$دراسات في التاريخ الكردي القديم ( الحلقة 13 )الكُرد من السلوقيين إلى الپَرْث$
د. أحمد الخليل
الكُرد من السلوقيين إلى الپَرْث:
بعد انتصار الإسكندر المكدوني على الملك الفارسي دارا الثالث في معركة گُوگَميلا Gugamela قرب أربيل، سنة 331 ق.م، أصبحت كردستان (ميديا وكوردوئين وغيرها من المقاطعات) تابعة لإمبراطورية الإسكندر، وكان حاكمَ ميديا الصغرى (أذربيجان الغربية التابعة لإيران حالياً) زعيمٌ ميدي يدعى أتروپات Atarapata، وكان دارا الثالث قد استعان بالقوات الميدية بقيادة أتروپات لردّ هجوم الإسكندر، بل إنّ أتروپات كان قائد فرقة الاستطلاع في معركة گُوگَميلا.
بعد هزيمة دارا الثالث، وسقوط الإمبراطورية الفارسية في يدي الإسكندر، مارس أتروپات سياسة حكيمة مع الإسكندر ومع خلفائه بعد وفاته في بابل سنة 323ق.م، واستطاع رويداً رويداً الاستقلال بحكم ميديا الصغرى التي سمّيت في عهده باسم “أتروپاتيا”، قال دياكونوف: “دون شكّ كان أتروپات رجلاً شجاعاً وعاقلاً، ولو لم تكن الأيام والظروف الداخلية بين الأقوام الميدية مؤاتية، ولو لم يكن جيشه قديراً، لما استطاع في ذلك الوقت أن يؤسس دولة جديدة مستقلة ويحافظ عليها مهما كان عاقلاً ومدبّراً”.
ويبدو أنّ أمجاد دولة ميديا الغابرة كانت لا تزال حيّة في ذاكرة أتروپات، فحرص على أن يوصل الحاضر بالماضي، فأحيا النهج الحضاري والسياسي الذي أرسى دعائمه زعماء ميديا الأوائل، قال دياكونوف: “إنّ المملكة الجديدة، التي كانت تسمّى رسمياً دولة ميديا، يسمّيها المواطنون “ميديا الأتروپاتية” أو يسمّونها “أتروپاتيا”… إنّ الدولة الجديدة حافظت على النهج السياسي والحضارة الميدية لعهد أيام ديوك الماضية”.
بعد وفاة أتروپات صارت ميديا من جملة البلاد التي كانت من نصيب سلوقس الأول، أحد كبار قادة اليونان، غير أنّ الاضطرابات ضد الحكم السلوقي لم تهدأ في ميديا، ودام الحكم السلوقي من حوالي سنة 311ق.م إلى حوالي سنة 247ق.م، حين سيطر الأشگان (الفرث= الپرث= الأرشاك) على فارس وميديا، واستولى الأرمن على شمال ميديا بمعاونة الملك الأشگاني مِهْردادفي الربع الأول من القرن الثاني قبل الميلاد.
الكُرد بين الأرمن والرومان:
تابع الأرمن بسط نفوذهم على بلاد الكرد، وكان ذلك في عهد الملك الأرمني دِيگْران الثاني (الكبير)، وقد غزا هذا الملك البلدان المجاورة لأرمينيا، وأسس إمبراطورية تمتد من بحر قَزْوِين غرباً إلى كَبادُوكيا وكِيلِيكْيا والساحل السوري بما فيه فِينيقيا غرباً، ومن قَفقاسيا (القوقاز) والبحر الأسود شمالاً إلى أربيل وسوريا الداخلية جنوباً، وبنى عاصمته الجديدة دِيگْرانا كِيرْتا (فارِقِين) في كُردستان، وهذا يعني أنّ قسماً من مناطق جنوب كردستان ومعظم مناطق شمال كردستان أصبحت تحت النفوذ الأرمني.
