البروفيسور #اسماعيل بيشكجي# - عالم اجتماع تركي معروف
ترجمة عن الكردية*: نواف بشار عبدالله
إن الموضوعَ الأكثر مناقشة في تركيا حول القضية الكردية، هوالحل. بدون شك، الكرد بدورهم يتحدثون عن الحل دوماً، الكرد يناقشون الحل. لكن، من الضرورة بمكان أن يتم توضيح هذا الموضوع بما فيه الكفاية قبل الحل. تُرى، ما هي الأسباب الأساسية لهذه القضية؟، متى باتت فيه هذه القضية قضيةً؟، وفي أية مرحلة تاريخية نشأتْ؟..إلخ.
في هذا المقال، سوف أحاول التوقف عند هذا الموضوع الهام، فالمرحلة الأساسية التاريخية لنشوء القضية الكردية هي مرحلة الحرب العالمية الأولى، أي مرحلة حروب التقسيم(تقسيم مناطق النفوذ-المترجم)، أي يمكن القول باختصار في مرحلة تأسيس جمعية الأمم.
من المعروف أن ميثاق جمعية الأمم يُعَدُّ القسمَ الأولي من معاهدات السلام، حيث تمَّ عقدُ كونفرانس السلام في باريس، وبدأتْ جمعية الأمم بالحياة منذ تاريخ 10/01/1920 مع التوقيع على معاهدة فرساي. في أعوام 1920-1921، وفي إطار جمعية الأمم، تكونت دولٌ جديدة على أرض الإمبراطورية العثمانية الناطقة بالعربية والكردية مثل العراق، والأردن وفلسطين كدول تحت الانتداب بقيادة بريطانيا العظمى، وسوريا ولبنان أيضاً كدولٍ تحت الانتداب بقيادة فرنسا. يمكن للمرء أن يفهم مصطلح الانتداب كأحد أنواع الاحتلال.
هنا، وحيال الكرد، ينبغي طرح هذا السؤال: ترى، لماذا تمّ قطعُ الطريق أمام تأسيس دولة كردستان في كونفرانس السلام بباريس أو في إطار جمعية الأمم؟، فعلى الرغم من مطالبة الكرد ونضالهم التحرري الطويل، فقد لقتْ آمالهم بتأسيس دولة كردستان رفضاً قاطعاً!. لماذا تمّ رفض دولة كردستان بقيادة بريطانيا العظمى أو فرنسا؟ ولماذا لم يسمحوا بتأسيس كردستان كدولة تحت الانتداب أو الاحتلال؟.لماذا لم يتم وضع كردستان تحت الانتداب في ذلك الوقت من الزمن كالدول الأخرى مثل العراق وسوريا، مثل فلسطين والأردن ولبنان؟..
على الرغم من قيام الكرد حينها بنضال تحرري شجاع لتأسيس دولة كردستان المستقلة بزعامة الشيخ محمود برزنجي، إلا أن الدول الكبرى لم تسمح بتأسيس كردستان، ليس هذا فحسب، بل تم تجزئتها بين سوريا والعراق الواقعتين تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني، وبين دولة تركيا الناشئة. بهذه الصورة، أصبحت بريطانيا العظمى(العراق)وفرنسا(سوريا) جارتين لبعضهما بعضاً، وهذا يعني أن كردستان كوطن والكرد كأمة، تمّ ابتلاعهما!!..في العقود1920و 1930و 1940 أصبحت تركيا جارة للعراق، أي لبريطانيا العظمى، وكذلك الأمر مع سوريا، أي أنها أصبحت جارة لفرنسا.
