=KTML_Bold=الرقة… بين أصالة الماضي وإشراقة اليوم والغد=KTML_End=
الرقة/ حسين علي
الرقة.. المدينة التي تربعت على حضارة التاريخ والماضي العريق، فهي هبة الطبيعة للفرات، وهي دوحة الرشيد، التي وصفها بإحدى جنان الدنيا الأربع، حوت أثار الحضارات، التي مرت بها، فكانت شاهدة على عادات شعبها، وعراقته منذ القدم حتى الحاضر، وتعايشت فيها شعوب عديدة، وقد وسمتهم بطابع التشاركية والمحبة، فأصبحت درة الفرات التي ناضلت ضد الأنظمة المتسلطة، فتخلصت منها.
تعدُّ مدينة الرقة واحدة من أهم المدن السورية في شمال وشرق سوريا، بمساحة إجمالية 1800 كيلو متر مربع، ويبلغ تعداد سكانها حسب مصادر محلية ب 980 ألف نسمة، فموقعها الجغرافي على سرير نهر الفرات أكسبها موقعا استراتيجيا هاما، وجعلها هدف ومحط اهتمام لكثير من الأطراف، على مر العصور، والتي تشهد تحولًا جذريًا بعد سنوات من الصراع والدمار، وبعد أن كانت تحت سيطرة مرتزقة داعش لسنوات عدة، بدأت الرقة اليوم رحلة التعافي والإعمار، بجهود أبنائها ومن خلال لجان الإدارة الذاتية الديمقراطية، وتعكس مدينة الرقة بوضوح قوة وإرادة أهلها في التغلب على الصعاب، وبناء مستقبل مشرق وكما هو معروف، غالبية أهلها يعملون في الزراعة، وتربية المواشي لوفرة التربة الصالحة للزراعة.
تاريخ الرقة الحضاري
يعود تاريخ الرقة إلى آلاف السنين، حيث كانت عاصمة الخلافة العباسية في العهد الإسلامي، ومنذ ثم، شهدت المدينة تطورًا ثقافيًا واقتصاديًا ملحوظًا، ومع ذلك، تضررت الرقة بشدة خلال الأزمة السورية، التي بدأت في عام 2011، وتعرضت لسيطرة مرتزقة داعش في عام 2014. ولكن بفضل جهود وتضحيات (قوات سوريا الديمقراطية) والتحالف الدولي، تم تحرير المدينة في عام 2017 من داعش الذين طبقوا ثقافة قطع الرؤوس وتعليقها، على ميادينها وأسوارها، وكما وصفها مراقبون من أهالي الرقة، “إن فترة السواد التي عاشته مدينة الرقة إبان سيطرة مرتزقة داعش أعادت المدينة إلى ما قبل قرون، من خلال الدمار الذي لحق بمعالمها التاريخية والحضارية، وأبنيتها التاريخية القديمة، فأينما تسر كنت ترى الدمار والخراب، والسواد الداعشي”.
وفي سعي للتعريف أكثر بالرقة، وبماضيها وحاضرها التقت صحيفتنا “روناهي” عدداً من أهالي الرقة، واجتمعت كلمتهم على أن، “الرقة كانت ولازالت مدينة للسوريين كلهم، فالضيافة والتواضع اللذان يتمتع بهما أهلها كسر المراهنات على إسقاط الإنسانية والكرم عند أهلها”.
“محمد العزو” المعروف في الرقة وفي أغلب المدن السورية ب (أبو آثار)، وهو باحث أثري وكاتب، وقامة ثقافية يشهد لها قد مر من هنا بقوله: “إن الرقة تعدُّ شاهدا تاريخيا على عراقة أهلها، ومعالمها الأثرية، التي لا تزال تثبت ذلك للعالم كله، صمدت أمام حالة الدمار، التي مرت بها منذ الأزل، في القرون الوسطى، وفي وقتنا الراهن”. ومن هذا كله تبقى الرقة بأهلها نبراسا للمقاومة، والصمود أمام أشكال الدمار والتخريب عامة.
مرحلة التعافي وإعادة الإعمار
منذ تحرير الرقة، بدأت جهود واسعة النطاق لإعادة إعمار المدينة، وتوفير الخدمات الأساسية للسكان، وتم تشكيل مجلس محلي جديد لإدارة الرقة، وتحقيق احتياجات سكانها المتنوعة، وتم تنفيذ برامج لإعادة إعمار البنية التحتية، بما في ذلك إعادة تأهيل الطرق والمدارس، والمستشفيات، وشبكات المياه والكهرباء، والصرف الصحي، والجسور، وتم أيضًا تشكيل فرق لمكافحة الألغام، وتطهير المناطق الملوثة بالمتفجرات.
وكما قدّمت العديد من الدول والمؤسسات الدولية دعمًا لعملية إعادة الإعمار في الرقة، وتسعى الإدارة الذاتية بكل إمكاناتها وبشكل مستمر، لتعزيز التنمية الاقتصادية، وجذب الاستثمارات إلى المدينة، بهدف إحياء الحياة الاقتصادية، وتوفير فرص العمل للسكان، وإعادة ترميم المعالم التاريخية والأثرية فيها.
