مقابلة مع المخرج الكوردي التركي #يلماز غوناي#
د. جواد بشارة
01-01-2020
أجريت معه بمناسبة تواجده في فرنسا عام 1983 وعرض فيلمه الجدار في فرنسا وفوزه بالجائزة الكبرى السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، قبل وفاته ببضعة أشهر
س: السيد يلماز غوناي أنت تعتبر واحداً من أهم الوجوه الثقافية والفنية في تركيا اليوم ولك أهمية ومكانة تساوي وتعادل أهمية ومكانة كبار الفنانين والأدباء الأتراك الذين عرفهم العالم . لكننا نريد منك تقديم نفسك إلى القراء العرب
غوناي: أنا من مواليد منطقة أدنة التركية التي انحدر منها الكاتبان العظيمان أورهان كمال ويشار كمال، وهي منطقة واقعة في الجنوب الشرقي من تركيا في الوادي الكبير المسمى كوكورفا ويغذيها نهران مهما هما سيهان وكهيان وهذه المنطقة توفر للوطن المناخ الجغرافي المثالي وأفضل الشروط للنشاط الزراعي الغني حيث يتواجد فيها الخضرة الدائمة، وهي أيضاً مركز مهم ومشهور في زراعة القطن، بالإضافة إلى ذلك فهي بقعة تغص بالبشر ومهددة بانفجار سكاني حيث يوجد تكاثر سكاني هائل فيها وهي منطقة فريدة ومتميزة بالعنف وقساوة الحياة اليومية ويسودها قانون الدفاع الذاتي فكل واحد من سكانها يمتلك سلاحه الخاص ويمكننا أن نعتبرها نموذجاً مصغراً لتركيا المعاصرة وما يموج فيها من تناقضات .
س: إذن أنت تنتمي إلى هذه المنطقة وبديهياً إلى طبقة اجتماعية معينة ومحددة فهل لك أنت تحدثنا عن تربيتك وأصلك العائلي والطبقي؟
غوناي: ولدت في وسط عائلي متواضع، بل وحتى فقير نسبياً. وكنت أحد سبعة أطفال يعيلنا والدي الذي كان عامل موسمي، كانت العائلة تعاني من الفقر ومهددة بشبح الحاجة والعوز المهيمن عليها . لقد كنا غارقين في خوف مستمر من الجوع والتشرد في ليلة ما في أي وقت.
س: بعد هذه الطفولة المعذبة، كيف كانت بداياتك الفنية والأدبية واحتكاكك بالعالم الثقافي؟
غوناي: لقد جئت إلى المدينة الكبيرة الهائجة اسطنبول بأعوامي التسعة عشر واستقريت فيها ولم يكن ذلك بالأمر السهل . كنت مجبراً على البحث عن أي عمل لكسب لقمة العيش، لكنني كنت منذ ذلك الحين أكتب القصة القصيرة والشعر، وقد حاولت التعرف على أشهر الشخصيات السينمائية المتواجدة في ذلك الوقت إذ كانت السينما تستهويني جداً وهي من أهم أدوات التعبير الفني ولقد نجحت في محاولتي تلك واخترقت جدار الصعوبات . كانت أول الشخصيات التي كان لها الأثر الحاسم في حياتي الفنية والمهنية وفي اتجاهي واختياري المهني، مما كيف مستقبلي السينمائي، هي شخصية المخرج السينمائي عاطف يلماز الذي وفر لي فرصة البداية الحقيقية واستخدمني كممثل وعلى مدى عشر سنوات حيث مارست هذه المهنة بفضله.
س: هل كان عملك في الحقل السينمائي والأدبي متواصلاً أم إنك عشت فترات من الانقطاع القسري أجبرتك على ترك العمل الفني؟
غوناي: في الواقع كانت هناك استمرارية عدا سنتين بداية سنة 1961 حيث أعتقلت وحوكمت وسجنت بتهمة الشيوعية لكن ذلك لم يؤثر علي قط . وكنت قد تحدثت عن هذه التجربة في إحدى قصصي التي نشرت فيما بعد وعرضت فيها بأمانة ما حدث لي اعتماداً على تجربتي الشخصية المعاشة وتجارب الرفاق الآخرين . ومنذ ذلك الحين وأنا أمين ومخلص لهذا الخط الواقعي الملتزم في كل أعمالي سواء السينمائية منها أو الأدبية.
