$دراسات في التاريخ الكردي القديم ( الحلقة 4 ) ما هي خفايا مشروع أَبْلَسة أصل الكرد؟$
د. أحمد الخليل
لا توجد كتابة للتاريخ من غير نوايا، وحيثما وجدتَ كتابة تاريخية فابحث عن النية القابعة خلفها، وقد تكون تلك النية إظهار حقيقة غُيّبت، أو تصحيح معلومة حُرِّفت، أو إلغاء معلومة اختُلقت، أو استكمال معلومة قُدّمت منقوصة، أو تأكيد معلومة دار حولها الشك، أو تفسير حدث غامض، وهلمّ جرّاً. وإن قيام بعض الرواة بأبلسة الكرد في المصادر العربية، ونسبتهم إلى الكائنات الأسطورية، لم يكن بلا نوايا مبيَّتة، وترجع تلك النوايا إلى خفايا دفينة معقّدة. فماذا عن كل ذلك؟
خفايا.. ونوايا:
بتدقيق النظر في الروايات المتعلقة بأصل الكرد وتحليلها والغوص في أعماقها، يصل المرء إلى نتائج تثير الدهشة حقًا، وتوضّح أبعاد التحريف الذي تعرّض له تاريخ الكرد منذ القديم، إنه تحريف يهدف إلى رمي الكرد بأبشع الصفات إثنيًا ودينيًا واجتماعيًا، واستبعادهم من الساحة البشرية اجتماعيًا وحضاريًا:
1 – من الناحية الإثنية: يُفهم من هذه الروايات أن الكرد ليسوا من أبناء آدم الأسوياء، وإنما جدّهم الأكبر هو (شيطان!!)، مع الأخذ بالاعتبار كراهية المسلمين والأديان السماوية عامّة لهذا الكائن الذي يسمّى (الشيطان)، وبما أن الكرد من سلالة (الشيطان)- حسبما زعم صانعو هذه الخرافة- فلا يجوز أن يكون لهم نصيب في إرث أبي البشرية (آدم)، ولا ينبغي أن تكون لهم حقوق (أبناء آدم) في جمع الميادين.
2 – من الناحية الدينية: يُفهم أن الكرد حصيلة نكاح غير شرعي بين نساء منافقات وشيطان، أي أنهم أبناء زنى، وليس هذا فحسب، بل إنه أبشع أنواع الزنى؛ لأنه وقع بين منافقات وشيطان، فكيف يكونون إذًا مؤمنين أتقياء؟ وما دام هذا هو أصلهم فلا بأس من التعامل معهم على هذا الأساس، وإنزالهم أدنى المنازل على جميع الأصعدة، بل من الواجب إعلان الحرب عليهم.
ويمكن الاستدلال من هذه الروايات على أنه لا بأس في القضاء على الكرد وإبادتهم كما حدث في العراق خلال حملات (الأنفال) بدءًا من سنة (1987 م)، وفي قصف مدينة حَلَبْچَه الكردية بالغازات السامة في ( 16 – 3 – 1988 م) ولِم لا؟ ألم تنزل لعنة الله في الكتب المقدسة على (الشيطان) منذ بدء الخليقة؟ أولم يكن (الشيطان) عدوّ (آدم) وعدوّ كل سلالته؟! فلماذا يجب على (المؤمنين) إذًا مﮪادنة سلالته من (الكرد) والإبقاء عليهم؟
3 – من الناحية الاجتماعية: الكرد أبناء الإماء وليسوا أبناء الحَرائر؛ ويعرف كل دارس للتاريخ العربي القديم تدنّي موقع أبناء الإماء في المجتمع عن أبناء الحرائر، وسبق القول بأن التمييز بين أبناء الحرائر والإماء كان ساري المفعول حتى على مستوى الترشيح لمنصب الخلافة، فأصبح أبو العبّاس السفّاح (أمّه عربية) خليفة قبل أخيه الأكبر أبي جعفر المنصور، لأن أم الأخير كانت أَمَة (جارية) أمازيغية (بربرية)، وبموجب هذه القاعدة الصارمة كيف يمكن أن يتساوى الكرد (أبناء الإماء المنافقات!) مع غيرهم من الشعوب (أبناء الحرائر) في الحقوق؟ وكيف تكون للكرد حقوق قومية مثل سائر الشعوب؟! وكيف تكون لهم دولة خاصة بهم؟ وكيف يكون لهم حضور على الصعيد العالمي اقتصاديًا وثقافيًا وعِلميًا؟
ولا شك في أن هذه التوجّهات صدرت عن رؤى قاصرة، وهي نتاج ثقافات تضيق ذَرْعًا بالآخرين، وتستهين بهم، وتعمل لمسخ هوية الشعب الكردي، ولا يتردّد أصحاب هذه التوجّهات والثقافات في إنزال الأباطيل منزلة الحقائق المطلَقة، ولا يتورّعون من ممارسة أشنع أنواع التزوير والتلفيق، بقصد الترويج لأوهامهم الساذجة.
