كرم سعيد
باحث متخصص في الشأن التركي- مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام
لم تغب إيران وتركيا عن المشهد العراقي منذ سقوط نظام صدام حسين في العام 2003، وإن كانت المواقع والأدوار التي شغلتها كل منهما ظلت متغيرة ومتعارضة في أوقات كثيرة، خاصةً في ظل اتجاه البلدين إلى زيادة نفوذهما السياسي والعسكري في مناطق الأزمات بالإقليم، وفي الصدارة منها سوريا والعراق.
ومنذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وثقت طهران علاقتها بالتيار الشيعي الذي أصبح في صدارة المشهد السياسي، أما أنقرة فقد انخرطت بقوة في بناء علاقات اقتصادية وتجارية قوية مع إقليم كردستان، وتحول الإقليم لاحقًا إلى جسر للتجارة التركية إلى العراق ودول الخليج العربي، بعدما انقطعت العلاقة بين أنقرة ودمشق في أعقاب اندلاع الأزمة السورية. أضف إلى ذلك أن نفط كردستان إلى العالم الخارجي يمر عبر الأراضي التركية.
أولًا: #كركوك# مدخل لتجميد الخلاف الإيراني- التركي
تبقى مساحات لصناعة تفاهمات بين إيران وتركيا، فرضتها التقلبات في بورصة الاحتمالات والسيناريوهات المتعددة التي خيمت على العراق، وآخرها استفتاء إقليم كردستان الذي أجري في 25 سبتمبر الماضي (2017)، الذي رأته أنقرة وطهران تهديدًا لأمنهما القومي، فعملت السلطات المركزية في البلدين على إعاقته ومحاولة وأده، ودفعت حكومة بغداد لإبطال مجريات ونتائج هذا الاستفتاء باستخدام كافة الأدوات السياسية والدستورية، ثم كانت معركة كركوك في 16-10-2017فرصة لتجميد الخلافات الإيرانية التركية.
والأرجح أن استعادة المناطق المتنازع عليها في كركوك تعد نقطة تحول جوهرية في إجهاض خطة استقلال إقليم كردستان، خصوصًا بعد رفض رئيس الإقليم مسعود بارزاني خطط محلية ودولية تضمنت إشراك المحكمة الاتحادية في إيجاد حل لمسألة الاستفتاء على الانفصال، وإدارة مشتركة للمنافذ الحدودية والمناطق المتنازع عليها، ووضع سقف زمني جديد لتطبيق المادة 140 من الدستور.
كما مثلت معركة كركوك فرصة أيضًا لتعضيد التنسيق الإيراني- التركي، خاصة بعد رفض مسعود برازاني إعادة النظر في الاستفتاء، وسيطرة بغداد على البنى التحتية والقواعد العسكرية التي سيطر عليها البشمركة خلال مرحلة الفوضى التي سادت العراق بعد هجوم تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014.
وقد نجحت القوات العراقية بمشاركة وحدات الحشد الشعبي -الذراع العسكرية لإيران داخل العراق- من السيطرة على مدينة كركوك، وأنزلت علم كردستان عن مبنى المحافظة بعد عملية عسكرية انتهت بأقل الخسائر، خصوصًا بعد انسحاب قوات البشمركة التابعة لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني من مواقعها، لتخلي الطريق أمام تقدم القوات الاتحادية.
وتشير نجاحات عملية استعادة كركوك، وتوقيتها، في أحد جوانبها، إلى تصاعد الدعم الإيراني والتركي لبغداد على الأرض، فقبيل انطلاق العملية خاضت عناصر الحشد الشعبي المحسوبة على طهران مواجهات بالأسلحة مع قوات البشمركة في محيط مدينة طوزخورماتو، وهي إحدى المناطق المتنازع عليها في شمال محافظة صلاح الدين.