س: كيف كانت الانعطافة في حياتك السياسية والفنية لأننا نعرف أن ماضيك الفني متنوع المستوى والقيمة؟
غوناي: تقصد أنه متباين المستوى، أنت محق لكن أعمالي التجارية الهابطة كانت مفيدة لي من زاوية أخرى اكتسبت من خلالها التجربة اولاً، ومن ثم، وبفضلها تكونت شهرتي ومكانتي الفنية والتجارية وثقة المنتجين والجمهور بي وبما يضمنه إسمي لهم من أرباح ونجاح ومردود تجاري ومالي مما شجعني على المطالبة بإخراج أفلامي بنفسي وكنت أريدها أن تكون أفلاماً مختلفة وذات أطروحات ومواقف سياسية واضحة وتسترشد بالماركسية كفلسفة للإنسانية جميعاً وكمبدأ ومنهج جمالي وفكري ملتزم، ألتزم به وأسير على خطاه. أعترف لك بأنني في بداياتي لم أكن أفهم الماركسية فهماً عميقاً وصحيحاً وعلى نحو متطور وعقلي كبقية المثقفين وإنما اعتنقتها من منطلق عاطفي لأبعادها الإنسانية ولعدالة موقفها من الإنسان والطبقات المسحوقة والفقيرة والبروليتاريا . لكن هذا الالتزام قد تبلور وتطور فيما بعد وأضحى قناعة ثابتة وراسخة لا تتزعزع.
س: مالذي ساعدك على هذا الفهم والتعمق بتلك المباديء النبيلة والتقدمية، وكيف أتيحت لك الفرصة لكي تهضم تعاليم الماركسية اللينينية في مجالي الأدب والفن؟
غوناي: إقامتي في السجن هي التي صقلتني وأتاحت لي فرصة الاطلاع على الكتب والأدبيات الماركسية الرصينة وكذلك الالتقاء بكثير من الرفاق والمسؤولين والمثقفين. من هنا ترسخت لدي إرادة قوية بأن أكرس فني وطاقاتي وجهودي لإدانة الظلم الاجتماعي ودحض الفاشية والدكتاتورية والتحريض على الانتفاضة لقهر الظلم بقوة لسلاح إذا تطلب الأمر ذلك ومحاربة المستغلين لقهر الفقر الذي ترزح تحته الطبقات المسحوقة والمستغلة ولمعاقبة المفسدين والمستغلين ورجال السلطة الفاشية حيث اعتبرت ذلك بمثابة دين علي تجاه طبقتي وشعبي.
س: بعد رصيدك الطويل في مجال التمثيل اتجهت للإخراج كيف حصل ذلك ومتى؟
غوناي: كان التحول للإخراج ضرورة أملتها علي الظروف ونمو الوعي السياسي والفني . فأنا لم أمارس التمثيل فقط بل كتابة القصة والسيناريوهات والأدب، أما الإخراج فقد حصل ذلك لأول مرة في سنة 1968 عندما قررت إخراج فيلم سيد هان وهو عن قصة حب عنيفة وقاسية كانت نهايتها مفجعة بسبب التقاليد الإقطاعية الموروثة في شرق البلاد . لم يكن الفيلم على مستوى طموحاتي فقد جاء ضعيفاً في مفرداته الإخراجية ولغته السينمائية لكنه كان فيلماً نظيفاً على أية حال. المهم أنني، ومن خلال تجربتي في هذا الفيلم، تعلمت الكثير من أسرار المهنة وقدرت أيضاً إمكانياتي على الخلق وخوض هذا المجال الجديد على والتخصص الجديد . ثم تبعت ذلك الفيلم بضعة محاولات كانت متقدمة عليه بشكل أو بآخر، فقد كانت أكثر رزانة وإتقان ودقة في الإدارة من الناحية التقنية ومن جانب الموضوع والمضمون أيضاً مثل فيلم الذئاب الجائعة و فيلم الرجل القبيح، وعلى الأخص فيلم الأمل الذي أخرجته سنة 1970 .
