$دراسات في التاريخ الكردي القديم (الحلقة 7)قراءة واقعية في الشخصية الكُردية$
د. أحمد الخليل
في فترة قبل الإسلام كانت كلمة (كردي) تعني بالفارسية القديمة (بطل، شجاع، باسل)، حتى إن من الشخصيات الإيرانية القديمة من كان من الرجال والنساء يحمل اسم (كردي) و(كردية)، وقد ذكر أبو حَنيفة الدِّينَوَري (ت 282 ﮪ) ذلك في كتابه (الأخبار الطِّوال)، ففي معرض الصراع الذي قاده الملك الفارسي الساساني هُرْمُزْ بن كسرى أنو شَرْوان ضد الترك، نجده يستعين بقدرات بَهْرام شُوبِين (جُوبِين) واليه على أذربيجان وأرمينيا، وذكر أنه كان لبَهرام جُوبِين أخ اسمه كُرْدي، كان من ثقات كسرى أَبْرَويز بن هُرْمُزْد، وكانت له أخت اسمها (كُرْدِيّة)، وكانت كردية هذه أمّ الملك الفارسي جُوان شَير .
أحكام حيادية:
في العهود الإسلامية، وكذلك في العصر الحديث، لم نعدم باحثين امتازوا بدقة الملاحظة، ونفاذ البصيرة، وحسن التمييز بين الغَثّ والسمين، والتزام الموضوعية في الأحكام، والتمسك بالإنصاف في إصدار الآراء، ونسوق فيما يأتي ما قاله بعض هؤلاء في الكرد:
1 – ذكر جلال الدين السُّيوطي (ت 911 ﮪ)- في معرض حديثه عن خصال الشعوب- أن الله “جعل الغَيْرةَ عشرةِ أجزاء، فتسعةٌ منها في الكرد، وواحدٌ في سائر الناس” .
2 – قال الباحث الأرمني أبوفيان: “نستطيع أن نُطلق على الكرد لقبَ فرسان الشرق بكل ما في الكلمة من مدلول، فيما لو عاشوا حياة أكثر تحضّرًا، ذلك أن الصفات والخصائص المشتركة لﮪذا الشعب تتلخّص في استعدادهم الدائم للقتال، واستقامتِهم وأدبِهم وإخلاصِهم المطلَق لأمرائهم، والتزامِهم الدقيق بكلامهم، وحُسنِ ضيافتهم، والثأرِ للدم المَهدور، والعَداوةِ القَبَلية التي تَنْشَب حتّى بين أقرب الأقرباء، والصبرِ على السلْب وقطْع الطريق، واحترامِهم غير المحدود للنساء” .
3 – علّق الباحث الروسي باسيلي نيكيتين على قول أبوفيان هذا بقوله: “إن السلبَ وقطْعَ الطريق لا يُعَدّان في مفهوم الكرد من الجرائم، بل من علائم الرجولة، … ومع ذلك فهناك إجماعٌ شِبه كامل في الشرق على أن الكرد لا يُعاملون أسراهم تلك المعاملة القاسية التي يَلقاها الأسرى لدى التتار والتركمان والبدو العرب” .
4 – كتب باسيلي نيكيتين تحت عنوان (انطباعات عدد من المستشرقين عن الكرد: سون، بيندر، لوك، ويگرام، مينورسكي) ما يلي: “يمتاز الكردي باستقامته التي لا تتزعزع، وبحِفاظه على العهد الذي يقطعه، وعطفِه النبيل على أقاربه، وسلوكِه الإنساني بصورة- وبخاصة أكراد الجنوب والوسط- تجاهَ المرأة، أكثر من المسلمين الآخرين، وإحساسِه الشاعري، وحبِّه للأدب والشعر، ومسارعتِه إلى التضحية من أجل عشيرته، واعتزازِه العميق ببلاده وقوميته” .
5 – أضاف باسيلي نيكيتين قائلاً: “يّتصف الكردي أيضًا بطبعه الحادّ، وفَوَرانِه المفاجئ، ملتهِبًا بالحماس، وتلك صفةٌ ناتجة عن حياته المضطربة المَلأى بالمفاجآت، ولكنه في الوقت نفسه يتمتّع بروح المَرَح والدُّعابة إلى أقصى الحدود” .
