=KTML_Bold=العلاقات المصرية الكردية مدخل لمواجهة التحديات الإقليمية 2=KTML_End=
د. طه علي أحمد (باحث في شؤون الشرق الأوسط وسياسات الهوية)
في الجزء الأول من العلاقات المصرية الكردية كمدخل لمواجهة التحديات الإقليمية تم التطرق إلى محاور عدة؛ الجذور التاريخية للعلاقات المصرية الكردية، التمازج المصري الكردي على المستوى السياسي، التمازج المصري الكردي في الفكر والثقافة، ليتم استكمال محاور أخرى في الجزء الثاني.
=KTML_Bold=العلاقات المصرية الكردية في القرنين التاسع عشر والعشرين=KTML_End=
منذ أواخر القرن التاسع عشر، مَثَّلت مصر ملاذا للعديد من الشخصيات الكُردية التي فرَّت من اضطهاد السلطات العثمانية ولعل أشهرهم كانوا ممن ينتمون لعائلة بدرخان، حيث وجدوا في مصر بيئةً مثاليةً بحكم الانفتاح الثقافي والنهضة الفكرية التي اجتاحت مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي قادها شخصيات عديدة بداية من رفاعة الطهطاوي (مؤسس النهضة التعليمية في مصر) وعلي مبارك (الذي يلقب ب أبو التعليم)، ثم جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده وتلاميذه عبد الله النديم وسعد زغلول وقاسم أمين وغيرهم. وكانت الصحافة في مصر قد شهدت انتعاشة من خلال عدد من الصحف التي تعددت خلال هذه المرحلة وأبرزها صحيفة “اللواء” و”المؤيد”، و”الأهرام”. وفي هذه الأجواء، أُسَّست في مصر أول مطبعة كردية باسم “كردستان” وقد أسسها الشيخ فرج الله زكي الكردي، وكانت أولى الكتب التي قدمتها هذه المطبعة بعنوان “تأويل مختلف الحديث” الذي كتب عام 1306 ه – 1889 م.
و”مؤسسة دار الهلال الصحفية” التي أصدرت في 22-04-1898م أول صحيفة كردية تحت مسمى “كردستان”، وهو اليوم الذي صار لاحقاً عيداً للصحافة الكردية، وكانت تكتب باللغة الكردية، اللهجة الكرمانجية المستخدمة على نطاق واسع بين الكرد في تركيا وسوريا وأجزاء من العراق وإيران، وشملت أيضا كتابات باللهجة الصورانية المستخدمة من قبل قسم من الكرد في إيران والعراق. وقد لعبت هذه الجريدة دورا مهما في التعبير عن أيديولوجية الحركة الكردية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. كما صدرت في مصر أول ترجمة عربية لكتاب “شرف نامة” لمحمد علي عوني من اللغة الفارسية، وكتاب تاريخ الكرد وكردستان لأمين زكي من اللغة الكردية.
=KTML_Bold=ثورة يوليو والتضامن المشترك بين الكرد والمصريين=KTML_End=
امتدادا لما سبق، شهد القرن العشرين طفرة في العلاقات الكردية المصرية في القرن العشرين، وذلك تأثراً بأجواء الكفاح ضد الاستعمار التي سادت النصف الأول من القرن العشرين، وقد مثلت هذه الأجواء بيئةً حاضنة للتقارب بين الشعبين المصري والكردي، لاسيما وأن كليهما كان يرزح تحت سيطرة السلطات الاستعمارية (العثمانية والبريطانية) فتقاسم الكُرد والمصريون المعاناة نفسها، الأمر الذي انعكس على وجود درجةٍ كبيرةٍ من التقارب فيما بينهما في مراحل مُهمة بالقرن العشرين، فبعد قيام ثورة 23-07-1952م على يد مجموعة من الضباط الذين رفعوا شعار تحرير الشعوب من سيطرة القوى الاستعمارية بقيادة الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر (1918 – 1970م).
الثورة المصرية لقيت تأييداً ومساندةً من جانب الحركة الكردية في باشور كردستان (إقليم كردستان/ شمال العراق)، وقد نبع ذلك الموقف من إدراك الكرد بأن الأنظمة الملكية العربية تقف عائقا أمام تحقيق طموحات الكرد وأهدافهم كما أن الحركة الكردية والثورة المصرية قد اتفقتا على مناهضة الاستعمار والأحلاف العسكرية. وكانت التنظيمات السياسية الكردية الأبرز في العراق هما الحزب الديمقراطي الكردي بقيادة الملا مصطفى البارزاني الذي أبدى تأييده للثورة المصرية، حيث صرح في حديث لجريدة الأهرام المصرية أن “نبأ قيام الثورة المصرية قوبل بفرحة غامرة في الأوساط الكردية لأن فيها انتصاراً لشعوب المنطقة”. وقال البارزاني: إنهم يحفظون كل كلمة يقولها الرئيس عبد الناصر، فالقاهرة الثائرة مركز الإشعاع لشعوب الشرقين الأدنى والأوسط.