س: على ذكر فيلم الأمل أعتقد أن هذا الفيلم له أهمية بالغة في مسيرة السينما التركية، وله مكانة خاصة عندك وفي تاريخك السينمائي كمخرج. هل يعود ذلك لمضمونه وموضوعه أم لأن إسمك هو الذي كان وراء هذا الاهتمام بالفيلم، وكلنا يعرف مدى قوة تأثيرك غير المحدودة على الجمهور وإنك تمتلك ما يشبه الحصانة الجماهيرية مما جعل السلطات تتخوف منك ومن أعمالك؟
غوناي: سأجيب أولاً على الشطر الثاني من السؤال. تأثير إسمي يعود لشهرتي الجماهيرية كنجم وممثل سينمائي في البداية قبل أن أتحول للإخراج. فقد دخلت ضمن دائرة النجومية وأديت أدواراً متنوعة، منها الجيد ومنها التافه والرديء لكنها كانت قريبة من الذوق العام ضمن إطار الأفلام التجارية السائدة، ومن هنا خلقت أسطورة ونجومية غوناي كما بالغ في ذلك النقاد كثيراً. أما فيما يخص فيلم الأمل فأعتقد أنني، بممارستي الإخراج واندفاعي والتزامي السياسي، قد قطعت الجسور نهائياً مع ما أصطلح على تسميته بالسينما التجارية ذات المواضيع التخديرية التي تدفع المشاهدين للهروب المؤقت من واقعهم البائس والتعاطي مع مواضيع ذات هموم برجوازية وشخصيات نمطية . فمع هذا الفيلم التجأت إلى محاولة خلق البطل الواقعي الإيجابي، وطرق المواضيع ذات الأجواء والأطروحات والمعالجات الواقعية الحية، وهجرت كذلك النهايات السعيدة التي عودتنا عليها السينما الأمريكية الاستهلاكية المسمومة والمواضيع الميلودرامية الساذجة.
س: وماذا أضاف هذا الفيلم للمشاهدين فيما يتعلق بالمفاهيم السائدة عن البطل التقليدي في السينما التركية والذين اعتادوا أن يروه فيك على تفاوت مستوياتهم وأذواقهم؟
غوناي: حطم هذا الفيلم أسطورة البطل المثالي الذي لا يقهر والقادر على كل شيء والمنتصر دوماً . فقد طرح الفيلم مفهوماً جديداً يقول بأن لا حلول ممكنة حقاً إذا كانت المحاولات فردية وإنه لا بد من العمل الجماعي والتكاتف والاهتداء بفكر نير واعي وتقدمي ملتزم ومنظم سياسياً . وهنا مكمن الخطورة لمثل هذه الأطروحات وأعتقد أن الكثير من الجمهور قد فهم بشكل جيد مغزى هذا التحول وصلاحيته وهذا هو جوهر رسالتي عبر السينما.
س: كيف استطعت أن تواصل خطك هذا رغم ما نعرفه من صعوبات وعقبات تقف في وجه الفنانين الجادين خاصة المناضلين التقدميين وهم يشقون طريقهم الشاقة بصعوبة بالغة في وسط غابة الفن التجاري الرخيص بغية الوصول إلى جمهورهم وبث الوعي والأمل في نفسهم وحثهم على المواصلة؟
غوناي: بالنسبة لي لم يكن ذلك بالأمر الصعب نظراً لشهرتي ولكوني محبوباً جداً ومعروفاً لدى الجمهور وإسمي مضمون وكنت أربح كثيراً لذا لم أكن محتاجاً للآخرين حتى أواصل مهمتي على عكس الفنانين التقدميين الآخرين في أماكن وظروف أخرى، فهم يعانون الأمرين . لقد ساعدت كثيراً من الرفاق الفنانين الذين كان يواجهون صعوبات كبيرة في العمل . ثم أنني كنت قد أسست شركتي الخاصة في الإنتاج ولم يكن علي رقيب أو منتج ليملي علي شروطه أو يمنعني من عمل ما أريد سوى الرقابة السياسية للدولة الفاشية بالطبع.