مارستْ هاتان الدولتان الإمبرياليتان ضغوطاً شديدة على الكرد الواقعين تحت سيطرتهما وتحركتا باهتمام وعزم كبيرين لعرقلة تحقيق المطالب القومية للشعب الكردي، ولهذا فإن سياسة التجزئة والتقسيم اللتين مورستا بحق الكرد قد أسفرتْ عن نتيجة كارثية تشبه تمزيق جسدِ إنسان، تشبه تحطيم دماغ إنسان!!. يقولون عن الحرب العالمية الأولى أنهاحرب التقسيم، في حقيقة الأمر، وفي سياق هذه الحرب وفي المرحلة التي أعقبتها، تمَّ تقسيم الكرد ووطنهم كردستان. وفي هذا السياق ايضاً، حدثَ هذا الأمر على الأرض العثمانية الناطقة بالعربية، حيث تمّ وضع العرب في دول مستقلة وأخرى تحت الانتداب، ولكن، وبغية إزالة اسم الكرد عن الألسن ومحوه من التاريخ، تمّ تقسيمهم وتوزيعهم بين دول الجوار، ومورست بحقهم السياسة الكلاسيكية :قسِّمْ، أخضع لإدارتك، إمحِ!. ولهذا، حاولت كل من كونفرانس السلام في باريس وجمعية الأمم الساعيتان لاستتباب الأمن والسلام العالميين، قد عملتا على فعل كل ما يناقض الاستقرار والسلام في كردستان، لأنه ووفقاً لهذا القرار، سيكون من الطبيعي جداً أن ينهض الكرد للمطالبة بحقوقهم وحريتهم، وسيؤدي ذلك حكماً إلى بروز حروبٍ وصراعات في مناطقهم.
إنني على قناعة بأن نقاشاتٍ ومحادثات واسعة كانت تجري بشأن الكرد وكردستان خلف الأبواب المغلقة بوزارة شؤون المستعمرات، وزارة الخارجية، وزارة شؤون إدارة الهند، وزارة شؤون الحرب والقوى الجوية في بريطانيا العظمى من نهاية عام 1919 ولغاية أوائل عام 1921 ولمدة 18 شهراً. كما جرت تلك المناقشات والحوارات في بغداد، القاهرة، دلهي الجديدة، وفي لندن واستانبول، وإنني أعتقد أنه نتيجة هذه النقاشات والحوارات، تمّ اتخاذ قرارتٍ أدت في نتيجتها إلى تحطيم مصير الكرد!! وإذا ما تمعن المرء في دراسة وثائق الإنكليز، تظهر ملامح تلك المرحلة جلية للعيان.
كما هو معلوم، فقد تمَّ تقسيم كردستان في القرن 17 السابع عشر (1639) بين الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الإيرانية بموجب معاهدة قصر شيرين، وتمَّ إلحاقُ قسمٍ من شمال كردستان الشرقية بالإمبراطورية الروسية في الربع الأول من القرن 19 التاسع عشر إثر الحرب التي جرتْ بين إيران وروسيا القيصرية، وكذلك خضعت كردستان قفقازيا إلى السيطرة الروسية بموجب معاهدة عام 1928.
لقد اتبعتْ دولتا بريطانيا العظمى وفرنسا، هاتين الدولتين الإمبرياليتين، القوتان العظميتان في الربع الأول من القرن 20 العشرين سياساتٍ معاديةً للكرد، ويظهر ذلك جلياً في الحرب العالمية الأولى بمعاهدة سايكس-بيكو التي وقعت في نيسان 1916ومؤتمر سان ريمو نيسان 1920، وكانت كل الحكومات المتعاقبة على السلطة في هاتين الدولتين منذ العام 1920 معادية للكرد وحقوقهم بصرف النظر عن كونها من المحافظين، الليبراليين، أو من اليساريين والشيوعيين، وكانت دوماً على علاقة طيبة مع الدول التي أخضعت الكردَ لسلطتها. وإذا أمعننا النظرَ في سياسة الاتحاد السوفييتي حيال الأكراد بأعوام 1920، نجد بأنها ليست بأفضل بأي حال من الأحوال من سياسات هاتين الدولتين، ولم تنظر إلى النقاط ال 14 للرئيس الأمريكي ودرو ويلسون بشأن حق تقرير مصير الشعوب الرازحة تحت نير الامبراطورية العثمانية، أو حق تقرير المصير الذي كان يرددها المسؤولون السوفييت، ولم تطالب به مرة واحدة للأكراد، بل كان الاتحاد السوفييتي دوماً على علاقة حسنة مع الدول التي أخضعت الكردَ لهيمنتها.
