى الأثرية والأوابد التاريخية الكردية إلى تركيا. وزادت تركيا ضغطها على اصحاب الأرض الحقيقيين لإرغامهم على مغادرة عفرين لجلب التركمان من كل حدبٍ وصوب بهدف تغيير تركيبة المنطقة.
ولزيادة فرض هيمنتها، حرضت تركيا مرتزقتها لمنع الكرد من الاحتفال بعيدهم القومي نوروز، وقد استشهد أربعة شبان كُرد، ما لبثت أن أشعلت فتيل الثورة من جديد، ولكن شريك أردوغان، لم يخذله، فأوعز إلى قادة المجلس الكردي بأن يُنهوا التظاهرات.
بالتزامن مع ما حدث في جندريسه، فقد كان قسم آخر من المرتزقة في مكانٍ آخر يُرغمون الإيزيديين لتغيير دينهم والتحوّل إلى الدين الإسلامي بالإكراه.
الوقائع كلها تشير إلى أن كل محاولات الدولة التركية وأعوانها ومن لف لفيفهم ستبوء بالفشل نتيجة صمود شعبنا والتفافه حول قيادته المناضلة وقواته الوطنية.[1]