لقد أوقفتني السلطات التركية وسجنتني على إثر الانتفاضة الشعبية التي حدثت في مارس آذار 1971 والتي حصل فيها تدخل العسكر في الشؤون السياسية ولعب الجيش دوره القمعي القذر لحسم الموقف لصالح الزمرة العسكرية الفاشية القذرة الحاكمة وكنت قد انتهيت للتو من إخراج فيلم الأب وهو عن قصة للكاتب الكبير والمشهور بكر يلدز وبدأت بتصوير ثلث فيلم الفقراء الذي لم يكتمل حيث أدخلوني السجن ولم تكن تلك أول و لا آخر مرة أدخل فيها سجون الطغمة الحاكمة في تركيا إلى يوم الناس هذا.
س: إن اعتقالك لم يكن أمراً عادياً وقد أثار ردود أفعال عنيفة وضغوطات كبيرة في الداخل والخارج، ألم يخلق لك ذلك مشاكل داخل السجن مع المسؤولين، وكيف أمضيت أوقاتك في السجن؟
غوناي: فعلاً لم يكن سجني سهلاً على الحكومة ولم يمر مرور الكرام، فقد أثار زوبعة من الاحتجاجات كما سمعت واستلمت مئات الرسائل المؤيدة والمشجعة لي من قبل شخصيات معروفة عالمياً لم أكن أعرفها من قبل وكلهم كانوا يطالبون بإطلاق سراحي لذا لم يتجرأ أحد على إيذائي أو تعذيبي أو إساءة معاملتي كما فعلوا مع غيري بهمجية تفوق التصور . وقد استفدت من إقامتي في السجن لكتابة روايتين وكثير من الكتابات والمشاريع لسيناريوهات سينمائية مستقبلية كان أولها فيلم الرفيق . كانت في ذلك الوقت مشكلة التمزق الثقافي مطروحة ومسألة تبني الطبقات البرجوازية الغنية لنمط الحياة الغربية وتقاليدها وأفكارها الرأسمالية الاستغلالية في مواجهة حياة الفقراء والفلاحين والطبقات المعدمة التقليدية التي تعود بجذورها إلى الإغريق والعرب، وتأثير الدين عليهم . كل هذه المشاكل كانت تؤرقني وتتملكني وأنا أفكر فيها في السجن وكان مشروع فيلم الرفيق هو المخرج لتوصيلها من خلال لقاء صديقين من طبقتين وعقليتين مختلفتين وكان فيلما سياسياً ولكن ليس على نحو مباشر.
س: أنت تتكلم باستمرار عن الفلاحين والكسبة والفقراء والطبقات المسحوقة لكنك لم تلفظ كلمة العمال، فهل للعمال نصيب في أعمالك السينمائية باعتبارك فنان ماركسي لينيني؟
غوناي: في مجتمع مثل مجتمعنا، وكذلك أغلبية مجتمعات العالم الثالث، لا توجد طبقة عمالية بالمعنى العلمي والطبقي للكلمة، أي على شكل الطبقة العاملة التي تكونت وتطورت في الغرب . فنحن مجتمعات زراعية أكثر منها صناعية وعندما أقول الكسبة والفلاحين والباعة فهم بالنسبة لي عمال يتميزون عن الأثرياء والتجار وأصحاب رؤوس الأموال الذين يستغلونهم في كل أنواع العمل الذي يقومون به ومع ذلك فهناك فيلم أعتز به وهو فيلم القلق الذي تحدث عن مأساة العمال الموسميين الذين يشتغلون بجني أو قطف القطن لحساب الإقطاعيين الأغنياء، وكان أبي أحد هؤلاء العمال الموسميين وتدور أحداث الفيلم في أدنة مسقط رأسي لكني لم أتمكن من إخراج هذا الفيلم بنفسي بسبب وجودي وراء القضبان فقد كتبت السيناريو وأنتجته وكلفت مساعدي ورفيقي شريف غورين بإخراجه ففعل ذلك بجدارة وجاء فيلماً مؤثراً وذو إيقاع منفعل وعنيف . أما فيلم الفقراء فقد قام بمونتاجه النهائي وأكمل تصويره زميلي المخرج الكبير عاطف يلماز بالاستعانة بملاحظاتي وبما صورته من الفيلم قبل دخولي إلى السجن . ومن بعد ذلك طلبت من المخرج الصديق والرفيق زكي أوكتن أن يواصل إخراج ما أعددته من سيناريوهات كفيلم العدو وفيلم القطيع وكان إخراجه رائعاً ومتكاملاً ومتمكناً تماماً، والأهم من كل ذلك، أميناً للغاية لخطي وأفكاري والتزامي الفكري والسياسي لكنه أضاف لهذين الفيلمين عمقاً إنسانياً ومسحة غنائية شاعرية أصيلة كنت أتمناها لو كنت أنا مخرجهما فهو لم يقصر بعمله .
