=KTML_Bold=العلاقات المصرية الكردية مدخل لمواجهة التحديات الإقليمية 1=KTML_End=
د. طه علي أحمد (باحث في شؤون الشرق الأوسط وسياسات الهوية)
إن التحولات، التي تشهدُها منطقةُ الشرق الأوسط تفرض على الجميع إعادة النظر في العديد من الإشكالات، التي ترسَّخَت بشأنها صورٌ ذهنيةٌ تتناقض مع جوهرها؛ فالتحديات الشاملةُ التي تواجهها شعوب المنطقة، والتي تُعَبِّرُ عنها حالةُ التكالب الدولي Scrambling للسيطرة على المنطقة يُنْذر بمخاضٍ موازٍ على مستوى النظام العالمي، بعد أن بلغَ ذُروَته بعد عقدٍ من الزمان، حيث تشكَّل النظام الإقليمي بالشرق الأوسط كجزءٍ من مُخرجات الحرب العالمية الأولى (1914 – 1917م). رغم ذلك، يقف العقل الاستراتيجي الجمعي في الشرق الأوسط أمام مُعضلة القراءة الواعية للتحولات العميقة في المنطقة من المنظور الوقائي، الذي يقوم على تقوية المناعة المجتمعية community-wide immunity. لبلدان الشرق الأوسط في مواجهةِ المشاريع المتصارعة للسيطرة على المنطقة. وفي إطار المعضلة السالفة الذكر تبرز أهميةُ التقارب بين شعوب الشرق الأوسط؛ لضمان حَشدِ الولاءات Loyalties بين مكونات التنوع العرقي Racial diversity الذي تزخر به المنطقة (عرب، وكرد، وأرمن، وآشوريون وغيرهم) لضمان التماسك في مواجهة التحديات الإقليمية الراهنة.
في هذا الإطار، فإن وجود مشروعٍ قائم على دعم التعايش بين هذه المكونات سوف يظل بمثابة “الحتمية التاريخية” لضمان أمن ومستقبل شعوب المنطقة، لاسيما وأنها شهدت خبرةً تاريخيةً عميقةً من شأنها أن تُعَزِّزَ أي جهود جادة في هذا الصدد.
ففي هذا السياق أيضا، تقفز إلى الأذهان خبرةٌ ثريةٌ للتعايش بين الشعب المصري والكردي، كاثنين من الشعوب التاريخية في الشرق الأوسط، إذ توفرت لديها عددٌ من المقومات الداعمة للتكامل، التي يقف في مقدمتها طبيعةُ الشخصيةِ المصريةِ المنفتحة على الآخر، (أي غير المتحفظة)، وكذا الشخصية الكردية، التي تَمَكَّنت من الاندماج مع الشخصيةِ المصرية ما أسهم في خلق تلاقحٍ بنَّاء ظهرت آثاره على مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية، والسياسية كما سيتبين في السطور القادمة.
بجانب ذلك، هناك البُعْدُ الديني (الإسلامي تحديداً)، وتوازي المسارات السياسية بين المصريين والكرد وليس تقاطعها، وقد أسهمت المقومات السابقة وغيرها في خَلْقِ نموذجٍ فريدٍ للعلاقات المصرية الكردية بما يُمَكِّن البناء عليها في مواجهة التحديات الإقليمية بالشرق الأوسط.