وفي الربع الثاني من القرن الأول قبل الميلاد زحف القائد الروماني لُوكُولُّوس على ممتلكات أرمينيا، وهزم ملكها ديگران الثاني، واستولى على عاصمته الجديدة، لكنّ ديگران جدّد القتال ضد الرومان وألحق الهزيمة بلوكولُّوس بالقرب من نهر مُراد صُو، فتراجع الرومان إلى نِصِيبين، وكانوا قد اتخذوها قاعدةً لهم في حروبهم ضد الأشگان والأرمن، وهذا يعني أنّ كردستان أصبحت ميداناً رئيسياً للمعارك الطاحنة بين هذه القوى الإقليمية الثلاث حينذاك: الرومان، الأشگان، الأرمن.
وفي سنة 67ق.م كلّف مجلس الشيوخ الروماني بُومْبَى بالهجوم على أرمينيا، ولم يستطع ديگران الثاني الصمود طويلاً ﮪذه المرة، ففرّ إلى الجبال، ثم اتفق الطرفان على الصلح، لكن جُرّدت أرمينيا من ممتلكاتها في سوريا ولبنان وكبادويا وكيليكيا وكردستان، وتوفّي ديگران الثاني سنة 55/54 ق.م.
بتدقيق النظر في التوازنات الإقليمية حينذاك يتضح أنّ الكرد – ممثَّلين بالميد– لم يكونوا على هامش الأحداث، فقد كانوا يحاولون الخلاص من النفوذ الأشگاني، فكانوا يلقون التأييد والدعم من الطرف الروماني، وانجلت الصراعات الإقليمية عن معسكرين متنافسين متصارعين: الأول يضم الأشگان والأرمن، والثاني يضم الرومان والميد.
ونذكر -على سبيل المثال- أنّ الملك الأرمني أردافست الثاني بن ديگران الثاني (حكم بين سنتي 54-34ق.م) لم يبقَ على الحياد في الصراع الأشگاني الروماني، وإنما تحالف حيناً مع الملك الأشگاني ضد الرومان، وتوطّد تحالفهما بعلاقة مصاهرة بين الأسرتين الملكيتين؛ الأمر الذي جعل القائد الرومانيأنطونيو-زوج كِلْيُوباترا في مصر- يُلقي القبض على الملك الأرمني ويقوده إلى مصر ويُعدمه هناك.
ويبدو أنّ الميد كانوا يقفون إلى جانب أنطونيو في الصراع، والدليل على ذلك أنّ الملك الأرمني أرداشيس الثاني (حكم بين سنتي 30-20ق.م)، وهو ابن أَرْداڤَسْت الثاني، اشترك مع الملك الأشگاني فَرْﮪاد الرابع في حملة شنّاها معاً ضد الميد في المنطقة الواقعة بين تِبْرِيز وهَمَذان، باعتبارهم حلفاء لأنطونيو، وتمكّن أَرْداشِيس من قتل الملك الميدي أَرْداڤَسْت، مما جعل له مكانة خاصة في البلاط الأشگاني.
وفي النهاية ظلت أرمينيا تتأرجح بين الميل مع الأشگان تارةً ومع الرومان تارةً، وظهر مركزان للقوة في القيادة الأرمنية: أحدهما أشگاني الهوى، والثاني روماني الهوى. ولم يكن الميد خارج الصراع، ويبدو أنهم ظلوا على تحالفهم مع الرومان ضد الأشگان الذين يحتلون بلادهم، ونجد في الفترة بين سنتي 1-2م أنّ الحزب الموالي للرومان يسيطر على الأوضاع في أرمينيا، فترسل روما إليها حاكماً من أصل ميدي يدعى أَرْيُوبارْزان، وعيّنت بعده حاكماً ميدياً آخر، بين سنتي 2-11 م، يدعى أَرْداڤَسْت الخامس.