تساؤلات.. وتوضيحات:
ثمة أسئلة هامة جدًا ينبغي الوقوف عندها، وهي لا تتعلق بنسبة الكرد إلى العرب، فذلك أمر قد اجتهدنا في تحديد دوافعه، وقد نكون مخطئين وقد نكون مصيبين؛ ثم ليس في نسبة الكرد إلى العرب ما يُشين، بل فيه ما يعدّ تكريمًا للكرد من وجهة النظر العربية، وخاصة في القرنين الأول والثاني الهجريين.
أجل، حينذاك كان العرب يقودون الفتوحات الإسلامية شرقًا إلى حدود الصين، وشمالاً إلى آسيا الصغرى، وغربًا إلى المحيط الأطلسي فإسبانيا، وحينذاك كانت العروش تتزلزل والتيجان تتهاوى تحت ضرباتهم، وكانت الشعوب تدخل تحت لواء دولتهم طَوْعَا أو كَرْهًا، وكان كثيرون يتمنّون لو كانوا عربًا، كي يجنّبوا أنفسهم ذلّ الموالاة، وكي يحظَوا بقسط من الدولة والصَّولة، ويكون لهم نصيب من النفوذ والجاه والمال، فما الذي كان سيعيب الكرد إذًا لو عُدّوا من عرب قحطان أم من عرب عدنان؟
أجل، إن التساؤلات الهامة لا تتعلق بتنسيب الكرد إلى العرب، وإنما هي خاصة بتنسيب الكرد إلى الشيطان (الجَسَد/جاساد)، وإلى إماء النبي سليمان (المنافقات)، وإلى أولئك (الجن/العفاريت) الذين كانوا خَدمًا عند النبي سليمان، ثم زَنوا بالجواري الفاتنات اللواتي استقدمهن سليمان من أوربا، ولا يشكّ عاقل في أن هذه الروايات ليست سوى اختلاقات وتلفيقات، ولا أساس لها لا في التاريخ ولا في منطق العقل، وهي تنتمي إلى الخرافات والأساطير، ولا صله لها بالواقع لا من قريب ولا من بعيد.
لكن لماذا خُصّ الكرد وحدهم بهذه التلفيقات؟ ولماذا لا نجد ما يقاربها في أصل العرب والفرس والأرمن والترك؟ ومن كان وراء هذه التخريجات العجيبة لأصل الشعب الكردي؟ ومتى وُضعت هذه التخريجات الملفَّقة والغريبة؟ ولماذا وُضعت هذه التلفيقات أصلاً؟ لمقاربة هذه التساؤلات ينبغي أن نأخذ في الحسبان أمورًا ثلاثة:
الأمر الأول: أن روايات نسبة الكرد إلى العرب شاعت في القرن الهجري الأول، وتناقلها مشاهير علماء الأنساب العرب، ولم تكن حركة الترجمة من الفارسية والسريانية والعبرانية واليونانية والهندية قد نشطت حينذاك.
والأمر الثاني: أن روايات نسبة الكرد إلى الجن والشياطين، ونسبتهم إلى الإماء المنافقات، شاعت في كتب المؤرخين والجغرافيين واللغويين الذين عاشوا في القرن الثالث الهجري وما بعده، وصحيح أن حركة الترجمة بدأت في العهد الأُموي، لكنها كانت محدودة، إنها نشطت جداً في العهد العباسي الأول، وتحديدًا منذ عهد أبي جعفر المنصور (ت 158 ﮪ)، ثم قويت جدًا في عهد حفيده هارون الرشيد (ت 193 ﮪ)، وفي عهد المأمون بن هارون الرشيد (ت 218 ﮪ) ومن تلاه من الخلفاء.