=KTML_Bold=الجذور التاريخية للعلاقات المصرية الكردية=KTML_End=
تضرب العلاقات المصرية الكردية بجذورها في أقصى العُمْقِ التاريخي للشعبين المصري والكردي، فوفقاً لوثائق مسمارية مُدَوَّنة على قوالبٍ طينيةٍ، يرجع تاريخُها لأواسط الألف الثاني قبل الميلاد؛ فقد نشأت روابط قوية بين الفراعنة والكُرد، الذين كان يطلق عليهم تاريخياً “الميتانيين” (نسبة إلى الحضارة الميتانية، التي قامت في منطقة ما بين النهرين (سوريا والعراق اليوم)، التي أُسَّسَت في الألفية الثانية قبل الميلاد، وازدهرت خلال القرنين الخامس عشر، والرابع عشر قبل الميلاد، وكانت عاصمتها تدعى “واشو كاني”). ففي عَهْدِ الأسرة الثامنة عشر (التي تعرف ب الدولة الحديثة في التاريخ المصري القديم)، توطَّدت العلاقات بين ملك مصر “تحتمس الثالث” (1481 ق.م – 1425 ق.م) مع الميتانيين، حيث تكشِف وثائق “تل العمارنة” عن رسائل متبادلة بين تحتمس الثالث، والملك الميتاني “تواشراتا” (1365 ق.م – 1335 ق.م)، ابن ارتاتاما” (1425 ق.م – 1400 ق.م)، حيث تزوج الملك المصري من امرأةٍ ميتانية هي “جيلوجيا”، (تعرف في التاريخ المصري باسم “موت أم ويا” التي حملت ألقاباً عديدة مثل “زوجة الإله”، و”ربة الأرضين” و”الأم الملكية العظيمة” وغيرها، وقد أنجبت له ابنه الملك تحتمس الرابع، الذي في عهده عقدت المعاهدات والمصالحات كوسيلة للتعامل مع مصر كحليف مهم لها، وقد تضمَّنَت واحدةً من هذه المعاهدات تسليم مصر بحقوق مملكة ميتاني في شمال سوريا، بينما اعترف الميتانيون بحق مصر في الهيمنة على جزء من ساحل سوريا وكُل جنوب سوريا، وقد كانت هذه المعاهدة سبيلاً لإقرار السلام لفترات طويلة بين الجانبين.
كما أظهرت الكشوفات الأثرية عن وجود تمثال للملك المصري توت عن آمون (1724 ق.م – 1233 ق.م) في قلعة فرعون بوادي دهوك (في محافظة دهوك بإقليم كردستان العراق حاليا). كما أسفرت هذه العلاقات المبكرة عن تبادل الكثير من العلاقات الدينية بين الكرد والمصريين.
لقد تنقَّلت مصر بين حِقَبٍ تاريخيةٍ متتاليةٍ شهدت خلالها تدخلات العديد من أشكال الوجود الاستعماري بداية من الاحتلال اليوناني في عام332 ق.م ولمدة 120 سنة، ثم الروماني عام 30 ق.م بداية من عهد نيرون عام 51م، حتى جاء عهد الامبراطور قسطنطين عام 324 م. وفي إطار هذا التعاقب الاستعماري، تعرضت العلاقات المصرية الكردية للتراجع بفعل العوامل الاستعمارية، حتى جاءت الحقبةُ الإسلاميةُ، التي كان للكرد فيها حضور في المنطقة العربية بشكلٍ عام، وكانوا قد اعتنقوا قبل ذلك الديانة الزرادشتية، ثم دخلوا لاحقاً في الإسلام. غير أنه مع اتساع رقعة الفتوحات الإسلامية فشملت مناطق كردستان، ثم لعب الكرد دوراً حضارياً لاسيما وأن الاسلام جاء برؤيةٍ مجتمعيةٍ، تقوم على استيعاب المكونات المجتمعية المتنوعة، فهذا سلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، بين صحابة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).
=KTML_Bold=التمازج السياسي المصري والكردي=KTML_End=
رغم تعدد موجات الوافدين إلى مصر، إلا أن صفات المصريين لم يطرأ عليها أية تغيرات عميقة من شأنها أن تُبَدِّلَهُم بشكلٍ تام، بل أضافت للمصريين، وهو ما يرصده العالم الجغرافي والمفكر المصري سليمان حزين، في اختلاط الدماء والمميزات الجنسية وصولاً إلى كتلةٍ بشريةٍ مُتَمازجة، فالمصريون ليسوا مُؤلَّفين من “شعوب مختلطة”، وإنما هم شعبٌ واحد اختلطت فيه الصفات الجنسية، وتعدَّدت مصادر الوراثة، وهو ما يعده سليمان حزين أحد أسرار قوة الشعب المصري، ومصادر حيويته ومقدرته على أن يحتفظ بشخصيته.