واتخذت طهران موقفًا معارضًا للأكراد منذ بداية الأزمة التي اندلعت على خلفية استفتاء إقليم كردستان، واتفقت مع بغداد وأنقرة على الرد على الاستفتاء الذي أيد غالبية الأكراد المشاركين فيه الاستقلال.كمامنعت الجمارك الإيرانية نحو 600 صهريج وقود من عبور الحدود مع كردستان العراق.
وفي هذا السياق، اتهم إقليم كردستان العراق قوات الحرس الثوري الإيراني بقيادة الهجوم العسكري الواسع النطاق على مدينة كركوك المتنازع عليها شمالي العراق.
في المقابل، تبنت أنقرة سياسات اقتصادية ضد الإقليم عشية الاستفتاء، وذلك من خلال تقليص التعاملات التجارية مع إقليم كردستان، خاصة المتعلقة بتصدير النفط. كما شددت تركيا القيود على المعابر الحدودية بينها وبين الإقليم وصولًا إلى الحصار الاقتصادي والتجاري والمالي الشامل عليه، في ظل درجة متقدمة من التنسيق مع كل من العراق وإيران. كما أوقفت رحلات الطيرن إلى شمال العراق، وأجرت مناورات عسكرية مشتركة مع العراق، بالتزامن مع مناورات إيرانية- عراقية على حدود كردستان وسط تهديدات من الطرفين بمعاقبة قيادة الإقليم. وتعد المناورات المشتركة بين إيران والعراق هي الأولى منذ 1979.
وبالإضافة إلى هذه الإجراءات التركية والإيرانية المهمة، والتي لعبت دورًا مهمًا في دعم مواقف الحكومة العراقية، وعملية السيطرة على كركوك، فقد تزامن مع هذه الإجراءات صدور تصريحات مهمة عن المسئولين الإيرانيين والأتراك كان لها دورها المهم هي الأخرى في تأكيد مواقف البلدين من الاستفتاء وتداعياته. من ذلك على سبيل المثال، تصريح علي أكبر ولايتي، مستشار قائدة الثورة الإيرانية، إن هزيمة الأكراد في كركوك أفشلت مؤامرة بارزاني ومن خلفه الكيان الصهيوني.
ثانيًا: طهران وأنقرة: حدود المكاسب والدوافع
يظل السبب المعلن والرسمي للدعم الإيراني- التركي لبغداد يندرج ضمن ترتيبات الحفاظ على وحدة أراضي العراق، وعدم شرعية استفتاء الاستقلال في شمال العراق، فضلًا عن طبيعة العلاقة الاستراتيجية بين إيران والعراق، إضافة إلى أن اعتبارات الأمن القومي لطهران وأنقرة، والتي تفسر جانبًا مهمًا من سياستهما تجاه العراق. لكن ليس ما سبق هو الجانب الوحيد لكلا البلدين في مساندتهما حكومة العراق في استعادة كركوك والمناطق محل النزاع.
1- تركيا: دوافع مهمة ومكاسب محدودة
رغم أن تركيا دخلت في جدل ساخن مع حكومة بغداد عشية معركة تحرير الموصل في 17 -10- 2016، بعد رفض حكومة العبادي مشاركة تركيا في تلك المعركة، تجد نفسها اليوم مضطرة لمساندة بغداد في معركة كركوك، إذ تسعى إلى جانب تعظيم وجودها سياسيًا وعسكريًا في العراق إلى موازنة الدور الإيراني المهيمن على صناعة القرار في بغداد. كما أن الدعم التركي للعراق مرتبط مباشرة بحزب العمال الكردستاني وتصاعد نفوذه في جبال قنديل وكذلك سنجار، خاصة أن الورقة الكردية تعد محددًا أساسيًا في رسم سياسات الحكومات التركية، داخليًا وخارجيًا. وترى أنقرة أن التحالف مع بغداد وطهران فرصة متاحة ضد الصعود الكردي، فالأكراد يشكلون سببًا رئيسيًا في تبريد العلاقة بين أنقرة وطهران، حيث باتت الأولوية لديهما هي العمل على وأد الطموحات الكردية في العراق وسوريا، حتى لا تغري أشقاءهم الساعين بدورهم لتحقيق حلم الانفصال عن طهران وأنقرة.
