$دراسات في التاريخ الكردي القديم (الحلقة 8) كردستان جغرافياً وجيوسياسياً$
د. أحمد الخليل
ليست ثمة كلمة تُزعج أصحاب الذهنيات الاحتلالية كما تُزعجهم كلمة (كردستان)، ولا بأس عندهم من ذكر اسم (الكرد) عند الضرورة، ووصفهم بأنهم “جزء من النسيج الوطني” للدول التي خرجت من عباءة سايكس- پيكو، ولا بأس عندهم- عند الضرورة- في منح الكرد “حقوق المواطنة” الكاملة، لكنهم يحاولون بكل وسيلة تجاهل اسم (كردستان)، وشطبه من الخطاب السياسي والثقافي.
عُقدة اسم (كردستان):
أجل، إن اسم (كردستان) أصبح عقدة عند سلالات الفاشيين، ولاحظوا على سبيل المثال أن اسم (إقليم كردستان) المطلَق على جنوبي كردستان اكتسب شرعية دستورية في العراق، وبات معترفاً به في الخطاب السياسي الدولي، إلا أن سلالات الشوفينيين يصرّون إلى الآن على تجاهله في خطابهم السياسي والثقافي، ويستعملون بدلاً منه الاسم الاحتلالي الأثير عندهم (شمال العراق).
لماذا كل هذا التجاهل لاسم (كردستان)؟ ولماذا كل هذا التعتيم المنصبّ عليه؟ لأن سلالات الشوفينيين يدركون جيداً أن الإقرار بوجود (كردستان= وطن الكرد) يعني ضمناً الإقرار بحق الكرد في ملكية وطنهم وثرواته، ويعني حقَّهم في إقامة دولتهم المستقلة على ترابهم القومي، ويعني من ثَمّ إعادة رسم خريطة غربي آسيا، ويعني أيضاً تفكيك المستوطنات الغريبة التي زُرعت في كردستان، وإعادة المناطق الكردستانية المختطفة إلى الجسم الأساسي (كردستان).
وهكذا فإن البحث في (جغرافيا كردستان) موضوع في غاية الأهمية، وتمهيداً لذلك دعونا نلق الضوء على بعض المصطلحات الجغرافية والإثنية، بقصد تأصيلها، ولإزالة اللَّبس العالق بدلالاتها نتيجة التراكمات والتداخلات التاريخية والسياسية.
مصطلحات جغرافية:
• الشعوب الهندو- أوربية (الآرية): قسّم المؤرخون شعوب العالم إلى مجموعات كبرى، أهمها: الشعوب الهندو- أوربية، والسامية، والحامية، والأورال ألطائية، ومجموعات جنوب شرقي آسيا، والإسكيمو، وذكروا أن الشعوب الهندو-أوربية تضم الأوربيين والأمريكيين، والسلاڤ، والأرمن، والفرس، والميد، وآخرين، ويطلقون على هذه المجموعة اسم (الآريين) أيضًا.
وقد ورد في كتاب (انتصار الحضارة) للمؤرخ جيمس هنري برستد، أن مصطلح (الآريين) يطلق على الفرع الشرقي من الشعوب الهندو-أوربية، وهم: الميد، والفرس، والأرمن، ومن استقر في أفغانستان والهند. أما الأوربيون والأمريكيون فهم من الفرع الغربي؛ أي أن الآريين هم أبناء عمومة الأوربيين، وليسوا أجدادهم.
• إيران: في عصرنا هذا (إيران) دولة تقع شرقي كل من العراق وتركيا، وﮪذه التسمية مشتقة من كلمة (آرِيا) Ariya الواردة في الكتاب الزردشتي المقدس (أڤستا/أبستاق)، وهي تعني بلاد الآريين، كما أن كلمة (آري) في اللغات الآرية القديمة، ومنها السنسكريتية، تعني (السامي، النبيل)، كما أُطلق اسم (بلاد الآريين) على البلاد المعروفة الآن باسم (أفغانستان).
• الهضبة الإيرانية: هي شبه المثلث الواقع بين وادي نهر السند شرقًا ووادي دجلة غربًا، وتنبع أهميتها من كونها تصل آسيا الوسطى والشرق الأقصى بآسيا الغربية والشرق الأدنى.
• فارس: اسم (فارس) و(بلاد فارس) مشتق من اسم القبيلة الآرية الكبيرة التي استوطنت جنوب غربي بلاد إيران منذ الألف الأول قبل الميلاد كما مرّ، وورد اسم هذه القبيلة بصيغة (بَرْسا) Parsa، وﮪذا المصطلح كثير الورود في المصادر العربية والأوربية.