وقد انعكس ذلك على السَمْتِ الشعبي للمصرين، والذي ساعدهم على استيعاب كل وافدٍ رغم خروج القوى الاستعمارية، لتبقى الهجرات الشعبية بُمْختَلفِ تنوعاتها العرقية بين المصرين، كالكرد، والأرمن، والأمازيغ، والشركس وغيرهم، مع عدم وجود أي تعارضٍ بين الأصل العِرقي لهذه المكونات والتكامل مع النسيج الاجتماعي المصري. ولهذا، فمن السهل أن نرصد أعدادا لا نهائية من الكُرد، ممن أسهموا بقوة في التاريخ المصري في المجالات الثقافية، والسياسية، والاجتماعية وغيرها. فبجانب حالة الملك تحتمس الرابع، الذي أنجبته أمٌ ذات أصول كردية، برزت خلال “العصر الفاطمي” (909 م – 1171م) شخصيات كبيرة مثل أحمد بن الضحَّاك، أحد الأمراء الكرد، الذي تولى دورا بارزا في الجيش المصري في عهد الخليفة الفاطمي العزيز بالله (931م – 975م) والذي يقود إليه الفضل في اندحار جيوش الروم في الشام، وبرز أيضا الملك العادل أبو الحسن سيف الدين على بن السالار ( 548ﮪ/1153م) وزير الخليفة الفاطمي الظافر بأمر الله (1149م – 1154م) وكان بن السالار واليا على الاسكندرية إلى أن قتل سنة 1153م، وهو الذي بنى المدرسة الشافعية بالإسكندرية.
وخلال العهد الأيوبي، حَكَمَتُ الأسرة الأيوبية ذات الأصول الكُردية مصر وتركت فيها آثاراً عميقةً في الثقافة والسياسة. فبعد أن تمَكَّن صلاح الدين الأيوبي (532 – 589 ﮪ / 1138 – 1193 م)، ذو الأصل الكردي، من إنهاء حكم الفاطميين، أقام دولته الأيوبية بداية من عام 567 ﮪ / 1174 م، ثم انطلق لتوحيد بلاد الشام، وتمكَّن من هزيمة الصليبيين في موقعة حطين يوم السبت 25 ربيع الثاني 583 ﮪ الموافق الرابع من يوليو 1187 م التي مَهَّدت لتحرير مدينة القدس في الثاني من تشرين الأول 1187 م. وفي ظل حكمه، أقام صلاح الدين نهضةً كبيرة، حيث قام ببناء العديد من المستشفيات، والمدارس، والمساجد، وعَضَّد أركان الدولة فترامت أطراف الدولة الأيوبية من جنوب مصر بالنوبة إلى بلاد الأرمن شمالاً، ومن الجزيرة والموصل شرقاً إلى برقة غربا. وقد ساعدت هذه الأجواء على هجرة العديد من العائلات الكردية إلى مصر بعيداً عن خطر المغول الذي كان يواجه مناطق تواجدهم في كردستان.
كما لعب الكُرد دورا كبيرا في الميدان العسكري وخاصة في العصر الأيوبي حيث أصبح لهم الريادة في قيادة الجيش وإدارة البلاد. كما برزت في هذا الإطار “القوات الشهرزورية”، وهي فرقة عسكرية من الكرد من منطقة شرزور في باشور كردستان “شمال العراق”، والتحقت بالجيش المصري في مواجهة المغول بموقعة “عين جالوت” وكان لهم دور في تحرير الشام.
بجانب ذلك، ففي ناصية تاريخية متميزة، يقف الوالي محمد علي الذي يعرف بكونه مؤسس مصر الدولة الحديثة، والذي ينتمي لأسرةٍ كُرديةٍ ترجع جذورها إلى مدينة آمد/ ديار بكر (باكور كردستان)، كما كشفت ذلك إحدى حفيدات الأمير محمد علي عام 1949م لمجلة المصور المصرية. وخلال حكم محمد علي اتسعت الصلات الكردية المصرية حتى أنه حينما زحف الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا، قامت العشائر الكردية (عشائر الملي الكردية) بقيادة الأمير “تيماوي الملي”، وهو أحد أمراء أعالي ما بين النهرين وسليل عائلة كردية، بدعم ومساندة قوات إبراهيم باشا، بن محمد علي وقائد الجيش المصري، في مواجهة العثمانيين. وفي المقابل، يذكر أن الكرد قد استفادوا من صناعة الأسلحة، التي ازدهرت بمصر في هذه الأثناء فانتعشت صناعة الأسلحة في مقدينة رواندوز (بمحافظة أربيا، كردستان العراق).