س: إذن فالسجن لم يمنعك أو يعرقل جهودك في مواصلة عطائك الفني والسياسي؟
غوناي: لا تنس أنني لم أكن في وضع يمكن مقارنته ببقية السجناء المظلومين، سياسيين كانوا أم غير سياسيين، فقد كنت محتجزاً في شبه جزيرة وفي الهواء الطلق أقرأ وأكتب كثيرا وأزرع الطماطم والخضروات. هل تعلم أنه ليس في قدرة أي شخص غيري أن يزرع ويعتني بمثل هذا النوع من الطماطم الكبيرة والجميلة . أعتقد أن بإمكاني عمل أشياء لا يقدر عليها أحد غيري أو على الأقل يعملها بطريقة تختلف تماماً وقد لا تكون الأفضل كان يروي لي قصة زرع الطماطم وهو يضحك لأنه نشاط كان يقوم به لتزجية الوقت وقتل الروتين
س: ماذا كنت تقرأ في السجن؟ ماهي الكتب أو المواضيع التي كانت تستهويك وكانت المفضلة لديك أكثر من غيرها؟
غوناي: الكتب السياسية بالدرجة الأولى وأيضاً البحوث الاجتماعية والاقتصادية والعديد من النتاجات الأدبية والفنية. فأنا أكتب إلى جانب السينما في مجال الأدب وكذلك أكتب مقالات سياسية تعالج القضايا الملحة والحساسة داخلياً وعالمياً والتي لها تأثير عما يدور في الوطن . من هنا أعتبر نفسي مناضلاً سياسياً في المقام الأول وبعدها سينمائي وأديب بالدرجة الثانية .
س: إذن فالسينما بالنسبة لك هي وسيلة لإيصال النص الأدبي والموضوع السياسي، وهي وسيلة تعبير مستقلة تمر عبر قنواتها المواضيع والرسائل المطروحة، التقدمي منها والرجعي، الجيد والرديء؟
غوناي: بالطبع أنا فنان بصري، فنان ذو رؤية بالدرجة الأولى والكتابة عندي لها استقلالية عن تفكيري الصوري . لقد كتبت أربعة روايات وعشرات القصص القصيرة والعديد من القصائد والمقالات والسيناريوهات لكن الجانب الأدبي لم يدفن أو يهيمن بأي حال على الجانب الصوري والتخيلي عندي. وأنا أنطلق دائماً من مخيلتي . فنقطة الانطلاق لأي عمل هي دائماً مجموعة من الصور التي تتراكم في ذهني كالرؤيا أو الحلم في اليقظة . فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت هناك صورة تلح علي كالكابوس وكانت الأصل والقاعدة والأساس لفكرة فيلم الأمل وهي صورة لرجل يسير في عمق صحراء شاسعة مجهداً ليرمي جثة حصانه الميت . وعند ذلك تبلورت وتكاملت فكرة الفيلم لكني لم أهمل هذا المشهد بل أدخلته ضمن أحداث الفيلم بعناية . أنا أتمتع وأجد لذة غامرة لا توصف وسعادة غير محدودة أثناء صنعي لأفلامي وأحاول أن أملأها بكثير من التفاصيل الدقيقة وهي تفاصيل بصرية أو صورية كالأجساد والوجوه والأشياء وخصوصا النظرات. نظرات الناس الذين تحتويهم وتطوقهم المشاكل من كل جانب وأيضاً كل ما هو حي يتحرك . من هنا يمكنك أن تطلق تسمية أفلامي بأنها أفلام وصفية.