6 – قالت مسز ستوارث إرسْكين: ” والكرد شعب شجاع، يحبّ الحرية ويَتوق إليها، ولهم تقاليدهم ولهم لغتهم، ولهم من الحق في الحرية مثلُ ما لغيرهم، ولكن كان ينقصهم الاتفاق فيما بينهم … والإنكليز الذين خدموا مع الكرد، وعملوا على تدريبهم في الحرب العامّة، كانوا يُجمعون على الإشادة ببطولتهم وجرأتهم وقوّتهم” .
7 – عاش الباحث الروسي مِينُورِسْكي (ت 1966 م) بين الكرد في العَقد الأول من القرن العشرين، واطّلع على عاداتهم ووصفهم عن قرب ومعرفة، فاستشهد ببعض الأحداث التي تدل على اتصافهم بالشجاعة والبسالة وعدم الخمول، وتناول بالبحث أثر الطبيعة الكردستانية في حيوية الفكر الكردي، إضافة إلى ما يتصف به الكرد من حب للمزاح وحدّة في المزاج إلى درجة التهور .
8 – قال باسيلي نيكيتين: “ويُجمع الباحثون على الإقرار بأن الكردي يتمتّع بذكاء حادّ، وفَهم سريع، حتى في الميادين التي لمّا تصبح بعدُ مألوفةً بالنسبة إليه؛ كالميكانيك الذي أثبت أنه عامِل مثاليٌّ فيه، ولا سيّما في مشاريع استخراج النفط” .
9 – جاء في تقرير لجنة التحقيق الدولية التابعة لعُصبة الأمم حول رسم الحدود بين تركيا والعراق سنة (1924 م): “الكرد قوم محاربون أشدّاء، لا يُخفِضون جَناح الذُّل لأحد، متفرّقو الكلمة، لا وحدةَ تجمعهم، ومع ذلك استطاعوا أن يتعايشوا بوئام وحُسن جوار مع الأقوام الأخرى التي تقطن بلادهم” .
10 – قال الباحث اللبناني جُرْجي زَيْدان يصف الكرد: “فيهم الشجاعةُ والنَّجْدةُ والحَمِيّة، فرسانُهم ورَجّالتُهم، وهم متعصّبون لبعضهم على كل حال كما تفعله العرب في بعض الأحوال، وينقادون للديانات والأمانات، وربما كان فيهم غدرٌ في بعض الأوقات، ولا يكون سببُه إلا التعصب والحَمِيّة” .
11 – قال الباحث المصري الدكتور فَهْمي الشِّنّاوي في كتابه (الأكراد يتامى المسلمين): “طوال تاريخهم لم يتلوّثوا بالتهاون ولا التحالف ولا التفاوض مع العدوّ، ولا اتُّهموا بإخفاء تمسّكهم بالإسلام، ولا رضوا لأنفسهم مغانمَ الحكم والقصور والسفارات، ولم يعرفوا المساكنةَ والمداهنة. إنهم يسمّون بلدهم بلاد الشجعان، هكذا يُطلق عليهم المؤلفون الغربيون، ولو أنصفنا لقلنا: كردستان بلاد الشهداء، فهم على مدى التاريخ شهداء الإسلام” .
12 – قال الباحث السو ري مُنذِر المُوصِلّي في كتابه (عرب وأكراد): “لو قلنا بأن الأكراد والجبال لا يفترقان يصحّ القول أيضًا بأن الأكراد والسلاح لا يفترقان … يحبّ الكرديّ سلاحَه، ويحرص عليه، ويهتمّ به ويهيم به، فالسلاح قطعة من نفسه، وجزءٌ من هِندامه وشجاعته” .
ونحسب أن هذا الحرص على ذكر الجوانب المضيئة في الشخصية الكردية هو تعبير عن المفاجأة، وردّ فعل على ما أُلصق بالشخصية الكردية من سلبيات عبر التاريخ؛ لأنه كان من جملة فصول المؤامرة الكبرى والمعقَّدة على الكرد هو رسمُ صورة قاتمة لهم، وتصويرُهم على أنهم شعب من المتوحّشين وقطّاع الطرق وقساة القلوب.