بالتأكيد، يجب البحث والتعمق بتفرعات السياسة الكردية لهاتين الدولتين الإمبرياليتين، وهي واضحة تماماً، إذْ أقدمتا على تعزيز العلاقات السياسية مع المسؤولين العرب والفرس والترك، وفي هذا السياق، ينبغي عدم نسيان مسألة الأرمن ومسألة الشعب الآشوري السرياني الكلداني، وكذلك علاقات الدفاع القومي (في تركيا) والاتحاد السوفييتي أيضاً.
إنَّ هذا الشعبَ الذي أصبح هدفاً لسياسة: قسِّمه، قُمْ بإدارته لا شكَّ أنه شعبٌ ضعيف، حيث أن القوى الإمبريالية وقوى الاحتلال التي تسعى إلى تقسيم ذلك الشعب ووطنه والقيام بإدارته، بالتأكيد تستفيد من ضعفه المذكور آنفاً. فعلى سبيل المثال، إن الخصائص الذاتية كالصراعات والتناحرات الداخلية وعدم احترام بعضهم بعضاً الموجودة لدى الأكراد، هي ذاتها موجودة لدى العرب أيضاً، وللحقيقة، إنها موجودة في كل المجتمعات التي تعيش مرحلة العشائرية، لكنها لم تصبح عائقاً أمام العرب في تأسيس دولهم المختلفة! نستطيع طرح أسئلة عدة أخرى متعلقة بالسؤال الأساسي الذي طرحناه آنفاً، حيث شكلتْ بريطانيا العظمى قياداتٍ للحكم الذاتي في كل مستعمراتها في الهند، أفريقيا الجنوبية، زامبيا، زمبابوي..
عندما كانت بريطانيا منهمكة في تشكيل قيادة لمستعمرتها في العراق آب 1921، أي في الوقت الذي كان يتم فيه تلبيس فيصل تاج الملكية بناءاً على قرار من جمعية الأمم، كان القرار ذاته يتضمن بنداً بمنح الأكراد حكماً ذاتياً، لكن بريطانيا لم تشأ تشكيلَ قيادة للحكم الذاتي في الموصل، أو الأصح في كردستان علماً بأن هذا كان مطلباً كردياً وكان مقترحاً في الوقت عينه من جمعية الأمم، إلا أن بريطانيا لم تتعامل إيجابياً مع ذلك الأمر، بل ماطلتْ في تطبيقه. يجب بحثَ هذه القضية ودراستها بدقة.
في تلك السنوات، كانت هناك ثورة كبرى في كردستان، وعلى الرغم من إلقاء القبض على قائد الثورة الشيخ محمود برزنجي والحكم عليه بالإعدام ثم نفيه إلى الهند عام 1919، إلا أن جذوة النضال لأجل تأسيس دولة كردستان لم تنطفئ، وبعد إعادة الشيخ محمود من الهند عام 1922 وتعيينه في القيادة الكردية، كان النضال من أجل تأسيس دولة كردستان مستمراً. وللحقيقة التاريخية، فقد تمَّ إغراق كل الثورات والانتفاضات الكردية بالدماء!! وأصبحت كردستان ساحة لتدريب وتجريب الأسلحة التكنولوجية لقوى الطيران الملكي البريطاني. يتناول حسن يلدز كفاح شيخ محمود برزنجي بالتفصيل في كتابه المعنون:Fransiz belgeleriyle Sevr-Lozan-Musul Ûçgeninde Kurdistan-2005.
