ليس خافياً على أحد الإرث التاريخي للكرد على أرضهم في ميزوبوتاميا أو ما بات يعرف في الوقت الحالي بالشرق الأوسط، أما مسألة تثبيت هذه الأحقية من عدمها فإن المناطق الأثرية الكثيرة تشهد بذلك، وعند دراسة التاريخ يتضح للمهتمين مدى تدخل الكرد في تطوير الحضارة الإنسانية وتثبيتها، مقتبس “يتضمن تشخيص وجود الكرد وتعريفه بالأساليب التاريخية المألوفة مشقات عديدة فالجغرافيا التي قطنوها والتواريخ التي مروا بها قد أثرت بحدة في نشوئهم وأرغمتهم على البقاء على هامش الحياة. فالمجتمع المديني لم يولد في مصر وسومر من تلقاء ذاته، بل إنه ينتهل بالتأكيد مشاربه من ثقافة ميزوبوتاميا العليا، والبرهان الآخر البالغ الأهمية حول مدى رقي الدياليكتيك التاريخي في الهلال الخصيب، هو سفر النبي إبراهيم إلى مصر قبل ما يخمن بحوالي ثلاثة آلاف وسبعمائة عام.” انتهى الاقتباس من القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية للسيد عبد الله اوجلان صفحة 84 و85.
الدين كعامل توحيد أو عامل تبعية؟
لا يخفى على أحد أن الإنسان الكردي لا يتصف بالتزمت بشكل عام لا التزمت الديني ولا التزمت الأيديولوجي أو القومي أو العرقي …. الخ، على العكس تماماً فإن الكردي بشكل عام يتأقلم ويتكيف مع الأوضاع والمستجدات في وقت قياسي، وبحسب ما سبق من الاستكشافات التاريخية وما يعيشه المجتمع الكردي في وقته الحالي فإن هذا المجتمع يحب الفرح والمرح والألوان المزركشة ويتضح ذلك جلياً في الاحتفالات الخاصة بالشعب الكردي. حتى إن الاختلاط من بين الذكر والانثى لا يعد من المحرمات طبعاً ضمن حدود العرف والعادات والتراكمات التاريخية والثقافة المجتمعية والتي تتداخل في تشكيلها عدة عوامل ومنها الدين، ويتفق معظم أو الغالبية العظمى من الكرد أنفسهم والمؤرخين على ان الدين اليزيدي أو الزردشتي نسبةً إلى الزرادشتية وهو الدين الأساسي للكرد، وكأول الموحدين بالله الواحد الاحد، بطبيعة الحال بالنسبة للديانات السماوية المتلاحقة أو كما يسمون بأهل الكتاب فإنهم لم يؤثروا لا على المجتمع الكردي ولا على المجتمعات المجاورة الأخرى، ربما لأن الإيمان يعتبر جزءاً من الحرية الشخصية ونوع من تطور العقل البشري في كيفية اختيار الصح والخطأ، وعليه فإن المؤمنين بالفكر المسيحي أو اليهودي ضمن المجتمع الكردي يعتبر قليلاً نوعاً ما بالمقارنة مع الدين الإسلامي، والذي ربما كان للغزوات الإسلامية الدور الأبرز في اعتناقه وترك أو الابتعاد عن اليزيدية والزرادشتية، ربما يحتاج الخوض في تفاصيل هذا الموضوع إلى الكثير من الوقت وأيضاً الكثير من الجهد والبحث للوصول إلى المبتغى، ولكن ما نريد توضيحه إن معظم المجتمع الكردي يتبع في الوقت الحالي الديانة الإسلامية وخاصةً المذهب السني، بغض النظر عن إيمانه به عن قناعة أو توارث عبر الأجيال، لكن ما هو مهم أو يلفت الانتباه أن الدين الإسلامي كعقيدة إيمانية ومنذ أكثر من ألف وأربعمئة عام يعتبر مطية لبقية القوميات للحصول على الحقوق وكسب المزيد من المكاسب تحت مسمى الدين، بعكس المجتمع الكردي الذي ما برح يخدم هذا الدين حتى ولو على حساب حقوقه القومية، بطبيعة الحال الحالتان متناقضتان من حيث التشبيه والمقارنة ولا يمكننا تقديم أو تفضيل احداها على الأخرى، فالدين هو علاقة روحانية ما بين الإنسان وربه، في حين تعتبر القومية هي علاقة الإنسان مع غيره ضمن إطار العلاقات الإنسانية المتعايشة.
الكرد ما بين تناقضات الشرق والغرب التقليدية:
لم تتوقف صراعات البشر فيما بينهم ولو للحظة واحدة منذ بدء الخليقة على وجه هذه الأرض، فقد كانت هذه الصراعات مستمر دائماً على شكل صراعات وجود أحياناً، وتتطور أحياناً أخرى إلى صراعات نفوذ على المساحات، وصراعات قومية أحياناً وصراعات دينية ومذهبية أحياناً أخرى وهكذا. تعتبر منطقة الشرق الأوسط من أهم مناطق العالم القديم والحديث وذلك لعدة اعتبارات أهمها:
تعتبر مركز أو مهد للديانات السماوية.