س: هل لك أن تحدد لنا ملامح شخصياتك السينمائية، أي أن تحدثنا عن أبطال أفلامك وتقدم لنا بورتريهات عن كل واحد منهم؟
غوناي: هناك نوعين من الشخصيات المتفاوتة النوعية والمستوى والجدة في تاريخي السينمائي. الشخصيات التي جسدتها كممثل والشخصيات التي خلقتها وأبدعتها كمخرج أو كاتب للفيلم الذي أخرجه غيري لكنها في مجملها،مع الأخذ بنظر الاعتبار تاريخ صنعها وتقديمها، تعبر عن معظم النماذج الاجتماعية التي يمكنك أن تلمس وتحس بوجودها داخل المجتمع التركي المعاصر وما تواجهه من مشاكل من شتى الصنوف والأنواع، وهم بوجودهم المتلاطم هذا يترجمون الحالة النفسية السائدة والوضع المهيمن على جميع وجوه وجوانب المجتمع سواء المدني منه أو القروي أو الريفي، الثري أو الفقير، وفي نفس الوقت فهي تعرض لنا صيغ ونماذج لأناس من شعب ما يزال يبحث عن هويته إلا أن معظمهم، أو الغالبية العظمى منهم، ضحايا وليسوا جلادين . فأنا لا أود أن أركز على الشخصيات القوية المتسلطة والشريرة وأعرضها بمعرض أو صورة وطريقة تضفي عليها ملامح بطولية حتى لو قهرت في آخر الأمر فإن لهذه العملية أو المقاربة الجمالية نتائج عكسية على المتفرج . فأنا أريد أن أتفادى وقوع المتفرج في حالة من التقمص والتفريغ النفسي والتنفيس عن مكبوتاته وغضبه وهو يرى الشرير والمتسلط والمستغل يعاقب على جرائمه ويأخذ جزائه في النهاية رغم أن ذلك لم يحصل في الواقع مما يجعل المشاهد بعد المشاهدة يلجأ للسكينة والرضا وبالنتيجة إسقاطه رغماً عنه في فخ الاستسلام والتخدير وعدم المقاومة لأنه في لاوعيه يشعر بأن كل شيء سيكون على مايرام . ولهذا فأنا أحاول أن أجعله يفهم ولو بصورة مباشرة وبسيطة طبيعة الظروف المحيطة به وحقيقتها ومسبباتها وسياسة الدولة إزاءه وحقيقة المجتمع وإفرازاته لهذا النوع من الشخصيات الشريرة أو النبيلة . أنت تعرف أننا في هذا البلد تركيا الذي تحكمه زمرة من العسكر الفاشيين عملاء للإمبريالية وحلفاء لرأس المال المستغل لدماء الشعوب، محاصرون، وكل محاولة لخلق سينما تقدمية وملتزمة، هي محاولة محكومة بالاصطدام بالطبقات المهيمنة وبمصالحها الحيوية التي تريد استمرار الوضع على ماهو عليه وديمومة السكينة، وسلاحها في ذلك متمثل بالرقابة الشديدة والصارمة على كل ما تخرجه السينما باعتبارها أخطر وسيلة تعبير وأكثرها فعالية وتأثيراً على النفوس.
س: لكنك في بداياتك لم تكن عميقاً ومتجذراً في نقدك للمجتمع وللسلطة السياسية كما أنت عليه اليوم؟
غوناي: عندما قررت الاتجاه نحو الإخراج كانت المهام واضحة أمامي رغم أني كنت قد بدأت مبكراً في نقدي الاجتماعي والسياسي عبر شخصياتي كممثل لكنه كان موقفاً مثالياً . ومن ثم بدأت بأفلام النقد الاجتماعي المعتدلة وانتهيت إلى أفلام الإدانة والتعرية والتنديد والتحريض الصريح دون أن أهمل جانب المتعة والاستعراض التي يجب أن تتوفر في كل فيلم لكي يقرب الجمهور منه ويؤدي رسالته على أفضل وأكمل وجه . فأنا لا أتمنى أن أصنع أفلاماً مضجرة ومملة وخطابية باردة وبطيئة وضعيفة الشكل والتقنية من أجل مضمون سياسي قد لا يصل لأحد إلا لقلة قليلة أما الأغلبية فسوف تهرب منها ولدينا من الفلكلور والتراث الشعبي والواقع المليء بالقصص ما يكفي لعرضه واستخدامه في صنع الأفلام الجماهيرية وفي طرح قضايا ومشاكل هذه الجماهير بصيغ وأساليب متطورة وجذابة لكنها تقدمية شكلاً ومضموناً إذ لا يمكننا الفصل بين الشكل والمضمون . بعياره أخرى شخصياتي واقعية حقيقية دون زيف أو افتعال أو مبالغة وهي مليئة باللمسات الإنسانية وبكثير من التفاصيل الحياتية واليومية التي يمارسها الجمهور نفسه كل يوم في حياته الواقعية.