لقد تمّ مناقشة المنافذ البحرية في غرب تركيا، وضعَ استانبول، مسألة الأقليات ومواضيعَ أخرى عديدة في معاهدة لوزان، كما كانت قضية الموصل التي هي في جوهرها تعني مناقشة القضية الكردية، حيث تعتبر من القضايا الهامة التي تمّ الحديث بشأنها. لكن، ولكون الموصل كانت جزءاً من أرض مستعمرة العراق قانوناً، كان يتمُّ إهمالُ وتجاهل الثورات والانتفاضات المندلعة في المنطقة، ويتم غضُّ النظر عن وضع الأكراد ومطالبهم، وتجنبِ مناقشته كموضوع سياسي يتطلب حلاً منصفاً، بل نظروا إليها على الدوام باشمئزاز كالنظر إلى مرض جلدي مُعدٍ !!.. ولهذا، كانوا يسعون على الدوام إلى استئصالها وإزالتها. إلا أن الحقيقة هي أن هذه المنطقة هي وطن الأكراد، فكل الإحصائيات التي جرتْ من قبل كلٍّ من بريطانيا العظمى وتركيا تشير بوضوحٍ لا لبسَ فيه أن عددَ سكان الأكراد فيها أكبر من عدد سكان العرب والتركمان والسريان والكلدان، والأرقام الواردة في تقرير جمعية الأمم المعدِّ بتاريخ 30 ايلول 1924 يؤكد صحة تلك الإحصائيات، حيث نشر هذا التقرير في كتاب Musul Kerkuk sorunu ve Kurdistan,in paylaşimi والذي يحوي فصلاً بعنوان Milletler Cemîyeti Belgelerinden ، والذي نشر في استانبول أيلول1991.
ولكن، لم يكن ممثلو الأكراد موجودين في كونفرانس لوزان كي يشرحوا مطالبَ الشعب الكردي، إذْ عملت الجهات الراعية للكونفرانس بعناية واهتمام لتغييب الكرد عن حضور هذا المحفل المصيري، وقال رئيس الوفد التركي عصمت إينونو حينها: إننا نمثل الأكرادَ أيضاً إلى جانب تمثيلنا لتركيا!!..لكنه وقفَ إلى جانب تركيا معادياً على طول الخط للمطالب الكردية.
كانت بريطانيا العظمى وفرنسا تسيطران على هذه المنطقة، وقد منعتا ممثلَي الكرد الحقيقيين المرسلَيْن من قبل شيخ محمود برزنجي في مؤتمر السلام بباريس نهاية عام 1919 من الحضور، حيث كان من المقرر أن يسافرا من سوريا إلى فرنسا بحراً، ولكن بدافع تغييبهما عن حضور المؤتمر، تمّ وضع العراقيل أمام سفرهما من قبل مسؤولين فرنسيين وإنكليز!.. ويعطينا رفيق حلمي في كتابه المعنون Anilar, Şeyh Berzenci Hareketi الصادر في تموز1995 باستانبول معلوماتٍ قيمة حول هذه المسألة، يقول أن شيخ محمود قد أرسلَ ممثلَيْن كرديين هما زكي كابان وسيد أحمد إلى باريس لحضور مؤتمر السلام وزوَّدَهما برسالة تتضمن مطالبَ الأكراد وحقوقَهم بغية إيصالها ليد شريف باشا الذي حضر المؤتمر متحدثاً باسم الأكراد، وعندما يصلان إلى مدينة حلب، اعترضهما على الفور مسؤولون فرنسيون وإنكليز وقاموا بتأخيرهما عمداً عن موعد المؤتمر بحجج وأكاذيبَ باطلة من قبيل: أحوال الطقس سيئة، السفينة معطلة، السفينة بالإصلاح...وغير ذلك من التلفيقات للحؤول دون حضورهما مؤتمر السلام مما أدّى إلى حرمان شريف باشا من الوثيقة التي تتضمن المطالب والحقوق الكردية والتي تخوّله بالتحدث باسم الكرد في ذلك المحفل، وتمَّ إعادة هذين الممثلين من حلب إلى كردستان إثر إقدام بريطانيا العظمى على اعتقال الشيخ محمود برزنجي.