ويُذْكَر أن الوالي محمد علي قد اعتمد على العناصر الكردية في تثبيت دعائم سلطته على مصر، فكان “حجو بك” الذي أصبح في مرحلة ما الساعد الأيمن لمحمد علي في تأسيس الدولة المصرية، كما ظهر شاهين باشا على أغا، ذو الأصل الكردي، الذي تدرج في الرتب العسكرية حتى تولى وزارة الحربية في وزارة محمد شريف باشا سنة 1879م، وهناك أيضا (تيمور كاشف) محمد بن إسماعيل بن علي، الذي كان من خاصة محمد علي، حيث أُسْنِدَت له ولاية المدينة المنورة لمدة خمس سنوات. وهناك أيضا شخصيات كردية أخرى لمعت في ظل حكم محمد علي، ومنهم إسماعيل حقي باشا، وعلى رضا بك المعروف بالكردي، وعباس البازارلي، وكلهم قدموا خدمات جليلة لإدارة الدولة في عهد أسرة محمد علي باشا.
=KTML_Bold=تمازج الفكر والثقافة عند المصريين والكرد=KTML_End=
رُغم وضوح هذا الحضور لذوي الأصول الكردية في التاريخ السياسي المصري، إلا أن الأمرَ يبدو أكثر وضوحاً في ميادين الفكر والأدب والثقافة، فقد لمعت الكثيرُ من الأسماء المصرية من ذوي الأصول الكردية، والتي أسهمت في إثراء الحياة الثقافية وتشكيل الوجدان المصري وفي مقدمةِ هؤلاء يمكن الإشارة إلى واحدٍ من أشهر قُرَّاء القرآن الكريم في مصر والعالم الإسلام، وهو الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، الذي وُلِدَ لأسرةٍ مصريةٍ ذات أصولٍ تركيةٍ في صعيد مصر (محافظة قنا، مركز أرمنت)، وغيره من رموز الفكر والثقافة مثل الشيخ محمد عبده أحد مُجَدَّدي الفكر الديني في القرن العشرين، والكاتب الشهير عباس محمود العقاد، والأديب محمود تيمور، واخته الأديبة عائشة تيمور، والمفكر قاسم أمين أشهر من قادِ حركة تحرير المرأة في مطلع القرن العشرين، وأمير الشعراء أحمد شوقي، والكاتب الصحفي محمود السعدني، وشقيقه الممثل الشهير صلاح السعدني وغيره من الممثلين والمطربين مثل محمود المليجي، وعادل أدهم، وأحمد رمزي، وسعاد حسني، والموسيقي عمر خورشيد، وشقيقته الممثلة شريهان، والمخرج أحمد بدرخان وابنه علي من رواد السينما المصرية، وغيرهم ممن أسهموا في تشكيل الوجدان المصري، وجميعهم من ذوي أصول كردية، رغم أن ذلك قد لا يبدو شائعاً بين جماهيرهم.
كما وصل التمازج بين الكرد والمصريين إلى حد إطلاق التسميات الكردية على العديد من المناطق والقرى المصرية؛ فهناك قرية “منشأة الكردي” في محافظة الغربية، و”بنو زايد الأكراد”، و”جزيرة الأكراد” في صعيد مصر، ومدينة “الكردي”، و”كفر الكردي”، و”ميت الكردي” في محافظة الدقهلية.
الأزهر هو الآخر له نصيبٌ من التشابك المصري الكردي فخلال عهد السلطان حسين بن السلطان حسن (940-981ﮪ/1533-1573م) أمير بادينان، وهي واحدة من أقدم الإمارات، التي استقلت في العهد العباسي في باشور كردستان (شمال العراق) عام 1367 م، تم إنشاء مدرسة شهيرة عرفت باسم (قبهان) وكان في العاصمة ناميدي، وكانت لها صلات قوية بالأزهر حيث اتبع الأزهر والمدرسة المذهب الشافعي. وكمؤسسة علمية ودينية عريقة في المجتمع المصري، ومع تعدد الأروقة، التي خُصِّصَت للدراسة مثل رواق الصعايدة، ورواق الأفارقة، ورواق المغاربة والأتراك والشوام، كان هناك رواق الكرد، الذي تطور وتحول لاحقاً لإطار مؤسسي يقوم بدور في دعم الطلاب الكرد الدارسين في الجامعات المصرية، وتقديم المساعدات المالية، والهبات لهم وإتمام دراستهم.[1]