وفي السياق ذاته، ربما تمنح معركة كركوك الوجود العسكري التركي شمال العراق نوعًا من الشرعية الضمنية، بعد أن كانت حكومة العراق تعتبرها قوة احتلال. وتتواجد تركيا عسكريا في العراق منذ العام 1994 بموافقة حكومات البعث زمن صدام حسين لمطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني والمساهمة آنذاك في فك النزاع الداخلي الكردي- الكردي الذي حدث بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني خلال الفترة (1994- 1998). ويقدر حجم القوات التركية في كردستان العراق ومناطق أخرى داخل البلاد بحوالي 3000 جندي، وذلك وفقًا لتقرير صادر عن البرلمان العراقي عام 2007. كما أسست تركيا في العام 2015 قاعدة بعشيقة شمال شرق الموصل، تحت مسمى الحشد الوطني بزعامة أثيل النجيفي، بهدف تدريب مقاتلين عرب وتركمان.
لكن إذا كانت تركيا من الناحية الاستراتيجية قد ربحت من دعم بغداد في معركة كركوك وتوسيع حجم التنسيق مع طهران داخل الساحة العراقية، فالأرجح أنها فقدت في المقابل حليفها مسعود البرازاني، والعلاقة الاستراتيجية مع إقليم كردستان، بعد أن نجحت في تأسيس علاقة اقتصادية وتجارية مع الإقليم قبل حوالي عقد ونصف العقد، وصل خلالها حجم التبادل التجاري بين تركيا وإقليم كردستان نحو 5 مليارات دولار، بينما يقدر حجم الاستثمارات التركية في الإقليم بحو 40 مليار دولار.
على صعيد آخر، ربما لا تنجح تركيا في تعظيم تأثيرها على القرار السياسي لبغداد التي ما زالت تدور في فلك طهران، بينما تبدو أنقرة مرشحة أن تفقد جانبًا معتبرًا من الخصوصية السياسية التي جمعتها مع إقليم كردستان، لاسيما أنها ارتبطت مع بارزاني بعلاقات سياسية مميزة راهنت خلالها أنقرة عليه لإضعاف حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره منظمة إرهابية.
خلف ما سبق، فإن التحالف التركي مع إيران وبغداد ربما يؤدي إلى إحداث مزيد من التصدع في العلاقة بين أنقرة وواشنطن، خاصة أن تركيا تبدو غير مطمئنة لأي تعهدات أمريكية بشأن احتمالات تأسيس دولة كردية في الشمال السوري على الحدود التركية، وكذلك الموقف الأمريكي الفاتر في الضغط على إقليم كردستان لوقف الاستفتاء، بينما تبدو واشنطن قلقة بشأن تصاعد التنسيق بين أنقرة وطهران التي تعتبرها واشنطن محركًا للفتنة الطائفية والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، ويهدد الرئيس ترامب بنسف الاتفاق النووي معها.
2- إيران: تعظيم الأرباح
بعد نجاح العراق في فرض هيمنته على كركوك، وقسم مهم من المناطق المتنازع عليها، باتت إيران اللاعب الأهم والأبرز على الساحة العراقية.فقد أصبح لإيران اليد العليا في إدارة الصراع الراهن بالعراق، لاسيما أن معركة كركوك لم تؤدِ إلى تقويض وحدة الأكراد فقط، لكنها عززت أيضًا من دور الميليشيات المدعومة من طهران، وعلى رأسها الحشد الشعبي. بل بدت ميليشا الحشد الشعبي، ومن خلفها إيران، وكأنها القائمة على حراسة الوحدة الوطنية العراقية، وليست قوى تدعم الطائفية في العراق. وسعت ميلشيا الحشد الشعبي عبر معركة كركوك إلى تحسين صورتها الذهنية في الوعي الجمعي العراقي، ونفي صفة الطائفية عنها. ولم يكن كل ذلك ليحدث لولا الفراغ الذي خلفه انهيار الجيش العراقي، والذي نجحت القوى الطائفية والميليشيات الشيعية في ملئه.