أما الحزب الثاني، فكان الحزب الشيوعي الذي لم يكن يختلف عن توجه الحزب الأول، حيث كان الحزب الشيوعي يرفع شعار “إسقاط العائلة المالكة” معتبرا أن ما حصل في مصر (أي ثورة يوليو) سيكون حتما بداية التغيير في النظام العالمي في العراق والأنظمة الأخرى في المنطقة. وخلال تأجُّجِ سياسةِ التحالفات التي عبَّر عنها ملف بغداد الذي ضم العراق وتركيا وإيران مع بريطانيا واتخاذا موقف مناهض منها، تعمق التوافق بين التوجهات الكردية في السياسة المصرية الرافضة لحلف بغداد. فالكرد شاركوا في الحركة المعارضة للتحالف الذي يضم دول أضرت بالقضية الكردية، فكانوا (أي الكرد) في مقدمة معارضي “حلف بغداد”. وخلال العدوان شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر في عام 1956، انخرط الكرد مع الجماهير الغاضبة وفي الحراك الحزبي السياسي المعارض لها، كما اتسع نطاق التضامن الكردي ليشمل مجال الأدب فكتب الأديب الكردي معروف برزنجي قصة بعنوان “اللحن والكيان”، وكتب الأديب محمود مولود قصة بعنوان “عندما كانت أمي صائمة”.
في هذا السياق، كان من الطبيعي أن تنطلق من مصر أصوات الدعم لنضال الكرد من أجل تقرير مصيرهم. ففي مصر أُطْلِقَت إذاعةٌ أو قسمٌ بالإذاعة المصرية ناطقة باللغة الكردية في عام 1957م، وكانت تهتم بنشر مظاهر وجوانب الثقافة الكردية من شعر وموسيقا وأغانٍ، حتى أن ذلك قد أزعج السلطات التركية التي دأبت على مناصبة الكرد العداء حيث احتجَّ السفير التركي لدى الرئيس جمال عبد الناصر، فقال له الرئيس: “معلوماتي تفيد بأنه لا وجود للكرد في تركيا كما تقولون، وأن هؤلاء الذين يوصفون بأنهم كرد ما هم إلا أتراك جبليون، لماذا إذن أنتم غاضبون من إذاعة كردية، فسكت السفير التركي ولم يعلق”. وقد ظَلَّ بَثُّ هذه الإذاعة مُستمراً حتى وفاة الرئيس عبد الناصر في عام 1970م.
رغم هذا الزخم الذي ساد النصف الثاني من القرن العشرين، فيما يخص التضامن المصري مع الكرد في مواجهة الاستعمار الأوروبي، لكن ذلك لا يمنع وجود جذور لهذه الروح التضامنية المشتركة قبل ذلك بنحو مائة وخمسين عاماً؛ فهذا الطالب الأزهري ذات الأصل الكردي، المسمى ب “سليمان الحلبي” يتأثر بالإهانة التي لحقت بمؤسسته الدينية (الأزهر) على يد الفرنسيين، فيخطط ويدبر لاغتيال قائد الحملة الفرنسية، وخليفة نابليون الجنرال جان بابتيست كليبر (1753 – 1800). وينسب سليمان الحلبي لعائلة كردية ترجع لقرية كوكان التابعة لمنطقة عفرين شمال غرب حلب، ونتيجة لاغتياله كليبر قضت محكمة فرنسية بإعدامه في حزيران 1800م.
مع تعاقب نظم الحكم في مصر منذ سبعينات القرن العشرين، شهد الاهتمام بالقضية الكردية قدرا من التذبذب وذلك على خلفية انشغال مصر بحرب اكتوبر 1973م، وانخراطها في “عملية السلام” وما أعقبها من توترٍ في علاقات مصر الإقليمية بحكم التباين في الرؤى بشأن “عملية السلام” مع إسرائيل، وغير ذلك من المعطيات التي أسفرت عن تراجع نسبي للاهتمام المصري بالقضية الكردية خلال سبعينات وثمانينات القرن العشرين. لكن منذ التسعينات عاد الاهتمام بالشأن الكردي ليفرض نفسه على دوائر النُخَب المثقفة في مصر، وانْصَبَّ الاهتمامُ هذه المرة على محور “الحوار العربي الكردي” الذي تعددت جولاته التي انطلقت من العاصمة الفرنسية باريس في تشرين الأول 1992م، والتي شارك فيها عدد من المثقفين المصريين، وأُعيدت بالقاهرة في أيار 1998م ثم أعقبتها جولات مماثلة في دول أخرى كان للمصريين نصيبٌ من المشاركة فيها.
