=KTML_Bold=حرب تركيا المفتوحة ضد اليتامى الكُرد=KTML_End=
*جوان ديبو
من الخطأ عزو التصعيد التركي الراهن ضد الكُرد في #كردستان سوريا# وكردستان العراق إلى العملية الأخيرة التي قام بها حزب العمال الكردستاني في أنقرة وإلا سنكون من ضحايا البروباغندا التركية المغرضة بشكل لاإرادي. بصياغة أخرى، من الشطط اختزال الحقد التركي المتجذر في التاريخ ضد الكُرد بقصة صراعه مع حزب العمال الكردستاني المولود فقط سنة 1978 والبادئ للكفاح المسلح سنة 1984، بينما يعود هذا الحقد بجذوره إلى أكثر من مئة عام.
لا بل من الخطأ تسمية ما تقوم به تركيا حاليا من قصف وقتل وتدمير وتشريد دائب بحق الكُرد بالتصعيد لأن التصعيد غالبا ما يكون مؤقتا وأشبه بردة فعل آنية ومحددة الزمان والمكان ضد فعل مؤقت ومحدد آخر، وبالتالي سرعان ما يخبو بخبو الفعل الأولي وارتداداته. والوصف الأنسب لما تقوم به تركيا ضد الكُرد منذ ما يقارب القرن من الزمان هو الحرب الممنهجة والمؤدلجة الأزلية ضد الكُرد في كل مكان تطاله آلة القمع التركية لإجهاض الهمم الكردية في الانعتاق الذي يعني بالنسبة إلى تركيا الإهانة والانتقاص والدمار. والعكس يعني بالنسبة إلى تركيا، أي خنق وطمر محاولات الانعتاق الكردية، الانتعاش والانتصار والاستقرار والازدهار.
المسألة باختصار هي أن السعي الكردي الدؤوب والمواظب نحو الحرية والاستقلال والتمتع بالحقوق مهما كانت متواضعة يعتبر استعداء وإهانة وانتقاصا بحق تركيا وفق العقل السياسي التركي النخبوي والمجتمعي. وكنتيجة، فإن السعي الكردي نحو الحقوق يعد اتهاما للكُرد وتهمة تستحق السحق بالنسبة إلى تركيا، هذه الخصلة التي يستفيض بها التاريخ التركي وخاصة بحق “الأكراد يتامى المسلمين” حسب وصف الكاتب المصري فهمي الشناوي الذي يقول في كتابه “لقد جعلوا القضية الكردية قضية معقدة شائكة، بحيث إذا أراد أحد أن يدافع عنها، فإنه يجعل العراق وإيران وتركيا وسوريا وأذربيجان عدوا له، وإذا سكتّ فقد سكت عن حق شعب مظلوم”.
تاريخيا وحاضرا كان نصيب الكُرد من البطش التركي الفريد من حيث الكم والكيف أكثر بكثير من نصيب بقية المعارضين من الأقوام الأخرى. والسبب الأول هو عدم توقف الكُرد عن المطالبة بالحقوق وما استتبع ذلك من نضال وعصيان ضد المتعاقبين على الحكم في أنقرة وما سبب لهم ذلك من أرق ابتداء من كمال أتاتورك ومرورا بعصمت إينونو وبولنت أجاويد وليس انتهاء بأردوغان. أما السبب الثاني فيكمن في أن الكُرد كانوا ومازالوا الوحيدين تقريبا في ساحة المواجهة ضد الغطرسة التركية الفاضحة إقليميا. بطبيعة الحال، لم يكن هذا الخيار طوعيا بالنسبة إلى الكُرد وإنما كان ومازال قسريا أو قدريا لأن فرضية انعدام المواجهة عنت وتعني عدم وجود قضية كردية بالأساس وبالتالي موت المنافحين عنها.
يورد المفكر التركي إسماعيل بيشيكجي في كتابه “كردستان مستعمرة دولية” الصادر سنة 1990 والمترجم إلى العربية من قبل زهير عبدالملك سنة 1998 على لسان العنصريين الأتراك ومنهم بولنت أجاويد ما يلي “لا يحق للأكراد المطالبة بحقوق لغوية وثقافية وقومية وديمقراطية. وإذ هم يطالبون بمثل هذه الحقوق إنما يدعون إلى إيجاد وضع خاص بهم، وعلى ذلك فهم انفصاليون”. ولذلك تحارب تركيا الكُرد على عدة جبهات في آن معا. ففي كردستان تركيا، اعتقلت الآلاف من المتعاطفين مع “بي كي كي”، وقبل ذلك زجت بالنواب من قيادة حزب الشعوب الديمقراطي ورؤساء البلديات المنتخبين، وأغلبهم من الكُرد، في السجون بعد أن رفعت عنهم الحصانة بجرة قلم وفق القانون والقضاء التركي القرقوشي.
وفي كردستان العراق لا تكاد تركيا تنتهي من عدوان حتى تبدأ بآخر بحجة محاربة مقاتلي “بي كي كي”. وتحتل تركيا آلاف الكيلومترات المربعة من أراضي الإقليم وشيدت العشرات من القواعد العسكرية تحت ذريعة محاربة بضع عشرات من ثوار “بي كي كي” بعد أن عجزت عن القضاء عليهم في معاقلهم الرئيسية في جبال قنديل.