وما أوردناه– وثمة كثير لم نورده– حول الإشادة بخصال الكرد إنما يدخل في السلوك التاريخي للشعب الكردي، ولا يعني البتّة أن الكرد هم (شعب الله المختار)، وأن سائر الشعوب ينبغي أن تتعلّم منهم رفيع الخصال وفضائل الأخلاق. وليس من الموضوعية أن نرسم صورة مثالية وغير واقعية للشخصية الكردية، فالكرد، مثل سائر الأقوام والشعوب، فيهم الصالح والطالح، والمحسن والمسيء، والنبيل والوضيع، والحكيم والطائش، ولا ننس أن خضوع المجتمع الكردي لمؤثّرات ثقافية واقتصادية ولتيارات أيديولوجية مختلفة، ساهم في زحزحة بعض القيم الكردية الأصيلة وتغييبها، وأحدث شرخًا في السلوك الفردي لبعض الكرد، وخاصّة أولئك الذين اضطرّوا إلى العيش في المَهاجر.
مآخذ على الشخصية الكردية:
الحقيقة أن القيم النبيلة والخصال الأصيلة التي لاحظها الباحثون في المجتمع الكردي ما تزال حيّة- مع اختلاف في المستويات- عند كثيرين من الكرد، لكن ظروف القهر التي فُرضت على الشعب الكردي خلال قرون طويلة أفسدت بعضهم، واخترقت منظومتهم الخُلقية. وأكثر ما يؤخذ على الكرد- وخاصّة العلماء والمفكرين والأدباء والساسة- طوال تاريخهم المليء بالكوارث والفواجع، صفات أربع عجيبة، هي:
1 – نكران الذات: يتفانى الكردي في خدمة الآخرين، إلى درجة أنه يَذْهل عن نفسه ومصيره وعن شعبه ومستقبله، ولاريب في أن نكران الذات سلوك إنساني رائع، لكن ما يبعث المرارة في النفس، والحزن في القلب، والدهشة في العقل، أن بعض مشاهير الكرد- دعك من عامّتهم- لم يتردّدوا في التضحية بمصالح شعبهم في سبيل تحقيق مصالح المتسلّطين على رقاب الشعب الكردي.
بل إن بعض الكرد لم يتورّعوا عن قمع أبناء قومهم إرضاءً للإمبراطوريات التي حكمت كردستان، وحسبنا مثالاً على ذلك سليمان نَظِيف، فهو معدود من الشعراء الترك المُجيدين ومن الكتّاب البارزين بالتركية، إنه ولد سنة (1868 م) من أب وأم كرديين في ديار بكر، لكنه تخلّى عن لغته الأم وعن اسمه الكردي (وَنْدگار)، واتخذ اسم سليمان نظيف، وأصبح عضوًا متحمّسًا في جمعية الاتحاد والترقّي الطورانية، وعُيّن واليًا على الموصل سنة (1913 م)، ثم واليًا على بغداد، وفي الموصل جرّد حملة عسكرية على منطقة (بارْزان)، وألقى القبض على الشيخ عبد السلام بارزاني، وأسرع بإعدامه؛ دونما انتظار لوصول قرار الموافقة على تنفيذ الحكم من العاصمة إستانبول.
ومثال آخر هو ضِياء كُوك أَلْب، فاسمه محمد زِيا (ضِيا)، وُلد في ديار بكر سنة (1876 م)، وينتمي إلى كرد زازا، لكنه تترّك، وهجر اسمه السابق، وتسمّى باسم (كُوك أَلْب) وهو اسم تركي، واحتقر المجتمع الكردي الريفي، فانتُخب عضوًا في لجنة الاتحاد والترقّي العليا، وقد بسط نظريته حول الپان- طورانية في كتابه (مبادئ التركية) عام (1920 م)، وقال: “لا أتردّد في القول بأني تركي، حتى لو اكتشفتُ أن جدّي من أصل كردي أو عربي، لإدراكي من دراساتي الاجتماعية أن أساس القومية الوحيد هو التربية والنشأة ” . وما أكثر الشواهد في هذا المجال قديمًا وحديثًا!
2 – النزعة الفردية والقَبَلية: ينزع الكردي بشدة إلى الفردية والقَبَلية، وهو كثير الانشغال بالصراعات الداخلية، ويرفض الانضواء تحت لواء غيره من الكرد، وكم من ثورة كردية قديمًا وحديثًا انتهت إلى الفشل بسبب الانسياق مع النزعتين الفردية والقبلية!
