=KTML_Bold=لا يمكن استيعاب أبعاد مستوى عبودية النظام، ما لم تحلَّل المرأة...=KTML_End=
لقد تعرضت امرأة العصور الوسطى للانكسار الثقافي الكبير الثاني الجاري للمجتمع الجنسوي. فبينما نشاهد حصول الانكسار الثقافي الكبير الأول في ثقافة الإلهة إينانا – عشتار – في فترة ولادة الدولة العبودية؛ يمكننا مشاهدة الانكسار الثقافي الذي عاناه النظام الناضج (المستوي) إزاء المرأة، متمثلاً في مثال ماريام الأخت الكبرى لسيدنا موسى، وفي مريم أم سيدنا عيسى، وعائشة زوجة سيدنا محمد؛ بشكل ضارب للنظر. بالتالي، ومثلما لم يَعُد هناك أي أثر للألوهية الأنثوية، بات يُنظَر إليها ككائن أدنى إلى الشيطان. وأي اعتراض بسيط من المرأة، قد يجعلها الشيطانَ بعينه. وقد تبيع روحها إلى الشيطان في أية لحظة. وقد تُضِل الرجل وتحرفه عن هُداه. وفي حالة سوء أخلاقها، يتوجب حرقها وهي حية، لتلتهمها الألسنة الحمراء. ثمة ثقافة مجازر تمتد إلى حد وأد البنات وهن صغيرات، ورجمهن بالحجارة حتى الموت، واتهامهن بأنهن مخلوقات مثيرة للشهوات الجنسية لدى الرجال وسالبة عقولهم. لقد تسللت حالة العبودية الغائرة في الأعماق، داخل المجتمع منذ آلاف السنين، إلى أن بلغت أبعاداً لا تطاق. حقيقةً، لا يمكن استيعاب أبعاد مستوى عبودية النظام، ما لم تحلَّل المرأة. فما الحلقات المدورة المعلقة في كل طرف فيها والمهر وأشياء الزينة، سوى انعكاس لثقافة العبودية. وقد حُرِمَت من التفكير وكأنها خرساء مبتور لسانها. إنها أُمٌّ جافة مجدبة، وحقل يستطيع الرجال استخدامه وحرثه كما يشاؤون. كما خرجت من كونها جوهر، ذات منذ أمد بعيد، فغدت مادة، شيء. لم يعد هناك أثر من الألوهية الأنثوية للمجتمع الطبيعي. لم يعد ثمة أي أثر للمرأة الحكيمة، مديرة شؤون الأطفال واليافعين؛ المرأة التي يلتف حولها الرجال ويدورون في مدارها. يتجذر التحول العقلي تجاه المجتمع الطبيعي، ليستمر في نظام المجتمع الإقطاعي أيضاً. لقد تحققت انفتاحات عظمى عن طريق الذكاء التحليلي. وألَّف شكل التفكير الديني والفلسفي على السواء، الذهنيةَ المهيمنة للمجتمع الجديد. ويهيمن هذان الشكلان من التفكير مجدداً في العناصر المتحولة للمجتمع القديم. وكيفما قام المجتمع السومري بتشكيل تركيبة جديدة مع قيم المجتمع النيوليتي داخل نظامه الجديد؛ كذلك قام المجتمع الإقطاعي بتشكيل تركيبة جديدة مؤلفة من القيم المعنوية الموجودة في البنى الداخلية للنظام القديم من جهة، ومن القيم المعنوية للطبقات المسحوقة والإثنيات المقاوِمة، الموجودة في الجوار الخارجي من جهة ثانية. إنَّ تدفق السياق العملي هو المحدِّد في هذه المرحلة. فالسياق العملي، بمعنى من معانيه، هو الوجود المشكِّل للزمان كقوة بحد ذاتها. والزمان هو السياق العملي المتكون.
تقوم العقلية بتحديث الخصائص الميثولوجية عبر الاصطلاحات الدينية والفلسفية. فعوضاً عن وجود آلهة متعددة، هزيلة وخائرة القوى؛ تنعكس قوة الإمبراطورية المتسامية على صورة تطور طبيعي يتجه نحو الاعتقاد بإله واحد عظيم، يمثل القوة العالمية. إن أحداث الحياة اليومية ومجرياتها تجد مرادفاتها في الذهنية أيضاً. ثمة تغذية وتعزيز متبادل بينهما. يتعلق إحلال الإله الواحد محل تعدد الآلهة في الأديان، بهذه المرحلة.