على الرغم من أن قضية الموصل كانت من القضايا الأساسية التي نوقشت في مؤتمر لوزان، وعلى الرغم من وجود انتفاضة كردية عارمة على الأرض تطالب بالحقوق الكردية، لماذا تمّ اعتراض ممثلي الكرد وحرمانهم من حضور مثل هذه المؤتمرات ليتسنى لهم فرصة الدفاع عن حقوقهم يا ترى؟! ولماذا لم يتم مناقشة القضية الكردية كموضوع سياسي له مطالبٌ محقة بل يُنظَرُ إليها كمرض جلدي معدٍ تترك آثاراً سيئة على الجميع!!؟...يجب البحث في هذه المسألة أيضاً كمسألة هامة مرتبطة بالمسألة الرئيسية للقضية الكردية.
فلو تمَّ تشكيل مستعمرة كردستان أو كولونيالية كردستان في إطار جمعية الأمم عام 1920 كما حصل للعراق وفلسطين ولبنان، كان على الأغلب يسمونها ب مستعمرة كردستان لهذه الدولة أو كولونيالية كردستان لتلك الدولة ..إلخ ولو أنها كانت بأدنى درجات الحقوق، لكنها تعبِّر في جوهرها عن إنشاء كيان سياسي وشخصية سياسية اعتبارية. ألمْ تشرْ عراق مستعمرة إنكليزية أوسوريا مستعمرة فرنسية إلى وجود كيان سياسي؟. لكن الكرد حتى أعوام 1920 لم يحصلوا على أصغر كيان لهم؟!!. وقد خططوا وتحركوا باهتمام بالغ كي يبقى الأكراد محرومين من أي كيان سياسي، ولهذا، فكردستان ليست حتى ب كولونيالية أيضاً؟...هنا، يجب التوقف بعناية على كلمةأيضاً.
لتسليط المزيد من الأضواء على القضية الأساسية بغية توضيحها، يستطيع المرء أن يسأل سؤالاً آخر مرتبطاً بالاتحاد السوفياتي. فلقد تمَّ إنشاء منطقة ذات حكم ذاتي باسم كردستان الحمراء عام 1923 في المنطقة الجغرافية بين أرمينيا وقره باغ العليا تضمّ النواحي التالية: لاجين Laçîn كلبازار Kelbajar قباتلو Qubatlu زنكلان Zengelan ، استمرت حتى عام 1928 إلا أنه تمَّ إنهاء هذه المنطقة ذات الحكم الذاتي في العام 1928 وإزالتها من الوجود. مهما كانت طبيعة العلاقة بين الاتحاد السوفياتي وتركيا جيدة أم سيئة، فإننا كنا نرى على الدوام يتم نفي الأكراد من قفقازيا باتجاه آسيا الوسطى، وخلال السنوات 1937-1944 كانت عملية نفي الأكراد وتهجيرهم القسري مستمرة في أوجها. إن هذا الموضوع يتمتع بأهمية بالغة يجب البحث فيه للتعرف على أسباب تأسيس منطقة كردستان الحمراء ذات الحكم الذاتي، وأسباب إنهائها والقضاء عليها.