والأمر الثالث: أن المؤرخين المسلمين- عرباً وغير عرب- ليسوا هم الذين وضعوا هذه الروايات الملفَّقة، وهذا واضح من الصيغ التعبيرية التي كانوا يمهّدون بها للحديث عن أصل الكرد، مثل: (قيل: …)، (ومن الناس مَن زَعم…)، (ومن الناس مَن ألحقهم ب …). وهذا يعني أنهم سمعوا تلك الروايات أو نقلوها من مصادر غير موثَّقة، وهي بالتأكيد مصادر غير عربية وغير إسلامية، ولو كانت تلك المصادر عربية أو إسلامية لذكرها المؤرخون، ولذكروا أسماء الرواة التي تناقلوها، شأنُهم في سائر الأخبار التي كانوا يحرصون على نسبتها إلى أصحابها ومصادرها ورُواتها في الدين والتاريخ والأدب.
من المستفيد من أبلسة أصل الكرد؟
ما دامت المصادر التي نُقلت منها تلك التلفيقات ليست عربية ولا إسلامية، فهي إذًا مما دخل الثقافة العربية الإسلامية من تراث الشعوب التي دانت بالإسلام عقيدةً، أو رضخت للدولة العربية الإسلامية تَبعيّةً، وهي ليست مصادر هندية، فقد اهتم المترجمون بنقل موضوعات الطب والفلك والرياضيات من التراث الهندي، كما أنها ليست يونانية، لأن المؤرّخين اليونان- ومن أبرزهم هيرودوت (ت حوالي 425 ق.م) لم يذكروا هذه الروايات الملفَّقة في كتبهم.
ولعلها هذه الأخبار الملفَّقة مقتبسة من مصادر فارسية ساسانية، أو مصادر مسيحية، وهذه المصادر المسيحية قد تكون نَسطورية ، أو يَعقوبية ، أو بيزنطية (مَلْكانية) ، وقبل الإسلام كانت توجد نزاعات وصراعات بين الكرد وأتباع هذه المذاهب على الجغرافيا بحكم الجوار، إضافة إلى أن معظم الكرد تمسّكوا بالزردشتية، ولم يدينوا بالمسيحية، وكان هذا سبب آخر للنزاع والصرعات بين الطرفين.
ومن المحتمل أن يكون للمصادر العبرانية المعروفة باسم (إسرائيليات) أيضاً دورها في إنتاج الأخبار بشأن أصل الكرد، ونعتقد أن السبب في ذلك يرجع إلى العهد الميدي، فقد تحالف الملك الميدي كَيْخَسْرو مع الملك الكلداني نابو بُولاصر Nab- apla -usur، وزوّج ابنته أُوميد (أميتس) من نَبُوخَذ نَصَر الثاني (نابو – كدوري- أوصر) Nabu- Kudurri- usur ابن الملك الكلداني، وقضيا معًا على الإمبراطورية الآشورية سنة (612 ق.م)، وتقاسما الأراضي التي كانت تحكمها الإمبراطورية، وكانت سوريا وفلسطين من نصيب الكلدان .
وقد ثار اليهود في أُورْشَلِيم (القُدس) على الكلدان في عهد نَبُوخَذ نَصَر الثاني (نابو – كدوري- أوصر) Nabu- Kudurri- usur ابن نابو بُولاصر سنة (598 ق.م)، فهاجمهم نبوخذ نصر وقمع الثوّار سنة (597 ق.م)، ودمّر الهيكل، ونفى ثلاثين ألف يهودي إلى بابل سنة (596 ق.م)، فكان من الطبيعي أن ينقم اليهود على الكلدان وحلفائهم الميد، وظهرت آثار تلك النقمة في تعاون النخب اليهودية مع الفرس الأخمين بقيادة كورش الثاني في القضاء على مملكة الكلدان في بابل سنة (539 ق.م)، وليس من المستبعَد أن يكونوا قد تعاونوا قبل ذلك مع كورش للقضاء على مملكة ميديا سنة (550 ق.م)، تمهيداً للقضاء على مملكة بابل بعدئذ، وكافأهم كورش على ذلك بالسماح لهم بالعودة إلى أورشليم، وقدّم لهم الأموال لإعادة بناء الهيكل.