تُعتَبر العبودية هنا حالة طبيعية متأتية من الله، في الحياة الاجتماعية. أي أن اصطلاح العبودية هو حالة فطرية منذ بداية الحياة، وليس حالة مكتسبة فيما بعد. فالناس يولدون ويموتون وهم عبيد. ويستحيل التفكير في شكل حياة أخرى عدا العبودية. إذ، ثمة الله، وثمة عباده. أما الملائكة والأنبياء، فهم الرسل المبلِّغون بأوامر الله. إذا ما حوَّلنا ذلك إلى اللغة السوسيولوجية، فالله هنا يمثل سلطة الدولة المجردة المتمأسسة. في حين ترمز الملائكة إلى جيوش الموظفين، ويشير الأنبياء والملائكة الأساسية إلى الوزراء وزمرة البيروقراطية العليا. أما إدارة شؤون المجتمع، فتتم عبر نظام رموز مريع حقاً. ثمة أواصر وطيدة بين الإدارة الظاهرية والإدارة الرمزية. وبدون فك رموز العلاقة الكائنة بين جانبَي الإدارة الملموس والرمزي، يستحيل بلوغ فهم وإدراك سليم للمجتمع.
بمعنى آخر، إذا كنا نود استيعاب ماهية إدارة المجتمع بوجهها الحقيقي، فعلينا نزع الستار البانتيوني (النظام الألوهي). وحينها سنرى أن الوجه الظالم والقبيح للقمعيين والاستعماريين الاستغلاليين مستتر تحت غطاء القدسية منذ آلاف السنين.
يمكننا استنباط ما تعلمناه من الميثولوجيا من الأديان أيضاً، وخاصة من الأديان التوحيدية. فقسطاس موسى في تقاليد سيدنا إبراهيم هو تأديب المرأة وضبطها بشكل مطلق. لم تكن المرأة حُطَّت منزلتها كلياً لدى سيدنا إبراهيم. فثنائية إبراهيم – سارة أدنى إلى القوة المتكافئة. أما في ثنائية موسى – ماريام، فالأخت ماريام محكوم عليها بالفشل الذريع المؤلم، حيث تفتقر إلى بقايا قوتها المتبقية. وفيما يتعلق بسيدنا داوود وسيدنا سليمان، فالمرأة مادة شهوانية أحادية الجانب، وما من أمارة تدل على وجود سلطة لها. المرأة هنا مادة للّذة واللهو والغبطة بالنسبة للمَلَكليات المتصاعدة. وهي أداة لاستمرار النسل. ورغم ظهور بعض الشخصيات بين الفينة والفينة، مثل أستر ودليلة؛ إلا إنها لا تذهب أبعد من كونها أداة استثمار واستغلال. وفي ثنائية سيدنا عيسى – مريم لا نسمع مريم تتفوه ولو بكلمة واحدة. وكأن لسانها مبتور. تشكل الديانة المسيحية هنا خطوة عملاقة للوصول إلى المرأة الراهنة. أما في ثنائية سيدنا محمد – عائشة، فثمة مأساة تراجيدية. فعائشة الصغيرة السن تشكو بحدة من سلطة الإسلام الإقطاعي المتنامية. حيث ينقل المؤرخون عنها تذمرها قائلة: يا رب، ليتك صنعتني قطعة حجر، عن أن تخلقني امرأة!. وهذه الجملة هي لعنة لُفِظَت بحنقة الإدراك باستحالة أخذ النتائج المرجوة، حتى لو كانت الزوجة الأحب إلى قلب النبي في لعبة السلطة.
يمكننا اعتبار هذه المرحلة بكاملها، مرحلة محو المجتمع وإفنائه، فكراً وروحاً. إذ لا يوجد سوى صوت المجتمع الفوقي الصاخب بصوت الله وقرقعة السيوف وطقطقة النعال. كل الملاحم تتميز بالدراما المبنية على الاقتتال والفتح. قد تكون هذه اللوحة مبالَغ فيها. لكن الحقيقة الروحية لتلك المرحلة، تنعكس بما يتناغم وجوهرَ هذه اللوحة. لقد احتل النظام العبودي الكلاسيكي الأكثر استقراراً وثباتاً، محله بدل العبودية بشكلها البدائي الأولي. تعيش الدولة هنا، والمجتمع الذي تمثله، ذروة مراحلها، مرحلة النضوج التام. هذا ووُطِّدَت كافة المصطلحات والمؤسسات الأساسية المعنية بالنظام، بحيث تُعلِن الجوامع والكنائس والكنيسد واجب تقديس النظام كل يوم، عبر الأذان ودقات الأجراس. وما يأتي بعد ذلك، ليس في مضمونه سوى المدة الأخيرة من مرحلة الأزمة العامة، التي سيلجها المجتمع، وإن بدى ظاهرياً بأنه قوي ومتماسك؛ لتبدأ الدولة الرأسمالية بإبداء قدرتها وكفاءتها في التطور. فمن المعلوم أن أكثر المراحل عظمة وأبّهة، إنما هي مرحلة الانحلالات والتفككات المتأزمة، والمتوالية. يسري مفعول هذا القانون العام للطبيعة أكثر فأكثر بالنسبة للمراحل الاجتماعية أيضاً.