تعتبر عقدة وصل مهمة جغرافياً بين قارات العالم القديم.
تعتبر من أغنى مناطق العالم من حيث الثروات الطبيعية الباطنية.
تعتبر من أهم مناطق العالم من حيث الأجواء الطبيعية على مدار العام.
كل ما سبق ربما يعتبر من ميزات المنطقة ونعمة على ساكنيها، وفي المقابل ربما هي نقمة وذلك بسبب الاطماع الدائمة من قبل الدول والقوى التي تهيمن على العالم ما بين فترة وأخرى، ففي العصور الوسطى بدأت الصراعات الدينية على المنطقة وخاصةً الصراعات المسيحية الإسلامية على المناطق المقدسة لكلا الطرفين وأحقية السيطرة لمن في إدارتها، وفي الوقت الراهن يشكل الصراع اليهودي الإسلامي قضية الشرق الأوسط الأولى والتي تتمثل أو تختصر في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بطبيعة الحال وكما في كل مرة كان الكرد هم الحلقة الأضعف في كل ما سبق، أما السؤال الذي يطرح نفسه بقوة لماذا الكرد دائماً في أسفل القائمة أو في الهامش، بالنسبة للقوى الفاعلة عالمياً والتي تلعب دور حامي الكرة الأرضية وتقسَم الجغرافيا بحسب أهوائها ومصالحها خلال القرنين الماضيين؟
المملكة المتحدة البريطانية: عملياً فإن المملكة المتحدة ليس لها أي حدود جغرافية طبيعية مباشرة مع الكرد، ولم يقم الكرد في يوم من الأيام بأي عمل عدائي ضد المصالح الإنكليزية في أي بقعة من العالم، ولكن رغم ذلك فإن الإنكليز كقوة عظمى وكمملكة لم تكن تغيب عنها الشمس كانت دائماً تهمش الكرد وكردستان وحقوقهم في أي تسوية سياسية، من خلال وقوفنا على هذه الحالة استنتجنا أنه ربما يكون السبب تاريخياً مسألة هزيمة الجيوش الأوربية تحت راية بريطانيا وقائدها ريتشارد قلب الأسد في فلسطين أو ما كان يعرف ببيت المقدس وقتها، وعدم تجاوز القادة الإنكليز لهذه الهزيمة التي قادها الكردي صلاح الدين الايوبي تحت راية الإسلام، أو وجود فراغ في الشخصية الكردية وتمثيلهم الدائم بصفة تابع ضمن وفود أخرى، كما يحدث حالياً ضمن العلاقات الدبلوماسية وبالتالي يتم تهميش الخصوصية الكردية ضمن البوتقة العامة للقضايا المطروحة.
فرنسا: أيضاً كقوة فاعلة وكبيرة ومؤثرة فإنها تاريخياً لم تكن إلى جانب الحقوق الكردية وربما وتشترك بالأسباب السابقة الذكر مع بريطانية خاصةً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المقولة الشهيرة للضابط الفرنسي هنري غورو عندما دخل دمشق واقتحم ضريح صلاح الدين الأيوبي وقال جملته الشهيرة (انهض يا صلاح الدين ها نحن قد جئنا)، ولكن خلال الأزمة السورية الحالية ومع نشاط الدبلوماسية الكردية في فرنسا وبسبب تعارض سياسة فرنسا مع تركيا، أصبحت العلاقات الكردية الفرنسية أكثر انفتاحاً نوعاً ما.
الولايات المتحدة الأمريكية: يمكننا القول إن الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن لها دور مباشر في رسم سياسات وجغرافية الشرق الأوسط حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، ففي وبعد حرب التحرير الكبرى من المملكة المتحدة كانت منكفئة على ترتيب بيتها الداخلي وبعد الحرب العالمية الأولى كانت أيضاً منشغلة في تكوين شخصيتها ونقل مراكز القرار من بريطانيا إلى الولايات المتحدة وأيضاً مرورها ومرور العالم أجمع بالأزمة الاقتصادية العالمية أو ما بات يعرف بالكساد الكبير في الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث بدأ نشاطها بعد الحرب العالمية الثانية وازدادت وتيرتها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج الأولى إلى أن أصبحت مركز لرسم الخرائط للعالم الجديد، وتجلى ذلك للعموم مع غزوها للعراق سنة 2003م وإسقاط صدام حسين وطرح مشروع الشرق الأوسط الجديد أو الشرق الأوسط الكبير، أما بالنسبة للعلاقات مع الكرد فقد بدأت مع حرب الخليج بالاتصال المباشر مع كرد جنوب كردستان كجزء من المعارضة العراقية وتطورت العلاقة مع مرور الوقت، أما العلاقات والانفتاح مع كرد غرب كردستان فقد نشطت على وقع صدى المقاومة التاريخية في كوباني ضد الإرهاب العالمي المتمثل بداعش وبدأت هذه العلاقة بالتطور مع مرور الوقت.
