خالد جميل محمد
تعريف بالبحث
تقسيم كوردستان العثمانية إلى دولتي سوريا والعراق بحثٌ أنجزه الدكتور آزاد أحمد علي ، ونشره مركز رووداو للدراسات في طبعته الأولى عام 2023 ميلادية / 2723 كوردية، وتوزع على خمسة أقسام، وسبعة وعشرين فصلاً. وهو بحثٌ يسدُّ فراغاً في كلٍّ من المكتبة العربية والكوردية على حدٍّ سواء. اتّبع فيه مؤلفُه منهجيةً علميّة تمثلت في الاعتماد على أدلةٍ ووثائقَ متعددةِ المصادرِ والمراجع، انطلاقاً من فروض أوّلية، تكلَّلَت بنتائج تجسدت في خلاصةٍ استجمعت النقاط الرئيسة التي بُنِيَ عليها البحث انطلاقاً من التعريفِ بكوردستان العثمانية، مروراً بمراحل تاريخية عديدة، حتى أيامنا هذه، حيث أتى بأفكار جديدة تتعلق بالإمارات الكوردية واستقلالها، فضلاً عن استنتاجه مصطلح الشعوب الراسخة التي أثبتت وجودها الاجتماعي – المعاشي المنظم قبل تبلور أشكال الدولة الأولية.. ورغبة مجتمعات تلك الشعوب في التعبير عن نفسها، والمطالبة بحق الحكم المحلي والسيادة على مناطقها، إضافة إلى دَلالة العمران الريفي كمؤشر لاستمرارية تلك الشعوب،وربط تلك المراحل التاريخية العريقة بالمراحل المتأخرة وسياسات التعريب وإنكار الوجود الكوردي الأصيل في مناطق الجزيرة الفراتية. وقد أحاط المؤلف بمختلف الجوانب التاريخية، الجغرافية، السياسية، السكّانية، الفكرية واللغوية لهذا البحث التفصيلي في موضوعات تاريخية متشعّبة، أراد الباحث منها أن يُغني المكتباتِ بمادة تهدف إلى إزالة اللَّبْس عن قضايا يشوبها الغموضُ والتشويش.
في تفاصيل الالتباسات التاريخية
تتبَّع بحثُ تقسيم كوردستان العثمانية إلى دولتي سوريا والعراق جذور المجتمعات الكوردية، وتطورها السياسي في مراحل تاريخيه أسست لما عرف بمفهوم كوردستان العثمانية في دلالة على أرض كوردستان التي سيطرت عليها الدولة العثمانية على امتداد قرون طويلة، ثم تبعات تلك السيطرة في مختلف المجالات الجغرافية، التاريخية، السياسية، الاقتصادية، الديمغرافية والقومية، وانعكاساتها على حاضر ومستقبل الشعب الكوردي الذي أثبت البحث بأدلة تاريخية ووثائق واضحة أصالة وجوده على هذه الأرض المحاذية للأراضي التي سيطر عليها العثمانيون الوافدون من جهة الشمال والأراضي التي سيطر عليها العرب الوافدون من جهة الجنوب، إضافة إلى تعرُّض أرض كوردستان أيضاً إلى هيمنة تينك القوّتين الوافدتين كلّ منهما من جهةٍ.
قاربَ البحث موضوعات مختلفة، وتوسّع في دراسة جذر كلٍّ من مصطلحَي (كورد) و(كوردستان)، فضلاً عن مقاربة الإمارات الكوردية والمجتمعات الكوردية في تلك المناطق والمجتمعات العربية المتداخلة معها جغرافياً والعلاقات التي تربط تلك المجتمعات بعضها مع بعض. والتركيز على مسألة انتقال تلك المجتمعات الكوردية من نظام الإمارات والحكومات المستقلة، إلى مرحلة التحالف مع العثمانيين، ثم الولاء والاندماج في السلطنة العثمانية، وصولاً إلى منعطف ما بعد الحرب العالمية الأولى التي عرضت المجتمعات الكوردية المنضوية تحت سلطة الدولة العثمانية لزلزال سياسي وحضاري، تسبَّبَ في تفككها، ثم غُيِّبَ دورها السياسي. وفي المحصلة خسر الكورد بصفتهم أمةً حقَّهم في السيادة السياسية، وحرموا من فرصة تشكيل الدولة القومية الموحدة. كذلك توصل البحث إلى أن مصطلحَي (كورد) و(كوردستان) كانا يردان كثيراً في الأدبيات العثمانية، حتى عهد الاتحاديين القوميين الترك، عندها بدأ التعتيم على المصطلح أولاً، ومن ثم تشويهه، واستبعاده عن الاستخدام في الكتب والمداولات الإدارية والسياسية. وأخيراً تم تحريم وتجريم من يتداولها، وتم تعريفها وتوصيفها بجنوب شرق الأناضول.