إن العبودية الاجتماعية ليست مجرد ظاهرة طبقية. فالطبقات والشرائح الاجتماعية برمتها مُلحَقة بها، عدا الاستبداديين (وهم أيضاً في الحقيقة أسرى النظام). ما من نظام تَبَعي مستتر بعمق أكثر من النظام العبودي. والمرونة فيه دليل على مدى تجذر النظام وتوغله. البراديغما الأساسية للمجتمع هي، نظام عبودي أزلي وأبدي، لا بداية له ولا نهاية. فالنظام سيستمر إلى الأبد كيفما هو عليه منذ الأزل. يعود هذان المصطلحان (الأبدية والأزلية) بالأرجح إلى دولةِ عهدِ النضوج. الامتحان وتبدُّل المكان متعلقان بالدنيا الآخرة. لذا، فمناهضة النظام، حتى على الصعيد الفكري أو الروحي، تُعد أكبر ذنب. فما بالك بالتمرد الفعلي عليه! العبودية المثلى هي الفضيلة والقُدرة الكفؤ عينها، بالنسبة لكل من يعرف كيف يذعن له ويطيعه بشكل مطلق. وغدا المبدعون المبتكرون القائمون على خدمة الجماعة بأفضل الأشكال في عصر البطولة والبطولات، في المجتمع الطبيعي وعهد الهرمية الإيجابية؛ يمثلون الشخصيات الشيطانية الأخطر على الإله (الأسياد) في عصر العبودية، بحيث تستحق العقاب واللعنة. وقد طُوِّرت الشيطانية كاصطلاح، تجاه مجموعات الناس الرافضة للعبودية. أُطلِق هذا المصطلح ذو الجذور الشرق أوسطية، على المجموعات الشعبية المتنافرة مع النظام. من هنا، يُطلَق اسم عُبّاد الشيطان على الشرائح الكردية المتشبثة بتقاليد الحياة الطبيعية لديها، وغير المعتنقة للأديان التوحيدية. إن تقديس تلك الشرائح الكردية للشيطان، ذو معاني عظيمة.
الدنيا في عين النظام العبودي لعصر النضوج، هي مكان مفتوح لارتكاب الآثام في كل لحظة. لذا، يجب تجنب الحياة الدنيا. وبقدر ما تود العيش فيها فإنك تقترف الذنوب. الشكل الأمثل والأكمل للحياة، هو إعداد الذات للموت، بكل جوانبها. وبينما يرى هذا التقرب في الطبيعة مجرد مادة ميتة يجب عدم الدنو منها أبداً، فهو بالمقابل يَحكُم باستحالة الخلاقية والإبداع مسبقاً. إذ يستحيل التفكير بمفهوم الطبيعة الحية من أجل العبيد. في الحقيقة، ثمة آثار مروعة من القمع والاضطهاد والاستعمار في ولادة هذا الانتظام والترتيب. يكمن السبب الروحي الأولي في عدم لملمة المجتمع الشرق أوسطي أشلاءه وقواه حتى اليوم، في هذا النواع من التقرب إزاء الطبيعة. مقابل ذلك، ثمة عالَم بَرّاق ومبهر على وجه البسيطة بالنسبة لدنيا الأسياد، بحيث لا يذكِّرهم بالبحث عن جنات نعيم أخرى. إنهم، وآلهتهم الملقبة بنفس اللقب – الرب – (مصطلحات الإدارة) يعيشون حياة رغيدة ومحظوظة للغاية، إلى أنْ تبلغ حكايات ألف ليلة وليلة، التي ما هي سوى سرود ميثولوجية لنظام الدولة الناضجة (المزدهرة) في العصور الوسطى.[1]