إن البحثَ في الأحداث التي جرت في عشرينيات القرن التاسع عشر 1920 وتقييمها بموضوعية، تظهر لنا أن هناك تناقضاتٍ كبيرة بين حقيقتها وبين الأبحاث والتحاليل التي جرت بشأنها من قبل باحثين متحيِّزين، حيث يتمّ فيها اتهامُ الكرد كمتعاونين وعملاء للإمبريالية في الوقت الذي كانت تجري فيه حربٌ بين الكرد وبين بريطانيا العظمى التي لم تقبلْ بمطالب الأكراد في بناء دولتهم المستقلة كردستان، بل أنها رفضت حتى تمتعهم بحكم ذاتي ضمن حدود الدول الناشئة الجديدة!!، ليس هذا فحسب، بل أنها عملتْ ما بوسعها لسحق هذا الأمل باستخدام القوة العسكرية، فقد نفذت القوى الجوية الملكية البريطانية معظم غاراتها في العقود 1930،1920،1910و 1940 على كردستان بغية إنهاء الانتفاضة الكردية. هنا يجب إيلاء النضال الذي خاضه الشيخ محمود برزنجي المزيد من الاهتمام والدراسة أيضاً.
وعلى الرغم من أن الحركة التركية لم تتصارعْ يوماً مع بريطانيا العظمى أو تخوض معها حرباً أو تعمل ضد مصالحها، فإنها تظهر وكأنها تقاوم الإمبريالية!!. وبهدف الحصول على الدعم والمساعدة، قام الكرد بزيارة كل من بريطانيا العظمى وفرنسا، إلا أنهم لم يحصلوا على أي دعم منهما، وهناك العديد من الوثائق التي تثبت عدم موافقة هاتين الدولتين على دعم الحقوق الكردية. وعندما نقوم بتحليل أحداث أعوام1920، يجب البحث في كنه هذه التناقضات وبيان حقيقتها.
عندما نتمعن في اللوحة السياسية في أعوام 1920، نجد هناك ثلاث فئاتٍ من الدول، الفئة الأولى تتضمن الدول العظمى مثل بريطانيا العظمى، فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، والفئة الثانية تتضمن الدول المستقلة مثل تركيا وإيران وكذلك الدول المستعمَرة (تحت الانتداب) المرتبطة بالدول الإمبريالية مثل بريطانيا العظمى وفرنسا، ويتضح بجلاء أن الدولَ المستقلة مثل تركيا وإيران المشار إليهما أعلاه قد خضعت من الناحية الاقتصادية لنير دول الفئة الأولى. أما الفئة الثالثة، فتتضمن الشعوب التي لم تحصل على حقوقها في بناء دولها، وبعبارة أدق، الدول التي تم اغتصاب حقها في تكوين دولها القومية، والشعب الكردي هو أحدُ تلك الشعوب. أولئك الذين أجروا دراساتٍ حول العلاقات بين الدول، قد تطرقوا إلى العلاقة بين دول المجموعة الأولى والثانية فقط، وأهملوا الشعوبَ المنضوية في الفئة الثالثة ولم يبحثوا في أوضاعها، لأن تلك الشعوب كانت على الدوام بنظر دول الفئة الثانية هي بمثابة مرض جلدي معدٍ ومقزز!.
تدّعي دول المجموعة الثانية على الدوام وتكرر مزاعمَ مفادُها أن دول المجموعة الأولى كبريطانيا العظمى وفرنسا، وبغاية قطع الطريق أمام تطورها وإضعافها، تقوم بدفع الشعوب المنضوية في الفئة الثالثة إلى الميدان لمواجهتها وإشغالها عن التقدم والتطور. فمثلاً، تقوم الدول التي ينقسم فيها الأكراد ويتعرضون إلى الظلم والاضطهاد نعتَهم بأوصاف ومصطلحاتٍ من قبيل قطاع الطرق ،المجرمين و عملاء الامبريالية، المتعاونين مع الإمبريالية، متخلفي عهد الإقطاع، المتعصبون المتوحشون المناهضون للمدنية..