وفي كردستان سوريا، تحتل تركيا عفرين وسري كانيه وكري سبي. وهي تقصف الآن البنية التحتية للمناطق الخاضعة لقوات سوريا الديمقراطية مستهدفة إفراغ تلك المناطق من الكُرد وإسكان النازحين العرب والتركمان بدلا منهم. وترمي من وراء ذلك إلى إحداث تغيير ديمغرافي جذري لغير صالح الكُرد وهذا ما حصل في عفرين وبقية المناطق الكردية المحتلة من قبل تركيا والمدارة من قبل المرتزقة من فصائل المعارضة السورية المسلحة الموالية لأنقرة والتي تعتبر الجناح المسلح للائتلاف السوري المعارض التابع لتركيا.
على هذا الأساس لا تحتاج تركيا إلى ذريعة لمحاربة الكُرد المطالبين بحقوقهم سواء على كوكب الأرض أو على كوكب القمر كما قالها ذات مرة رئيس وزرائها الأسبق بولنت أجاويد. فتركيا كلها عزيمة وعنفوان لوأد أي حلم كردي وتقويض أي مسعى في الانعتاق ولو في المهد. وهي كانت ومازالت على أهبة الاستعداد للانقضاض في أي لحظة وفي أي مكان على أي جهد كردي في الحرية والاستقلال سواء في كردستان تركيا أو في بقية أجزاء كردستان المحاذية ونيابة عن أنظمة الدول المجاورة الأخرى التي تشترك معها في الهم الكردي.
تركيا مدججة بإرثها التاريخي الحاقد ضد الكُرد والخانق بقسوة لكافة محاولاتهم في الحرية. ولطالما تبوأت المرتبة الأولى بين بقية الدول المجاورة المضطهدة للشعب الكردي في محاربة ومطاردة الكُرد الأشرار وفق تصنيفها المقيت داخل وخارج أراضيها. وتركيا تعيش قمة السعادة عند إلحاق الهزيمة والأذى بالكرد بصرف النظر عما إذا كانوا من المسلحين أو المدنيين. فيكفي أن تكون كرديا طالحا حسب تصنيف تركيا حتى تلاحق وتعتقل وتقصف وتقتل.
والكردي الطالح وفق النظرة الرسمية التركية هو الذي يؤمن بعدالة قضية شعبه ويكافح من أجل إحقاق حقوق شعبه. أما الكردي الصالح في نظر الدولة التركية الحديثة والزعماء الذين تعاقبوا على رئاستها منذ 1923 وإلى الآن فهو الكردي المجرد من كرديته أو المستترك عقلا وروحا وقلبا ولغة والخانع والموالي لتركيا وفق دستورها العنصري الذي ينكر وجود شعوب ولغات أخرى في تركيا كالكُرد والأرمن والعرب وغيرهم ويعتبرهم جزءا من الأمة التركية. ويقول بيشيكجي “تستخدم تركيا المقولة التالية: لا توجد أمة كردية، إنهم جميعا من الأتراك”. ولذلك كانت تركيا الرسمية والمجتمعية تسمي الكُرد حتى أواخر القرن الماضي بأتراك الجبال. ثم استعاضت عن تلك التسمية العنصرية بتصنيف مسموم وعنصري آخر فحواه الكردي الجيد، أي المشلول وشبه الميت الذي لا يطالب بشيء ويستكين لإرادة السلطان أردوغان والكردي السيء الذي يعتز بكرديته ويعارض السلطان ويطالب ويدافع عن عدالة قضية شعبه.
وما يشجع تركيا للذهاب بعيدا في حربها العدوانية المفتوحة ضد الكُرد “الأشرار” وفق فرزها العنصري الممقوت، غض الطرف من قبل المجتمع الدولي المصبوب والمجبول من النفاق وخاصة الولايات المتحدة التي تمنحها الضوء الأخضر للقيام بالاعتداءات والمطلعة مسبقا على نيتها بتنفيذ العدوان. وكذلك مباركة بعض القوى الكردية السورية والكردستانية ضمنيا وعمليا للاعتداءات التركية ضد الأهداف المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية في روج آفاي كردستان وتسويغ تلك الاعتداءات وفق الأسطوانة التركية المشروخة.
كافة المؤشرات تدل على أن تركيا ستتمادى في غيّها ضد الكُرد إلا إذا رفع جميع الكُرد راية الاستسلام أو إذا نجحت في تحويل كل الكُرد من أشرار ومخربين ومتمردين إلى خيرين وصالحين وخانعين حسب قاموسها الغارق في العنصرية. وبما أنه من المحال تحقيق هذا الحلم التركي فإنه لا بوادر توحي بأن المشهد العام قد يتغير على المديين القريب والبعيد إلا إذا ظهر تورغوت أوزال جديد في أنقرة يقلب الطاولة ويغير المعادلة رأسا على عقب ويوقف إرهاب الدولة التركية المنظم ضد الكُرد في كل مكان ويعثر على حل عادل للقضية الكردية في تركيا من شأنه الإتيان بالسلام المستدام ووضع حد للنزيف المسال منذ عشرات السنين والذي يذكيه السلطان أردوغان وحاشيته المدججون بالعنصرية التركية والإسلام السياسي معا.
*كاتب سوري كردي
المصدر: صحيفة العرب اللندنية
[1]