س: هل تستطيع أن تروي لنا باختصار عملية التحضير والتنفيذ التي واكبت أفلام القطيع و العدو و الطريق ؟
غوناي: سبق وأن قلت أن هذه الأفلام الثلاثة، ومن بعدها فيلم الجدار الذي أخرجته في أوروبا حيث بنيت ديكور سجن تركي متطابق تماماً مع ما يوجد في الواقع ولكن في الأستوديو، تشكل نقاط تحول في أسلوبي السينمائي وكذلك في السينما التركية المعاصرة اليوم.
لقد ولد فيلم القطيع كفكرة وأنا في سجن سليميا ثم تطورت الفكرة وأخذت أبعاداً أخرى عندما نقلوني إلى سجن أزميت وكنت قد انتهيت من كتابة ملخص للموضوع كان مقرراً أن يتحول إلى سيناريو معد للإخراج كلفت بتنفيذه المخرج تونست أوكان لكن هذا المخرج فقد اندفاعه بسبب المشاكل المالية التي وجدت شركتي الإنتاجية غوناي فيلم نفسها غارقة فيها بيد أن هذا الوضع الطاريء لم يمنعنا من تحقيق التزامنا بإخراج أو تنفيذ هذا الفيلم بإمكانيات مادية ضعيفة وظروف نفسية صعبة جداً. وقصة تصوير الفيلم ووقائعها تكفي وحدها بأن تكون موضوعاً لفيلم وجديرة بأن تروى يوما ما بالتفصيل كتجربة ثرية ومفيدة. نفس المشاكل تكررت مع فيلم العدو وتضاعفت الصعوبات والمخاطر مع فيلم الطريق بسبب موضوعه الحساس والمؤثر والمثير للقلق.
س: ما ذا يعني بالنسبة لك نص الفيلم أو السيناريو الذي تكتبه لغيرك وهل يؤثر ذلك فيك أثناء كتابته إذا كنت تعلم مسبقاً فيما إذا كنت أنت الذي سيخرجه أو أحد مساعديك ولكن تحت إشرافك وتوجيهك؟
غوناي: السيناريو بالنسبة لي ما هو إلا فرصة أو حجة لعمل فيلم ودافع مهم لي للتحرك، وقد يكون في نهاية الأمر قد تغير كلياً بعد التنفيذ وأصبح مختلفاً تماماً عما كان عليه وهو في طور الكتابة أي نصاً على الورق. أنا أحب وأميل كثيراً للارتجال والابتكار الذي توحيه لي بعض اللحظات والأماكن والأحداث أثناء التصوير . ومع هذه الأفلام الثلاثة الأخيرة قبل فيلم الجدار كنت أعلم مسبقاً بأني سوف لن أقوم بإخراجها بنفسي بسبب وجودي في السجن، لهذا السبب قررت إضافة الكثير مني ومن أفكاري وتخيلاتي وصوري وتصوراتي التي تزدحم في رأسي فاضطررت إلى كتابة ديكوباج تكنيكي فني تفصيلي دقيق مع جميع الملاحظات الضرورية المهمة للإخراج والحوار والموسيقى بالإضافة إلى تعليمات مكثفة وواضحة عن الديكور والألوان والملابس وحتى نوع العدسات التي يجب أن تستخدم، لكل واحد من تلك الأفلام الثلاثة.