وفي هذا الجانب أشار محمد العزو مدير المتحف الأثري في الرقة: “قامت لجنة الثقافة والآثار وبالتنسيق مع الإدارة المحلّية، والبلديات بإعادة ترميم الأجزاء المدمرة من سور الرقة الأثري، والجامع القديم، وباب بغداد، عبر سلسلة من عمليات الإعمار، كذلك شهدت العديد من الساحات والمنصفات الطرقية، حملات التشجير” وهذا يظهر حرص الإدارة الذاتية، عبر هيئة الثقافة والآثار على حماية تلك المعالم الأثرية، التي تعدُّ بمثابة هوية وطنية، وتاريخية للمجتمعات الرقيّة.
عودة الحراك الثقافي والمجتمعي إلى الرقة
وبجهود مدروسة عادت الحياة تدريجياً إلى الرقة، حيث بدأت الأنشطة التجارية والاجتماعية في الازدهار. ففتحت المحال التجارية أبوابها مرة أخرى، وعادت المقاهي والمطاعم، والأماكن الترفيهية للعمل، وأصبح السكان يمارسون حرية التعبير، وخاصة في الحراك الثقافي، الذي يتجسد في مفردات الثقافة والفن بكل أشكالها، حيث تُنظم العروض الموسيقية، والفنية، والمعارض الثقافية والمهرجانات، التي تؤكد عراقة، وأصالة هذه المدينة.
بهذا السياق أكد جمعة الحيدر، الّذي يُعَدُّ من كبار الفنانين العاملين في فن النحت، والرسم والتجسيد الفني، “نعمل على إحياء ما دُمر من النقوش، والتماثيل، والرموز التاريخية، والأثرية في الرقة، ويعرف المؤرخون في منحوتات الرقة وتماثيلها الحياة المجتمعية، التي عاشها أجدادنا عبر العصور، ونحن حريصون على حمايتها من الاندثار، عبر المشاركة بالفعاليات والمهرجانات الفنية والمعارض، التي نستطيع من خلالها تبيان الحالة الفنية، والتشكيلية في الرقة”.
وللأسواق الشعبية قيمة حقيقية وتاريخية، فسوق (القوتلي) يعدُّ من أقدم الأسواق التجارية، وكذلك (سوق شارع تل أبيض الكبير) له قيمة حضارية كبيرة، ويعد السوق الأكبر في المدينة، وتباع في هذه الأسواق المستلزمات كافة لأهالي الريف والمدينة.
والرقة كانت منذ الأزل مقصدًا سياحيًا مهمًا، للباحثين عن الحضارة والتاريخ، حيث أنها تحتضن العديد من المعالم التاريخية والثقافية، إذ يُعد جسر الرقة القديم واحدًا من أبرز المعالم التاريخية، فيعود تاريخه إلى العهد القديم، كما يمكن للزوار زيارة آثار المدينة القديمة والتعرف على ثقافة الرقة الغنية من خلال المتاحف، والمعارض، ولقصر البنات جمالية تاريخية حية، كما لباب بغداد، والجامع الأثري عبق الماضي العريق، وهما شاهدا تاريخ حي في التاريخ المعاصر.
التحديات المستقبليّة التي تواجه مدينة الرقة
تواجه مدينة الرقة تحديات عديدة في مسيرتها نحو التعافي الكامل، من بين هذه التحديات، التحدي الأمني، والتطهير الكامل من الألغام والمتفجرات، التي تركتها مرتزقة داعش، كما تحتاج المدينة إلى استثمارات إضافية لإعادة بناء البنية التحتية وتوفير فرص العمل للشباب، ومن التحديات هناك من يحاول عرقلة المسيرة المجتمعية، والتنوع الثقافي، والإثني والقومي، لأن الرقة استقطبت الكثر من السوريين من مناطق مختلفة إلا أنها لاتزال عرضة لمحاولات النيل من هذا التعاضد المجتمعي.
المواطن بوزان بلال من أهالي مدينة الرقة تحدث عن هذا الجانب “الرقة تتميز بتنوع ثقافي ومجتمعي، وهناك حالة تعايش مشترك حقيقي بين العرب، والكرد، والمسيحيين، وهذه الحالة تثبت قيمة الاندماج الشعبي والمجتمعي، وهذه الحالة تعرقل مصالح الطامعين، ومنهم الاحتلال التركي”.
ومع ذلك، تبقى روح الأمل حاضرة في مدينة الرقة، فالسكان يعملون بجد لإعادة بناء حياتهم وإحياء المدينة، وتستمر الإدارة الذاتية في دعم جهود إعادة الإعمار وتوفير الخدمات الضرورية.
مدينة الرقة اليوم تشهد تحوّلًا بارزًا في مسيرتها بعد سنواتٍ من الصراع والدمار، رغم التحديات الكبيرة، التي واجهتها، لأنها تحمل روحًا قوية وإرادة جادة للتعافي والبناء، ومع استمرار الجهود الشاملة لإعادة الإعمار، ودعم السكان، فإن مستقبل الرقة يبدو واعدًا ومشرقًا لبناء الإنسانية والتاريخ من جديد.[1]