إلخ... تلصق تلك الدول هذه الاتهامات بالأكراد، وتسعى بكل قواها لتشويه صورتهم أمام الرأي العام الداخلي والرأي العام العالمي، لكن الحقيقة هي أن الشعوبَ التي صنفتْ في الفئة الثالثة كالشعب الكردي هي شعوبٌ لها مطالبٌ سياسية وتمتلك إرادة سياسية للتحرر والانعتاق من الظلم والعبودية، إلا أنه يتمّ قمع آماله وتطلعه نحو الحرية بعنفٍ شديد من جانب دول الفئة الثانية التي تمارس إرهابَ الدولة بحق أبنائه. يضطر هذا الشعب في بعض الأحيان وتحت ضغط العنف والإرهاب الممارَس عليه من جانب دول الفئة الثانية إلى الاستنجاد بدول الفئة الأولى والتي غالباً لا تستجيب لاستغاثاتهم. على سبيل المثال، عندما أقدمَ نظام صدام حسين على ارتكاب جرائم الأنفال والتي تندرج في لائحة الجرائم ضد الإنسانية (الجينوسايد)، استغاثَ هذا الشعب المنكوب بتلك الدول التي لم تعِرْ أي اهتمام ولم تلقَ استغاثات الكرد لديها آذاناً صاغية!..ليس هذا فحسب، وبغاية ممارسة المزيد من الضغط على الشعوب المنضوية في الفئة الثالثة وتحطيم إرادتها وعدولها عن مطالبها وإرادتها السياسية، فقد لجأت دول الفئة الثانية على الدوام إلى الطلب من دول الفئة الأولى تقديم المساعدات الاقتصادية والسياسية والعسكرية لها، والتي كانت تحظى بعمومها بالموافقة والاستجابة.
هنا، ولو باختصار، أريد أن اقول أن الدراسات والأبحاث التي تتناول منطقة الشرق الأوسط والعلاقات الدولية بصورة عامة، يجب أن تتضمن البحث في وضع الشعوب المصنفة في الفئة الثالثة ولا يجوز التعامل معها وكأن قضيتها بمثابة مرض جلدي معدٍ تستوجب الابتعاد عنها وإهمالَها، بل يجب التعاطي معها على أنها شعوبٌ لها مطالب سياسية وإرادة سياسية لا يجوز تجاهلها.
بحسب اعتقادي، إن السؤال الأساسي ليس هل يرغب الأكراد في بناء دولتهم أم لا؟ ، بل هومتى سيبنون هذه الدولة؟!، وكذلك، فإن السؤال الأساسي هو على الرغم من عددهم الكبير، لماذا لم يتمكن الأكراد من حتى الآن من بناء دولتهم؟. . وكيف بوسع دولة مثل اللوكسمبورغ التي يقارب عدد سكانها 450 ألف مواطن أن تقرر مصيرَ ومستقبل شعبٍ من شعوب الشرق الأوسط هو الشعب الكردي الذي يبلغ تعداده 40 مليوناً؟! ولماذا لا يستطيع الأكراد نقدَ هذا النظام الدولي المعادي لهم بصورة جدية وواضحة؟ يمكننا أن نفهمَ أسبابَ الظلم الذي تمارسه الدول التي تضطهد الشعب الكردي، إلا أنه يجب التوقف ملياً حول موضوع عداوة الديمقراطيين في الدول الغربية للأكراد ولقضيتهم؟.
ترى، ما هي الأسباب والدوافع التي تقف وراء عداوة الغربيين (الأوربيين) للأكراد؟، فأنا لا أميل إلى الاعتقاد بوجود علاقة لها بمجازر الأرمن التي حدثت عام 1915. قد يكون هناك بعض الأفراد من الأكراد يكونون قد شاركوا في تلك المجازر، كما يمكن أن يكون للكثير من الأكراد وجودٌ في التشكيلات الخاصة سيئة الصيت التي نفذت تلك المجازر، إلا أن كل ذلك لا يعبِّرُ من قريب أو بعيد عن إرادة الكرد وأهدافهم، بل إنها كانت تعبر عن إرادة الاتحاد والترقي وإرادة الحكومة العثمانية!.. يمكن القول بأن الاتحاد والترقي وقوات التشكيلات الخاصة، وبهدف إشراك الكرد في جرائمها، كانت تحثُّهم على محاربة الأرمن وتقول لهم: ...مهما يكن من أمر، فعندما تقومون بإخراج الأرمن من قراكم وإبعادِهم عن أحيائكم وإنهائهم، عندها، ستبقى أموالهم وأملاكهم، أغنامهم ومواشيهم، بيوتهم ومحلاتهم ملكاً لكم أنتم!.. . كما يجب ألا يغيبَ عن الأذهان بأن كلَّ ذلك كان يحدث بإرادةٍ من الاتحاد والترقي والتشكيلات الخاصة.