=KTML_Bold=ملاحظات حول العلاقات المصرية الكردية=KTML_End=
لقد أسهمت الطبيعة المعتدلة للشخصية المصرية بدورٍ كبيرٍ في استيعاب كُلِّ مَنْ تفاعل معها بثراء، وقد أسهم ذلك في إرساء تجربةٍ ثريةٍ وخَلْقِ نموذجٍ فريدٍ للتعايش الثقافي، بل إن التداخل والتوافق السياسي الذي كشفت عنه خبرةُ المواقف المصرية مع القضية الكردية بعد ثورة 23-07-1923م، وأيضاً الدعم الكردي لأزمات مصرية كبرى كما حدث أثناء أزمة العدوان الثلاثي، إن كل ذلك وغيره يجعل التقارب المصري الكردي “حتميةً” يفرضها التاريخ والجغرافيا، بل والامتزاج الثقافي الذي تحقق منذ أن وُجِدَ الشعبان المصري والكردي حتى اليوم.
يتعزز هذا التقارب المنشود بالواقع الأمني المضطرب للبيئة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، والتي تجعل من التقارب والوحدة بين شعوب المنطقة وأنظمتها الحاكمة خياراً استراتيجياً لاسيما وأن جَسَد العالم العربي تحيطه كتلٌ ديمغرافية مغايرة قد تُشَكِّل عنصر قوة أو مِعْوَل هدم، وهو ما يتوقف على إدراك العقل الاستراتيجي العربي لمكانة هذه التنوعات البشرية المجاورة للعرب بل وأهميتها في تعضيد قوته وزيادة أمنه وهو ما يتجسد فيما يعرف ب “سياسة شد الأطراف” وتماسك البنية الإقليمية للعالم العربي وفي القلب منه مصر بما لها من دورٍ تاريخي في صيانة هذا الجسد، وبما يتجاوز حدود العروبةِ إلى السياق الإقليمي الشرقي. فمن خلال سياسة “شد الأطراف”، دأبت القوى الاستعمارية الغربية ممثلة في بريطانيا ومن بعدها الولايات المتحدة على مساندة قوى إقليميةٍ مثل إيران وتركيا ثم إسرائيل أخيرا؛ لتأمين مصالحهم في الشرق الأوسط.
غير أن ذلك لم يقتصر على محاولات الغرب لاحتواء أي نهضة عربية بل إن المساعدة الغربية لقوى عميلة في إيران وتركيا وأحيانا والعراق في بعض الأحيان ضد أيةِ انتفاضةٍ شعبيةٍ كرديةٍ يؤكد على حرص القوى الاستعمارية على إخضاع الشرق الأوسط بأكمله (عربياً أو كُردياً أو غير ذلك)، لمصالحه بعيداً عن أية اعتبارات تَخُصُّ حقوق شعوب المنطقة في إدارة شؤونها بشكلٍ مُسْتَقِلٍ. فبالنظر للمخاطر المحيطة التي يموج بها الشرق الأوسط، والتي تجعله موضعاً لمشروعات متصارعة تقودها إيران وتركيا وإسرائيل ومن خلفها القوى الغربية بطبيعة الحال، وغير ذلك من المخاطر التي لا يتسع المقام لسردها، فإن ثمة حاجة مُلِحَّةً للدور المصري الذي ثَبُتَت فاعليته تاريخياً على قيادة الإقليم، علما بأن أحد روافد قوةِ الدور المصري ونهضته تكمن في تعضيد التقارب والتماسك مع الشعوب التاريخية في المنطقة كالشعب الكردي بما يسمح لتثبيت حائط صَدٍ لأي مشروعات استغلالية تنشد السيطرة على مقدرات شعوب الشرق الأوسط والتحكم في مصيرها كغاية تاريخية. ولعله من بين المؤشرات الإيجابية على إمكانية تحقق ذلك، مهما واجه من صعوبات، ما تضمَّنَه السرد السابق لصيرورة العلاقات والتداخل بين الشعبين المصري والكردي إلى حَدِّ الانصهار الثقافي مع الحفاظ على الخصوصيات الثقافية والتفاعل القائم على الإثراء والتكامل بين المصريين والكرد، كما حدث مع شعوب أخرى اندمجت مع المصريين كالأمازيغ والأرمن والشركس وغيرهم وصولاً إلى نمط أو نموذج معتدر للتعايش أثبتته الخبرة المصرية فيما يخص التفاعل مع الآخر. وفي هذا السياق، وللحفاظ على التقارب والتكامل المصري الكردي، يتعين أن يتضمن الخطاب السياسي العام في مصر وكافة مناطق تركز الوجود الكردي في الشرق الأوسط تسليط الضوء على النقاط المضيئة في تاريخ العلاقات المصرية الكردية كمصدر قوة لأي تقارب منشود.