والحق أن الفرس إجمالاً كانوا أصحاب المصلحة الكبرى في التعتيم على التاريخ الكردي، وفي تشويه صورة الكرد، منذ أن قضوا على الدولة الميدية سنة (550 ق.م) على يد كورش الثاني الأخميني كما مرّ، ومرورًا بالعهد البارثي (الأشگاني)، وانتهاءً بالعهد الساساني. وقد نقل المؤرخ اليوناني هيرودوت بدقة هواجس الملك الأخميني قَمْبيز بن كورش الثاني من عودة الميديين إلى دفّة الحكم في غربي آسيا، وستتضح هذه الحقيقة أكثر في القسم الخاص بالدولتين الميدية والأخمينية من هذا الكتاب.
ولا نستبعد في الوقت نفسه أن تكون المصادر المسيحية- وكانت من نتاج بعض رجال الكنيسة غالبًا- قد ساهمت في حملة التشويه على الكرد، فالدول المسيحية في غربي آسيا (أرمينيا، جورجيا، الدولة البيزنطية)، كانت الجهة المتضررة الثانية من ظهور الكرد على الصعيد الإقليمي حينذاك، وحاولوا تنصير الكرد، لكسبهم إلى جانبهم في معركة الصراع ضد الدولة الفارسية حامية حمى العقيدة الزردشتية، وضد الدولة العربية الإسلامية حامية حمى الإسلام ووريثة الدولة الفارسية.
وفي هذه الحالات تزجّ الدول بترسانتها الثقافية والإعلامية في المعركة الثقافية، لكسب الصراع السياسي والعسكري، ونحسب أن هذا ما فعلته الدول المسيحية المشار إليها، ولعلها وظّفت جهود كنائسها في هذا المجال، لكن الكرد لم ينضموا إلى صفوفها، وظلوا متمسّكين بالزردشتية، ولا نستبعد أن تكون المصادر النسطورية خاصة هي التي نقلت تلك التشويهات، باعتبار أن النساطرة كانوا متحالفين مع الدولة الفارسية الساسانية، ويستظلون بظلها هرباً من الاضطهاد العَقَدي البيزنطي، ثم تحوّلوا بسرعة إلى التحالف مع الدولة العربية الإسلامية الناشئة منذ عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب، وكانوا أكثر المساهمين في الترجمة خلال العهدين الأموي والعباسي، وهذه احتمالات وترجيحات، والمسألة بحاجة إلى مزيد من المناقشة.
الهوامش:
————-
– نسبة إلى نسطور الأنطاكي الذي اعتقد أن في المسيح شخصًا بشريًا وشخصًا إلهيًا، وهما مسيحان، أحدهما ابن الله، والآخر ابن الإنسان، وأن مريم لم تلد إلهًا متجسِّدًا بل إنسانًا مَحْضًا هو يسوع المسيح، ثم حلّ فيه كلام الله، لذلك لا يجوز أن تُدعى مريم والدة الله بل أم المسيح، وحُرم نسطور وتعاليمه في المجمع المسكوني المنعقد في أَفسوس عام (431 م)، وتعرّض أتباعه للاضطهاد من السلطات البيزنظية، وكثر أتباعه في بلاد فارس وما بين النهرين (العراق). حبيب بدر وآخران: المسيحية عبر تاريخها في المشرق، ص 47، 237.
– اليعقوبية: نسبة إلى يعقوب البرادعي (ت 578 م)، صاحب المذهب المونوفيزي الذي اعتقد أن للمسيح طبيعة واحدة، وقد انتشرت دعوته، في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، في منطقة بين الخابور ودجلة والفرات. نقولا زيادة: المسيحية والعرب، ص 159 – 162.
– المَلْكانيون: يسمّون (الخَلْقيدون) أيضاً نسبة إلى مجمع خَلْقِيدونية عام (451 م)، ويعتقدون أن في المسيح شخصًا (أقنومًا) بطبيعة (بشرية ناسوتية) وطبيعة إلهية (لاهوتية)، وأن الروح القدس منبثق من الآب والابن معاً، وأن أقنوم الابن أقلّ من أقنوم الآب بدرجة، وقد ورث الأرثوذكس هذا المذهب. حبيب بدر وآخران: المسيحية عبر تاريخها في المشرق، ص 47.
– دياكونوف: ميديا، ص 283. طه باقر وآخران: تاريخ إيران القديم، ص 41.
توضيح:
هذه الدراسة مقتبسة من كتابنا “تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية”.
[1]