أوضح البحثُ المقصدَ من مفهوم كوردستان العثمانية مبيناً أن المراد منه ذلك الكيان السياسي والإداري الأخير الذي ولد كثمرة لتفاعل حضاري وعمراني وسياسي لأغلب الحكومات والإمارات الكوردية عبر الزمن المديد. وأعلن عن تأسيسه رسميّاً كإقليم كبير (إيالة كوردستان) في جريدة (تقويم الوقائع)، وذلك في 5 محرم 1264 هجرية الموافق ل 14 -12-1847 ميلادية. وكان الإعلان أيضاً ذات علاقة وثيقة بإنهاء حركة بدرخان بك، وقيادته لمشروع اتحاد واسع بين الإمارات الكوردية الراغبة في نيل الاستقلال والتخلص من الوصاية العثمانية.
تتشعب اتجاهات هذا البحث في مجالات عديدة، في الجغرافيا، والتاريخ، والسياسة، مبيناً دور القوى الكولونيالية في إعادة رسم حدود دولتي سوريا والعراق تزامناً مع ولادة تركيا الجمهورية بحدودها الجديدة، التي احتفظت فقط بجزء من إيالة كوردستان العثمانية. في حين ضم قسم كبير من مناطق وولايات كوردستان العثمانية إلى دولتي سوريا والعراق، خلال طور تشكلهما الذي دام لفترة طويلة بين الحربين العالميتين (1920 – 1940)م ثم بيّنَ البحث كيف ضُمَّت مناطقُ من كوردستان إلى الكيانين الجديدين وألحقتْ بهما، بموجب معاهدات واتفاقيات دولية صاغتها القوى الكولونيالية المنتصرة.
في سياق الكشف عن جذور المعضلة التاريخية والسياسية التي جعلت كوردستان العثمانية على النحو الذي وسمت به في عنوان الكتاب، يقدم البحث إجابات عن أسئلة كثيرة لم توردها دراسات أو أبحاث سابقة في هذا المجال، ولم تتحرَّ تلك الدراساتُ والأبحاثُ الحقائقَ ذاتَ العلاقة الوثيقة بفكرة اللُّحمة العربية التي ذهبَ البحث إلى أنها تشكل خلفية تاريخية في تأمين أسطورة وسردية داعمة لحق السيادة العربية على مناطق واسعة من سوريا والجزيرة الفراتية والعراق، قادت إلى سياقات تشكُّلِ دولتي سوريا والعراق بحدودهما الحالية، في إطار طريقة من التفكير لا تنفي الاعتراف بخصوصية المجتمعات الكوردية وغيرها فحسب، بل تسعى إلى ترسيخ عملية صهر تلك المجتمعات في بوتقة المجتمعات العربية بصورة وجدت لدى قسم كبير من النخب العربية دعماً وتأييداً لها.
تداخُلُ تفاصيلِ تلك الالتباسات التاريخية والجغرافية والسكانية والسياسية، قاد هذا البحث نحو آفاق التنقيب عن الحقائق في السرديات العربية وغير العربية، بهدف معالجة قصة تبلور إيالة كوردستان العثمانية أولاً، وسياقات انتقال أقسام منها إلى دولتي العراق وسوريا تالياً، فكان مهماً أن يجري البحث في الحدود الجغرافية والطبيعية والإدارية لتلك الإيالة، إلى جانب الاهتمام بما يتعلق بالعمران والسكان، رداً على مزاعم نادى أصحابها بفكرة (هجرة الكورد الى سوريا) استناداً إلى خطاب الحكومات العربية المتعاقبة التي تنكّرت لأصالة الوجود الكوردي في منطقة الجزيرة الفراتية وأصالة وخصوصية ما سمّاها البحث ب المجتمعات الراسخة المتعددة الثقافات والواسعة الانتشار.