روسيا: مما لا شك فيه أن العلاقات الكردية الروسية هي علاقة تاريخية خاصةً قبل تفكك الاتحاد السوفيتي سابقاً، وإذا ما سلمنا جدلاً أن روسيا هي الوريث لها وليست دولة منبثقة عنها، فالنظرة الروسية للقضية الكردية هي أنها تبني العلاقة معها على أنها علاقة نفعية فقط لا غير أي مدى إمكانية الاستفادة منهم في خدمة مصالحها وكمثال قريب ما جرى في عفرين وكيفية التنازل عنها للأتراك مقابل لعبة توازنات دولية خاصةً بعد طرحهم المبهم لمصطلح (سوريا المفيدة)، كما أن التاريخ يشهد على مخاذلة الروس لحركات التحرر الكردية على مدى التاريخ.
الصين: ربما لعدم ولوج الصينيين بشكل مباشر في السياسات العالمية وانشغالها بتقوية الاقتصاد الصيني، يعتبر سبباً رئيسياً لعدم احتكاكها المباشر مع الكثير من القضايا السياسية وحركات التحرر الوطنية والقومية.
ألمانيا: تعتبر من أقوى اقتصادات العالم رغم خوضها لحربين عالميتين فيما مضى، كما أنها تحتضن أكبر جالية كردية في أوروبا والتي تساهم في انتعاش المناطق الكردية اقتصادياً، ولكن رغم ذلك فإن السياسة الخارجية لها تكون بعيدة عن التصادم مع الدول المحتلة لكردستان وبطبيعة الحال فإن المصالح تكون في رأس الهرم للأسباب السابقة.
شرق أوسط جديد أم ديمقراطي:
مما لا شك فيه عند الحديث عن الشرق الأوسط ومشاكله الأمنية والسياسية يطفو على السطح مباشرةً المسألة الإسرائيلية الفلسطينية، كنوع من البديهيات ربما لما لها من نشاط دائم من حيث سيلان الدم والعنف والعنف المضاد، ولم يعد خافياً على أحد أن الشرق الأوسط قبل السابع من تشرين الأول لم ولن يكون كما بعدها، كما يبدو أن الحلول السياسية دائماً بحاجة إلى هزات وصفعات عسكرية لحلحلتها، فمنذ اتفاقية أوسلو لم يحدث أي تغيير أو تقدم بشأن الحلول المستدامة لإسرائيل وفلسطين رغم المبادرة التي قدمتها الجامعة العربية باسم أعضائها مع بداية القرن الحالي والتي لم تلق آذاناً صاغية على العكس من ذلك فقد كانت مزاجية ونفسية الناخب في المنطقة دائماً تميل إلى اليمين والجماعات المتطرفة، وبالتالي كانت تؤثر في الطرف المقابل في التوجه إلى دعم الحركات الراديكالية والمتزمتة وأحياناً المتطرفة، كما كان الحال مع حركة حماس في فلسطين ونشاط حركات التطرف الديني وتطورها وتحورها كما في سوريا بظهور ما يسمى (داعش) والتي تمردت حتى على حاضنتها الأم تنظيم القاعدة، حيث أنها حاولت إظهار نفسها على أنها البديل الأكثر نجاعة لحل مشاكل المنطقة عن طريق التزمت الديني.
أما بالنسبة للقضية الكردية والتي تعتبر أكثر أهمية تاريخياً وزمنياً فقد تم إهمالها وربما أيضاً النظر إليها على أنها قضية أمنية لا سياسية أو قضية أرض وشعب، وإذا كان الحاملون للقضية الفلسطينية يطرحون بشكل دائم قضيتهم على أن حلها يكمن في حل الدولتين، فإن الشعب الكردي وساسته مازالوا في طور طرح حل الشعبين والاعتراف الرسمي بوجود شعب كردي له حقوقه في التاريخ والجغرافية واللغة والثقافة….. الخ. أما ما يتم طرحه في خارطة الشرق الأوسط الجديد من فرز قومي لشعوب المنطقة ربما لن يكون بمثابة الحل لمشاكلها على العكس قد يكون سبباً في زيادة الشرخ ما بين المجتمعات والقوميات المتعايشة والمتجاورة، أما بالنسبة للبديل فهو خلق جو ديمقراطي من التعايش وربما يكون المشروع الكردي المطروح حالياً هو أفضل الحلول الممكنة والمتوفرة حالياً، من حيث الطرح والموضوعية وإمكانية التنفيذ.[1]