• ميديا: هي المنطقة التي استقرت فيها القبيلة الآرية الكبيرة الأخرى (ماداي)، أو (مادي) Madai، والتي وفدت إلى البلاد التي عُرفت بعد ذلك باسم كردستان، وكما أن (إيران) هي تاريخيًا نتاج (فارس) فإن (كردستان) هي نتاج (ميديا) .
ضوء على جغرافيا كردستان:
كردستان ليست فرضية، ولا هي اختراع جديد، إنها عريقة في تاريخ غربي آسيا، إنها الوطن الذي يمتد من بحيرة أُورمِيَه شرقاً إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط غرباً، ومن جبل آغري (أرارات) شمالاً إلى لورستان جنوباً، في هذا الوطن عاش أسلاف الكرد (الزاغروس- آريون)، وفيها أقاموا اتحادات القبائل التي تحوّلت بمرور الزمن إلى دول وممالك، فيها عاش الإيلاميون، والجوتيون، واللولو، والسوباريون، والكاشيون، والحوريون/ الميتانيون، والمنايون، والخَلْديون، والميديون، ومن أسلافهم هؤلاء ورث الكرد (كردستان)، ولم يسلبوه من أحد.
وقد ظهرت الحياة البشرية في كردستان منذ العصور الحجرية، إلى درجة أن قرية چَارْمو Jarmo الواقعة بين چَمْچَمال Jamjemal وسُليمانية (في جنوبي كردستان) تعدّ من أقدم القرى في الشرق الأوسط؛ إذ كانت موجودة قبل حوالي (5000 ق.م). وفي سنة (1949 م) اكتُشفت في كهف تَنْگي پَبْداTangi Pabda ، الواقع في جبال بَخْتياري إلى الشمال الشرقي من شُوشتر (تُسْتَر) بكردستان، بقايا إنسان عاش قبل حوالي مئة ألف سنة .
وتقع كردستان في جنوب غربي قارة آسيا، وفي المنطقة التي تُعرف الآن بالشرق الأوسط، وتحدّها شمالاً هضبة أرمينيا، وتعدّ الأقسام الشمالية والشرقية من كردستان جزءًا من تلك الهضبة. أما أقسامها الشمالية والغربية فهي جزء من هضبة الأناضول غربًا، كما أنها تتصل بالأقسام الشرقية للهضبة الإيرانية، وأما من الجنوب فتجاور كردستان بلاد العرب. يقول مينورسكي (نشر كتابه عن الكرد سنة 1915 م):
” إذا أردنا أن نبحث عن وطن الكرد في فجر التاريخ يجب علينا أن ندخل في الأقسام الشرقية البعيدة والجنوبية، فالمناطق الثلاث التالية هي موطن الكرد: السلاسل الجبلية العالية في أرمينيا، وكردستان تركيا، وجبال فارس الغربية. وهكذا نرى الكرد يعيشون في الوقت الحاضر على أرض واسعة عند حدود تركيا وفارس، من مدينة مَنْدَلي حتى أرارات، حيث تتعدّى أرضهم حدودنا فتدخل في قفقاسيا.
يعيش الكرد مع الأرمن في جميع أصقاع سلاسل جبال أرمينيا، وتنتهي حدودهم الشمالية في تركيا بمحاذاة أَرْضَروم، وفي الجنوب يسيطر الكرد على مناطق واسعة إلى نهاية سهول ما بين النهرين. وفي الغرب حدودهم نهر الفرات، أو بصورة أدق قَرَه صُو ، وإنهم لم يقفوا عند هذا الحدّ، وإنما أخذوا يزحفون إلى أعماق آسيا الصغرى، وإنهم لا يَشغلون المناطقَ الجنوبية- الشرقية من سِيواس فقط، وإنما هناك جماعات متفرقة منهم حتى حوالي قونية في كيليكيا، وبهذه الصورة يصلون إلى البحر الأبيض المتوسط” .
وتُقدَّر مساحة كردستان بحوالي مئتي ألف ميل مربع، أي ما يساوي مساحة فرنسا في أوربا، ومساحة كاليفورنيا في أمريكا، وكردستان أرض الجبال والهضاب والأنهار، وهي لا تخلو من السهول، يقول توما بووا: “إن جبال طوروس وأرارات وسلسلة جبال زاغروس العظيمة تكوّن العمود الفقري للبلاد”. ويقول باسيلي نيكيتين: “ويمكننا التأكيد بوجه عام على أن الكردي والجبل لا ينفصل أحدهما عن الآخر” .
والحقيقة أن جميع أشكال الجبال العالية والصغيرة والجرداء والحراجية موجودة في كردستان، ويتراوح ارتفاعها بين (3500 – 4000) متر، وقد يصل ارتفاع بعض القمم إلى (5000) متر، ومن أشهرها جبل أَلْوَنْد في الشمال الشرقي (إيران)، وجبال أرارات (آغري) في الشمال (تركيا)، وجبال طوروس في الشمال الغربي (تركيا)، وجبال زاغروس في الشرق.