وقد نجحت إيران من خلال الميلشيات الشيعية الموالية لها في مأسسة وجودها في العراق، ففي 26 -11- 2016 مرر البرلمان العراقي قانون الحشد الشعبي. وبموجب هذا القانون تعتبر فصائل وتشكيلات الحشد الشعبي، كيانات قانونية تتمتع بالحقوق وتلتزم بالواجبات باعتبارها قوة رديفة وساندة للقوات الأمنية، ولها الحق في الحفاظ على هويتها وخصوصيتها.
وراء ذلك، فإن استعادة بغداد سيطرتها على كركوك الغنية بالنفط والمناطق المتنازع عليها بدعم إيراني، ربما يوفر بيئة خصبة لإيران لإنجاز بناء قاعدة عسكرية إيرانية تطمح إليها في القيارة جنوب الموصل، وهو الأمر الذي قد تنعكس تداعياته المحتملة على دول المنطقة، وبخاصة تركيا منافس طهران الإقليمي. أضف إلى ذلك، فإن نجاح عملية كركوك يسهل هدف إيران في إعادة التركيبة الديموغرافية للمناطق السنية والكردية في العراق لمصلحة الكيانات الشيعية.
على صعيد آخر، نجحت إيران بعد معركة كركوك في وضع السياسية الأمريكية تجاه بغداد وأربيل في موقف حرج، من خلال الوقوع في خطر تقويض سلطة العبادي إذا ما انتقدت الحكومة العراقية بشكل علني، أو افتراض خيانتها للأكراد والوقوف في صف إيران في حال لم تقم بذلك.
وفي الوقت الذي عززت فيه إيران من نفوذها في بغداد، يشهد الدور الأمريكي بعض الارتباك، فبينما تدرس واشنطن إيقاف برنامج تدريب وتجهيز القوات العراقية في حال استمرار الهجوم ضد الأكراد العراقيين، انعكست التطورات التي شهدتها كركوك والمناطق المتنازع عليها سلبًا على إقليم كردستان الذي يحظى بعلاقة مميزة مع الولايات المتحدة، فإضافة إلى تصاعد الانشقاقات داخل حزب الاتحاد الوطني، تشير بعض المؤشرات إلى تفاقم الصراع الكردي- الكردي، بعد اتهام الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه مسعود بارزاني قوات الاتحاد الوطني الكردستاني بالخيانة بعد أن سلم مواقعه للقوات الأمنية العراقية في كركوك.
خلاصة القول، إن معركة كركوك كشفت عن تصاعد الأوزان الإقليمية والفواعل الدوليين في العراق، لكن تبقى إيران هي الرابح الأكبر، بينما تظل مكاسب تركيا محدودة، فقد نجحت في تعطيل حلم الاستقلال الكردي عن العراق وهبطت بسقف طموحات أكراد الداخل التركي، لكنها دخلت في المقابل في علاقة شائكة مع إقليم كردستان الذي يمثل رقمًا صعبًا في معادلة الاقتصاد التركي الذي يعاني تراجعًا منذ نحو عام ونصف العام. وتبدو العلاقة مرشحة للتراجع بعدما وجه الرئيس التركي في 18 -10- 2017 انتقادات حادة إلى بارزاني في اجتماع له مع عمد القرى والأحياء التركية، وذلك عندما قال: بأي حق تقول أن كركوك لك؟ ما عملك هناك؟، وأضاف أن التاريخ يؤيد عكس ما يدعيه رئيس إقليم كردستان العراق.[1]