أصالة الشعوب الراسخة
استند البحث في جزء مهم من تفاصيله إلى مصطلح الشعوب الراسخة وبيّن أنه يدلّ على ظاهرة وجود شعوب قديمة أثبتت وجودها الاجتماعي – المعاشي المنظم قبل تبلور أشكال الدولة الأولية، في سعيٍ دؤوب إلى بَلْوَرة هُوِيَّتها اللغوية والثقافية منذ فجر التاريخ، ومن ثَمّ ثباتها في أرضها لمراحل تاريخية طويلة، وسيطرة نمط الحياة الفلاحية بشقيه الزراعي والحيواني على نظامها الإنتاجي الاجتماعي، وتحقيق قدر كبير من الاكتفاء الذاتي الذي سبَّبَ لها الركود والثبات، عكس الشعوب البدوية غير المرتبطة بالأرض والزراعة، والتي اتسمت بالتنظيم العسكري والانتظام السلطوي التراتبي. وكانت ديناميات المجتمعات الرعوية تنبثق من فقرها وحاجتها إلى التنقل والحركة الدائمة.
لإثبات خصوصية تلك المجتمعات الراسخة، توجه البحث نحو تحديد هُوِيَّة تلك المجتمعات، وهي هُوِيَّة إثنية أولاً، وهذا ما دفع الباحث إلى تخصيصِ أكثر من فقرة للبحث في هُوِيَّة الشعب الكوردي من حيث مصطلح (كورد) على امتداد مراحل تاريخية طويلة، استناداً إلى مختصين في الشأن الكوردي / الكوردولوجي من أمثال مينورسكي الذي أحال إليه البحث ما ينصُّ على أن أصل الكورد أو بعبارة أدق أول ظهورهم في كوردستان، مسألة لا تزال تدور حولها المناقشات وتتمخض عنها آراء متناقضة ثم انتقل إلى تبيان أن بعض العلماء المعاصرين يقسمون الشعوب التي لها علاقة بالأسماء المذكورة إلى قسمين: القسم الأول (وبصورة خاصة الكاردوخيين) يقولون فيهم إنهم ليسوا من أصل آري، لكن يعتبرون الكورتيين الذين يعيشون في القسم الشرقي من بلاد الكاردوخيين هم من أجداد الأكراد. بحسب تعبير مينورسكي، كما أحال إليه البحث.
بعد ذلك تحرّى البحث كلاً من مصطلحي (كورد) و(كوردستان) معتمداً على ما تشير إليه بعض الوثائق والمعطيات الأركولوجية الى أن اسم (كورد)، أو كوردا قد ورد في رقم طينية قديمة ضمن أرشيف قصر زمرليم في مملكة ماري على الفرات الأوسط، وذلك في أوائل الألف الثانية قبل الميلاد. وقد أحالَ شرحَ ذلك إلى ما أورده الدكتور جمال أحمد رشيد في هذا المجال بقوله إن إقليم الجزيرة الواقع شمال شرقي سورية اشتهر منذ فجر التاريخ بمستوطناته الزراعية التي سجلت أخبارها في الألواح الحثية والبابلية القديمة، وكان من أشهرها مستوطنة نيلابشينو ويمكن قراءتها ليلابسينوم المعروف الآن بتل براك، وكان طبوغرافياً في اتصال مباشر مع كل من مملكة أوركيش الحورية التي نشأت في وادي نهر الخابور ومقاطعة أشناككوم (شهربازار) وكخات (تل بري)، وكلها كانت تحيط ببلاد عرفت في هذه الألواح ببلاد الكورد (Mat Kurda Ki) التي شملت الأراضي الواقعة على نهر الخابور بشمال الحسكة ووادي عامودا وتل أسود التي تعرف اليوم باسم جغجغ. وعلى هذا الأساس، فإن الصيغة الطبوغرافية (كوردا) تعتبر، باعتقادنا، أقدم وأقرب الأشكال التأريخية إلى صيغة الكنية القومية للأمة الكوردية المعاصرة.