في هذا الإطار، تبرز أهمية تسليط الضوء على “الإسلام” كقاسمٍ مشترك تَمَكَّن المصريون، كجزء من العالم العربي، والكُرد من خلاله تقديم نموذج فريد للتعايش عزَّزَته القيم المُتَضَمَّنة في الغطاء الإسلامي كدين ذي رسالة عالمية، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ (سبأ: 28). إن تسليط الضوء على التاريخ المضيء للكرد في الحضارة الإسلامي من شأنه رد الاعتبار للهوية الكردية، والحال نفسه بالنسبة لأصحاب الهويات المختلفة ودورهم في التاريخ الإسلامي، والحافظ على الكرامة الجَمْعية للكرد كشعب ذي تاريخ وثقافة بعد محاولات الطمس التي مارستها الدولة القومية بشكلٍ قسري في الشرق الأوسط لصالح الهوية المهيمنة (الفارسية في إيران، والتركية في تركيا، والعربية في سوريا والعراق).
وعليه، فإن خطاباً توفيقاً على المستوى السياسي والثقافي والديني من شأنه دعم التعايش المشترك كسبيلٍ للحفاظ على تماسك الكتلة الديمغرافية للشرق الأوسط في مواجهة المشاريع المتكالبة على المنطقة، كما سبقت الإشارة، وهي المهمة التي يصعب تولي قيادتها إلا من خلال دورٍ مصريٍ تأكد فاعليته تاريخياً. وبجانب المؤسسات الرسمية كقاطرةٍ أساسية تقود المجتمع، يظل دور النخب المثقفة عاملاً أساسياً في نشر الوعي المجتمعي بجدوى وأهمية التقارب المصري الكردي كضرورة ثقافية بل وحتمية تفرضها المعطيات الامنية الراهنة في الشرق الأوسط بشكل عام.
=KTML_Bold=المراجع:=KTML_End=
ثريفور، رسائل عظماء الملوك في الشرق الأدنى القديم، ترجمة رفعت السيد علي (مصر – 2006م) ص 40. وانظر أيضاً غسان عبد صالح، الرسائل المتبادلة بين الملك الميتاني تواشراتا (1365-1335ق.م) وملوك مصر، مجلة كلية التربية الأساسية، جامعة بابل، أبريل، 2013.
(18) دريوتون، مصر، ص 462.
للمزيد حول الوجود الكردي في مصر، أنظر: درية عوني، محمود زايد، مصطفى محمد عوض، الأكراد في مصر عبر العصور، طبعة خاصة، 2011، ص22).
سليمان حزين، حضارة مصر، (القاهرة: دار الشروق، 1991)، ص 258.
عبد الجليل صالح موسى، عبد الناصر والقضية الكردية في العراق 1952 – 1970م، (العراق: مطبعة محافظة دهوك، 2013)، ص 18. وللمزيد حول بن سالار أنظر: محي الدين، عطا عبد الرحمن، علي بن سالار “الوزير في الدولة الفاطمية 544 – 548 ه/ 1149 – 1153 م، مجلة التربية والعلم، جامعة الموصل، كلية التربية، مجلد 16، ع4، 2009.
خالدة سلمان، شوكت عارف الأتروشي، التركيبة الإثنية للمجتمع المصري خلال العصر الأيوبي، مجلة جامعة زاخو، مجلد 1، عدد 1، أيلول 2013، ص 323.
للمزيد أنظر: أحمد خلف أحمد الجبوري، إسهامات علماء شهرزور في الحياة العلمية في مصر وبلاد الشام – النصف الثاني من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلاد، مجلة سر من رأى للدراسات الإنسانية، المجلد الثامن عشر، العدد 74، السنة 17، كانون الثاني 2022.
(ياسين صلواتي، الموسوعة العربية الميسرة، بيروت، 2001، ص 2066، حزء 5).
أنظر: عدنان مفتي، الحوار العربي الكردي وثائق مؤتمر القاهرة، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1999).
للمزيد حول سياسة شد الأطراف ومخاطرها على الأمن الإقليمي، أنظر: حامد ربيع، نظرية الأمن القومي العربي والتطور المعاصر للتعامل الدولي في منطقة الشرق الأوسط، (القاهرة: دار الموقف العربي، 1995).[1]