كردستان جيوسياسياً واقتصادياً:
تمثّل جبال زاغروس الحدود الجغرافية الفاصلة بين هضبة إيران وبلاد الرافدَين، وتعرف جبال زاغروس أيضًا بجبال كردستان، وتعرف بعض أقسامها بلُورستان، واللُّور فرع من الكرد، وتعرف أقسام أخرى بجبال بَخْتياري، وبختياري ينتمون في الأصل إلى الكرد، ولعلهم يعدّون الآن من الفرس، وكانت سلسلة جبال زاغروس مستقر السلالة الميدية، وتقع فيها عاصمة الميديين أَگْباتانا (هَمَذان)، وقد اتخذها الأخمين عاصمة لدولتهم قبل بناء عاصمتهم الجديدة برسيپوليس (إصْطَخْر).
ويقع في جبال زاعروس أهم ممرّين يربطان شرقي آسيا بغربيها:
• أولهما الممر التاريخي الذي يبدأ عند خانِقين، ويمر بكَرْمَنْشاه، ثم بهَمَذان، ويطل من بعد على الهضبة الإيرانية، وقد أطلق عالم الآثار هرتسفيلد على هذا الممر اسم (بوّابة آسيا)، وهو معروف منذ القديم باسم (طريق الحرير).
• ثانيهما هو ممر حَلَبْچَه – پِنْجَوِين، ولعله فرع آخر من فروع طريق الحرير .
وتنبع من أراضي كردستان معظم الأنهار الكبيرة في الشرق الأوسط (دجلة، الفرات، الزاب الأعلى، الزاب الأسفل، ديالي، آراس)، وفي كردستان تكثر المروج والغابات والفواكه، وقطعان الماعز والأغنام والأبقار والخيول، وكثير من الحيوانات والطيور والأسماك.
وليس باطن الأرض في كردستان أقل غنى من سطحها، فهناك الفحم والحجر الجيري، والملح الصخري والكبريت والحديد والنحاس والكروم والرصاص والذهب والفضة، ولا تفتقر كردستان إلى الثروة النفطية، فهي متوافرة في مناطق عديدة منها، ويقع أضخم حقولها في كركوك، وذكر دياكونوف أن أرض ميديا (بلاد الكرد المركزية)، وتحديداً السفوح الغربية لجبال زاغروس (حيث تقع كركوك الآن)، كانت أول منطقة في العالم تنضح بالنفط، ويقول: “وفي الأزمنة القديمة، حتى في أوربا، كانوا يسمون النفط ب (الزيت الميدي)” .
وكانت الثروة النفطية شؤمًا على الشعب الكردي بدل أن تكون سبيلاً له إلى الرخاء والسعادة، ودعونا في هذا الصدد نتأمل المعلومة الآتية التي يوردها كاتب عربي قومي هو هلال ناجي المحامي، إنه يقول:
“المناطق التي يُستخرج منها النفط في كركوك جميعها مناطق كردية، وما عدا القرى الكردية وسكانها الكرد لم يكن فيها غيرهم حتى عام (1963 م)، حيث قامت الحكومة العراقية بترحيل المواطنين الكرد من قراهم على مرأى من أنظار الرأي العام العالمي، وأسكنت مكانهم العشائر العربية” .
الهوامش:
– جيمس هنري برستد: انتصار الحضارة، ص 245 – 246. طه باقر وآخران: تاريخ إيران القديم، ص 14 – 15.
– توما بووا: لمحة عن الأكراد، ص 9. عبد الرقيب يوسف: حدود كردستان الجنوبية، ص 21. أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم، ص 21 – 22. Mehrdad Izady: The Kurds, p. 23.
– شرقي بغداد.
– روسيا القيصرية.
– من روافد نهر الفرات في شمالي كردستان (جنوب شرقي تركيا).
– مينورسكي: الأكراد، ص 14 – 15.
– باسيلي نيكيتين: الكرد، ص 88. منذر الموصلي: عرب وأكراد، ص 57 – 58. Mehrdad Izady: The Kurds, p.1, 2.
– Arshak Safrastyan : Kurds and Kurdistan , p. 2 8 .
– انطون مورتكات: تاريخ الشرق الأدنى القديم، ص 367. دياكونوف: ميديا، ص 89، 314 ، 343.
– محمد أمين زكي: خلاصة تاريخ الكرد وكردستان، 1/13.
توضيح:
هذه الدراسة مقتبسة من كتابنا “تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية”.
[1]