استمرّ البحث في عملية التقصّي التفصيلي لتحديد هُوِيَّة ال(كورد) و(كوردستان) معتمداً على نصوص قديمة كالمدونات الآرمية والرومانية والآشورية والسومرية ما وردَ على لسان هيرودتوت إضافة إلى ما دوّنه البلدانيون العرب وغيرهم، حيث خمّن البحث احتمال رواج مصطلح كردوخي أكثر من غيره إبان الحكم اليوناني فالروماني للمنطقة، إذ جاء فيها أن الكردوخيين سكنوا جنوب نهر (بهتان = نهر بوتان) في كوردستان تركيا. وبعدما يصب هذا النهر في دجلة فإن الأخيرة كانت تشكل الحدود الغربية لمناطق الكردوخين. وكانت حدودهم تنتهي في الجنوب بانتهاء المواقع الصخرية قرب قرية المنصورية، وبذلك فإن مواطن الكردوخين كانت تشمل منطقة بهتان (بوتان) الكوردية في تركيا.
أما المضامين المتعلقة بهذا الموضوع في السرديات العربية فقد أخذت في هذا البحث حيّزاً واسعاً، خاصة ما أورده ابن الوردي، المقدسي، الطبري، المسعودي، البلاذري، ابن الفقيه وابن فضل الله العمري، حيث جاء في البحث أن مفردة (كُرْد) بهذه الصورة التي ترد في المعاجم والسرديات العربية في المرحلة الإسلامية وتعمق استخدامه واتَّسع ليعبّر عن مجموعة إثنية خاصة واسعة الانتشار، بل عرف به قوم من الأقوام في الجوار العربي.
في السياق نفسه، قارب البحث مصطلح الجزيرة الفراتية بطريقة متمايزة عمّا اصطلح عليه خطاب الحكومات السورية وكثير من السرديات العربية بمصطلح الجزيرة السورية أو بلاد ما بين النهرين في دلالة على الأراضي الواقعة بين نهري دجلة والفرات، محيلاً في ذلك إلى ما حدّده أبو الفداء الأيوبي ذاكراً أن الجزيرة هي البلاد التي بين دجلة والفرات، وإلى البلداني ابن فضل الله العمري الذي بيّن أن حدود بلاد الكورد تحتوي على أغلب، إن لم تكن تحتوي على كل مناطق الجزيرة الفراتية، وبذلك يكون قد خطا خطوة غير مسبوقة في تعريف وتحديد بلاد الكورد من جهة، ورسم حدودها بدقة من جهة أخرى، وكما يكون في الوقت نفسه قد أضفى صفة أقوامية موحدة، قد يكون ترجيحاً لصفة الأغلبية السكانية، وتعميمها على جغرافية واسعة تحتضن الكورد إضافة إلى غيرهم من الإثنيات والمجتمعات الراسخة. ولأنه عملياً قد نسبها كلها وصنفها ضمن (بلاد الأكراد).
من الإمارات الكوردية إلى كوردستان العثمانية
أشار البحث إلى أن الإمارات الكوردستانية شكلت حكومات متقدمة في سياقاتها الزمنية، وقلما توافرات ما يوازيها في العوالم التقليدية عصرئذ، حيث حققت إنجازات وقفزات على الصعد كافة، بما فيها العلمية والعمرانية، وخاصة الإمارة – الدولة الدوستكية المروانية (973 – 1094)م، التي كانت تعد النواة المتقدمة والصلبة لسلطة الخلافة العباسية في الوقت نفسه. حتى أن هذه الإمارة الكوردية النوعية المتقدمة قد مهدت السبل لبروز الممالك الأيوبية في بلاد الشام والجزيرة الفراتية.
أوضح أيضاً أن السلطات العثمانية اختلقت نزعات التنافس والصراع بين السلالات الكوردية الحاكمة، وصراعات المراكز الحضرية بمضامينها الاجتماعية والاقتصادية، في سياسات إلغاء الاستقلالية المحلية، وترسيخ السلطة المركزية، لذلك استثمرت جذور الصراع بين المراكز الحضرية الثلاثة الأهم في الجزيرة الفراتية، الموصل وجزيرة ابن عمر وآمَدْ (ديار بكر)، في إنهاء استقلالية إمارة بوتان وتفريغها من محتواها القومي. ثم أعلن عن تشكيل إيالة كوردستان العثمانية التي دامت خلال أعوام (1847 – 1868)م، أي مدة قاربت إحدى وعشرين سنة.