ويكفي دليلاً على الضرر الذي ألحقته الفردية والقبلية بالكرد أنه في الوقت الذي كان يسعى فيه شريف باشا (ضابط ودبلوماسي كردي كبير من سليمانية)، بُعيد الحرب العالمية الأولى، لإقناع الدوائر السياسية الإنكليزية والفرنسية بالموافقة على إنشاء كردستان مستقلة، كان كثير من زعماء الكرد-بتوجيه من الساسة الترك- يرسلون البرقيات إلى تلك الدوائر، يستنكرون فيها جهود شريف باشا، ويعلنون تمسّكهم بالبقاء مع “إخواننا في الدِّين”؛ أي الأتراك الذين كان يقودهم أتاتورك وأصحابه الپان-طورانيين.
3 – سلامة الطَّوِية: الكردي سليم الطويّة في التعامل مع الآخرين، وحَسن الظن بهم إلى درجة الغَفلة والسَّذاجة أحيانًا، وبالطبع إنه أمر رائع أن يكون المرء سليمَ الطَّوِيّة، حسنَ الظن بالآخرين، لكن إذا زاد الشيء عن حدّه انقلب إلى ضده، وقد قال عمر بن الخطّاب ذات مرة: “لستُ بالخِبّ، ولكنّ الخِبّ لا يخدعني”، والخبّ هو الخدّاع.
ولو اقتصرت خصلة سلامة الطّويّة على عامّة الكرد لكان الضرر يسيرًا، ولكن المشكلة أن كثيرًا من قادة الكرد وساستهم لم يستطيعوا التخلّص من تبِعات سلامة الطَّوِيّة، ودفعوا حياتهم ومستقبل شعبهم نتيجة لذلك، ونحسب أن هذه الصفة هي التي أنتجت المقولة الشهيرة الدارجة في معظم بلدان الشرق الأوسط “هل تَسْتَكْرِدُني؟!”. وقد سمعتُ هذه العبارة من أصدقاء عرب في سوريا وفلسطين ومصر؛ وهي تعني: هل تعدّني ساذجًا بسيط التفكير سليم الطويّة أحمق مثل الكردي؟!
وعندما يتمكّن الكردي من التمييز بدقة بين سلامة الطَّوِيّة والسَّذاجة والحَماقة يغدو من الصعب اللعب به، وتسخيرِه لخدمة أغراض الآخرين على حساب مصيره هو ومصير أمته، ونعتقد أنّ نجاحَ صلاح الدين الأيوبي في تأسيس دولة كبرى خارج كردستان، وانتصارَه في صراعاته الإقليمية وحروبه ضد الفرنج، كان نتيجة قدرته على التفريق بين سلامة الطّويّة والسذاجة والحماقة.
4 – الصراحة الفائقة: تلك خصلة أخرى ابتُلي بها الكرد، فالكردي حادّ المزاج، سريع إلى المواجهة المباشرة لمن يستهين به أو يَمْكُر به، لكن دون دراسة هادئة للنتائج، وهو لا يجيد المناورات والمراوغات السياسية في مواجهة خصومه، كما يفعل كثير من قادة الشعوب وساستهم في هذا العالم، أضف إلى هذا ردودُ أفعاله الارتجالية، وإقدامُه على المغامرة بكل شيء عند الغضب، وعدمُ قدرته على إخفاء ما يُضمرونه، وتمسُّكه بالنُّبل في مواقف لا يفيد فيها إلا المداراة والمناورة، ولا سيّما في مواجهة أشخاص اتخذوا المكيافيلية فلسفة والبراغماتية منهجًا.
الهوامش:
– أبو حنيفة الدينوري: الأخبار الطِّوال، ص 104، 111.
– السيوطي: حسن المحاضرة، ص 337.
– باسيلي نيكيتين: الكرد، ص 139.
– المرجع السابق، ص 139- 140.
– المرجع السابق، ص 136.
– المرجع السابق، ص 137.
– مسز ستيوارث ارسكين: فيصل ملك العراق، ص 161 – 162.
– مينورسكي: الأكراد، ص 67 – 70.
– باسيلي نيكيتين: الكرد، ص 26.
– جرجيس فتح الله: يقظة الكرد، ص 572.
– جرجي زيدان: علم الفراسة الحديث، ص 147.
– فَهمي الشِّناوي: الأكراد يتامى المسلمين، ص 72 – 73.
– منذر الموصلي: عرب وأكراد، ص 397 – 398.
– جرجيس فتح الله: يقظة الكرد، ص 56 – 57، 288 – 289. زاريوانت: طورانيا الموحدة المستقلة، ص 44 – 46.
توضيح:
هذه الدراسة مقتبسة من كتابنا “تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية”.
[1]