الكُرد في العهد الساساني:
في سنة 226 مأسقط أَرْدَشَير بابَكان الدولة الأشگانية، وأسّس الدولة الساسانية (226–652م)، وفرض سلطته على أرمينيا وكُردستان، واتّخذ الزردشتية ديناً رسمياً لجميع إيران، وتشدّد في ذلك، حتى إنّ مَوبَذ مَوْبَذان (رئيس الكهنة وقاضي القضاة) كان الرجل الثاني في الدولة بعد الملك، بخلاف عهد الأشگان الذين أفسحوا المجال للحريات الدينية. ولم تهدأ كُردِستان، وظلت الثورات والقلاقل قائمة فيها، وأصبحت مسرحاً للصراع بين الساسانيين والرومان، وكانت تقع في أيدي الروم وحلفائهم الأرمن تارةً وفي أيدي الساسانيين تارةً أخرى.
بعد قيام الدولة الساسانية تغيّرت موازين القوى الإقليمية، إذ شرع الساسانيون يعملون على إخضاع أرمينيا، ويشنّون الحملات عليها، وذلك في إطار صراعهم الإستراتيجي ضدّ الرومان، فكان الأرمن بقيادة ملكهم دِرْطاد(تِيرداد)الثالث(حكم على ثلاث فترات بين 250–330م) يقاومون الساسانيين، وما حلّت سنة 294م حتى احتل الساسانيون أرمينيا، وفرّ دِرْطاد إلى روما، وبقي هناك إلى سنة 298م، حين قفل راجعاً إلى أرمينيا عقب توقيع معاهدة الهدنة بين الساسانيين والرومان في نِصِيبين، ثم جرى أكثر من تقسيم للتركة الأرمينية، وبطبيعة الحال كانت كُردستان على الدوام في صميم ذلك التقسيم.
ولا ريب في أنّ العلاقات القائمة على التبعية تارةً وعلى التحالف تارةً أخرى، بين الأرمن والفرس من الأخمين والأشگان، جعلت الأرمن يدينون بالزَّرْدَشتية، لكنّ الانعطاف الحادّ في السياسة الأرمنية -نقصد معاداة الفرس الساسانيين- كان أحد العوامل التي شجّعت دِرْطاد الثالث على اعتناق المسيحية باعتبارها عقيدة منافسة للزردشتية، وأعلنها ديانة رسمية للدولة الأرمنية، وكان ذلك في الفترة الأخيرة من حكمه؛ أي في الربع الأول من القرن الرابع الميلادي.
غير أنّ سكان الجبال والقرى الكرد الواقعين ضمن النفوذ الأرمني بقوا على الزردشتية، وعندما اعتنق الإمبراطور الروماني قُسطنطين المسيحية حوالي سنة 312م، وأعلن المسيحية ديانة رسمية للدولة سنة 313 م، تعزّزت علاقات التحالف بين الأرمن والرومان، واتّخذ الصراع بين الساسانيين من جهة والرومان وحلفائهم الأرمن من جهة أخرى طابعاً دينياً بين العقيدتين الزردشتية والمسيحية، واستمرت الهجمات والهجمات المضادة المتبادلة بين المعسكرين المتنافسين على أرض كردستان، الأمر الذي أدّى إلى تدمير مناطق كثيرة منها، وظلت الحال كذلك حتى الفتوحات الإسلامية.
– دياكونوف: ميديا، ص422.
– المرجع السابق، ص423–424.
– سامي سعيد الأسعد ورضا جواد الهاشمي: تاريخ الشرق الأدنى القديم، ص130. وانظر مروان المُدوَّر: الأرمن عبر التاريخ، ص133-140.
– مجموعة من الباحثين: كركوك، ص38.
– مروان المدوَّر: الأرمن عبر التاريخ، ص155-156.
– المرجع السابق، ص157.
– المرجع السابق، ص158-159.
– المرجع السابق، ص160-162.
– ﮪ. ج. ولز: معالم تاريخ الإنسانية، 3/750.
– مروان المُدَوَّر: الأرمن عبر التاريخ، ص157.
– المرجع السابق، ص176.
[1]