استناداً إلى نتائج أبحاث الإثنوغرافي والجغرافي البريطاني مارك سايكس وغيره، توصل هذا البحث إلى أن أغلبية سكان دير الزور كانوا في أواخر القرن التاسع عشر كورداً، حتى أن قسماً منهم لا يتكلم العربية، لكنه رأى أن بالإمكان الإقرار بأن مجتمع دير الزور الحضري الكوردي الأصل كان قد انقطع عن محيطه الاجتماعي، وفقد تدريجياً الثقافة والعادات واللغة الكوردية، وخاصة بعد أن مزقت الحرب العالمية الأولى الكيانات الإدارية في السلطنة العثمانية، ومن ضمنها مناطق إيالة كوردستان والجزيرة الفراتية، حتى انقطعت سهول الجزيرة الفراتية عن محيطها الحضري، وكانت سهول الجزيرة عهدئذ مكونة من مجتمعات ريفية ضعيفة وهشة، يسود في أغلب مناطقها البداوة، وبدأت العائلات ذات الأصول الكوردية في مدينة دير الزور تتأثر بالعرب بوتيرة أسرع، بعد أن فقدت تواصلها مع المحيط العشائري والريفي الكوردي، في ظلّ تزايد نفوذ القبائل العربية على مدينة ديرالزور. بعدها عملت فرنسا على ضمّ منطقة شرق الفرات أو الجزيرة إلى سوريا، استناداً إلى التسويات السياسية في عدد من الاتفاقيات الدولية، ومن ثم رسمت حدود سوريا الشمالية والشرقية بحسب اتفاقيات الحدود مع الحكومتين التركية الكمالية، والعراقية – البريطانية الفيصلية.
أوضح البحث أن التنقلات القبلية والهجرات البدوية أثّرت في بنية الجزيرة الفراتية، بل قلبت الموازين الديمغرافية وتالياً السياسية، لدرجة أن اتسمت أحياناً بسمة الغزوات المسلحة المدمرة للحواضر، حتى انكمشت المجتمعات نصف المستقرة، والحضرية الكوردية، فضلاً عن العربية الريفية المتناثرة على ضفاف الأنهر. لقد جرفت هجرة البدو لكل من شمر وعنزة، المعروفتين كهجرتين متأخرتين وكبيرتين نسبياً معظم المجتمعات القديمة في الجزيرة والعراق، وسببت في هزة اجتماعية وسياسية كبرى. ومن جانب آخر كان لسياسات الانتداب دور كبير في ترسيخ عملية توطين العرب الرحّل في تلك المناطق بهدف إحداث التغيير الديمغرافي الذي نزع عن الجزيرة الفراتية خصوصيتها الكوردية، وهو ما تمثل لاحقاً في التعريب السياسي الذي امتدّ ليشمل جميع مناطق الجزيرة الفراتية بمستوطنات صارت أمراً واقعاً فرضته ودعمته الحكومات السورية المتعاقبة.
من خلاصة البحث
أثبت البحث على امتداد أكثر من ستمئة صفحة، أن مشروع إيالة كوردستان العثمانية أواخر القرن التاسع عشر لم ينجح لأسباب تتعلق بغياب الدعم الخارجي أو الدعم الإقليمي لمشروع استقلال كوردستان، إضافة إلى مساهمة كل من بريطانيا وألمانيا وروسيا في مساعدة السلطنة العثمانية للقضاء على حركات التحرر القومي الكوردية، حيث كان لذلك كله تأثير في مستقبل إيالة كوردستان العثمانية، كذلك كان انتقال المجتمعات العربية إلى الفعالية السياسية في العصر الحديث، دورٌ في نشوء كل من دولتي سوريا والعراق والمساهمة بشكل غير مباشر في إلغاء استقلال كوردستان عن طريق نسف الكثير من ركائزها الجغرافية والديمغرافية، وتأمين بديلها الإقليمي الوظيفي للغرب الكولونيالي، حيث تضررت المجتمعات الكوردية من تفكك السلطنة العثمانية، بصورة مماثلة لتضررها السابق من وجود تلك السلطنة.[1]