ربما يعود سبب عداوة الغربيين للأكراد إلى الصراع الذي حدثَ بين الآشوريين السريان والأمير بدرخان بك الذي ثارَ على الإمبراطورية العثمانية خلال أعوام 1840، حيث كان الآشوريون السريان حينها مواطنين في المنطقة الخاضعة لحكمه، فطلبَ منهم دفعَ الجزية، إلا أن الآشوريين السريان رفضوا دفعَ الجزية باستقواءٍ من الغرب فجَرتْ معارك دامية بين الطرفين راحت ضحيتها الالاف من الآشوريين السريان. كما يمكن إعادة أسبابَ عداوة الغرب للأكراد إلى الحملات الصليبية، فالجميع يعلم بأن مَن صدَّ تلك الحملات من أبواب القدس وأعادَهم خائبين منهزمين هو القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي. فبموجب هدنة موندروس (30 تشرين الأول 1918م)، احتلَّ الجيش الإنكليزي سوريا وبسطَ سيطرته عليها، حينها، وكواقعة تاريخية، ذهبَ الجنرال (اللنبي) إلى دمشق ووقفَ أمام ضريح القائد صلاح الدين الأيوبي صارخاً: قمْ يا صلاح الدين، فها قد عُدنا ثانيةً. يتناول الروائي رفيق سجامي هذا الموضوع بشيءٍ من التفصيل في روايته: Sineksagar(Kabalci Yayinevi,çev.Saffet Gunersel,Mayis 1999 r.129). وعلى الرغم من أن رفيق سجامي يُظهِر صلاح الدين الأيوبي في روايته كقائدٍ عربي، إلا أن الغربَ يعرف جيداً بأنه كان قائداً كردياً.
إن النظام والعلاقات التي وضعت قيد التنفيذ في الشرق الأوسط بإطار جمعية الأمم، ولكونها تستعمر كردستان بشكل مشترك، قد أنتجت علاقاتٍ قويةً ووثيقة بين بريطانيا العظمى (ومن خلفها العراق) وفرنسا (من خلفها سوريا)، وتركيا وإيران، وعلى الرغم من أنها كانت على خلاف وأحيان في حالة حربٍ مع بعضها، إلا أنه حينما كان الأمر يتعلق بالأكراد والقضية الكردية، فكانت تترك خلافاتها جانباً وتتعاون مع بعضها بقوة، وبدا هذا التعاون والتنسيق المعادي للأكراد واضحاً للعيان على الدوام لا تشوبه شائبة.
لقد فرضت هذه الدول استقراراً في منطقة الشرق الأوسط فرْضاً بالإكراه، لكنه من الواضح أيضاً أن هذا النمط من الاستقرار القسري قد خلق معه حالة من اللا استقرار الدائم، لأن الكردَ، ومن أجل الحصول على حريتهم وحقوقهم، لم يتوانوا عن القيام بثوراتٍ ونضالاتٍ مستمرة حيثما سمحت لهم الظروف بذلك، مما كانت تؤدي على الدوام إلى الاضطراب وعدم الاستقرار في المنطقة.
---------------------------
(*) فقرة من كتاب مترجَم من اللغة التركية إلى اللغة الكردية بعنوان:(Ziman- Nasname- Netewe-û Neteweperwerî)
ترجمها من التركية إلى الكردية : Roşan Lezgîn – طبعة: استانبول 2008م[1]