س: وماذا يعني لك إخراج فيلم وتصويره؟
غوناي: مغامرة ... إن عمل كل فيلم من أفلامي عبارة عن مغامرة على كل الأصعدة، الفنية والتقنية والاقتصادية والاجتماعية وبالطبع السياسية، في حالة بلد مثل تركيا ونظامها الفاشي العسكري، وهي مغامرة غير مأمونة و لا محسوبة العواقب سلفاً وليس بإمكاننا التأكد من النتائج مسبقاً أبداً.
س: كم من الوقت تستغرق في كتابة سيناريو من نوع القطيع أو الطريق أو الجدار؟
غوناي: العمل الأول، أي سيناريو فيلم القطيع في صيغته الأولية، انتهىت في ظرف شهرين ثم أعدت كتابته فأخذ مني أربعة أشهر إضافية، ولكن بين الوقتين احتجت إلى كثير من المصادر والوثائق وللمعلومات الأكثر دقة وشمولاً وتفاصيل عن الواقع وقد وفرها لي صديق لي وأنا في السجن بعد أن سلمته العشرات من الأسئلة والاستفسارات تتعلق بأمور عملية عن منطقة مادن حيث تدور أحداث الفيلم، وعن الأسماء وأسعار الماشية الخراف وعن استعمال التراكتورات، وعن تأثير الدين ومكانته بين الناس بمختلف انتماءاتهم الطبقية ومدى تغلغله في حياتهم اليومية . وقد ساعدني ذلك الصديق بإدارة وتنفيذ هذا التحقيق الميداني والاجتماعي الذي أجراه خدمة لي وزودني أيضاً بالكثير من الصور الملونة للرعاة والفلاحين وللريف والسهول والمراعي والحقول . وعندما وقع بين يدي هذا الكنز المرجعي سلمت نفسي للتخيل عبر الصور والكلمات وقد غزاني الموضوع وتملكني ودخل كياني ومشاعري حتى لم أعد أفكر إلا فيه وأنا أشتغل بدون إرادة مني وعلى نحو شبه آلي على السيناريو النهائي الجاهز للتصوير والنتيجة أسفرت عن هذا الأثر البديع بعد أن استغرق العمل بأكمله لدي نحو ثمانية أشهر عدا فترة التصوير والمونتاج.
س: إسمح لي أن أعيد عليك سؤالي السابق عن تأثير السجن ودوره في كتابتك لسيناريوهاتك بمثل هذه الدقة والتقنية؟
غوناي: على عكس الكتاب والفنانين التقدميين الأتراك الذين أمضوا فترات طويلة في ظلام السجون مثل المناضلين الشاعر ناظم حكمت والكاتب كمال طاهر وغيرهم، حيث كان للسجن تأثيراً كبيراً على نتاجاتهم وأساليبهم ومستواهم، بل وحتى شهرتهم، لم يكن للسجن أي تأثير مباشر علي وعلى كتاباتي السياسية وسيناريوهاتي السينمائية لأنني لم أعان من نفس الظروف بل شاهدتها بعيني وهي تمس غيري ولم أكن أريد أن أكتب مذكرات السجن أو عن السجن إلا لأنني لم أتمكن أن أتجاهل هذا الواقع المأساوي فكان فيلم الطريق الذي يبدأ من السجن ويذهب إلى خارجه أي إلى السجن الكبير ، سجن المجتمع وصعوبة الحياة وقساوتها. ثم تبعته بعد أن حصلت على حريتي بفيلم الجدار الذي يعود بنا إلى داخل السجن حيث تدور أحداثه كلها تقريباً في السجن. ونظراً لظروف عمله واستحالة تصويره في تركيا وفي سجن حقيقي، قمت ببناء سجن تركي في قلب أوروبا لتخليد تلك الشخصيات وفضح الواقع المزري الذي تعيش في غياهبه الشخصيات عبر المآسي التي رأيناها سواء في فيلم الطريق أو فيلم الجدار .
س: صحيح أن هناك دائماً مسحة سياسية في أفلامك ولكن ألم تفكر في يوم ما أن تعمل أفلام سياسية مباشرة وبحتة؟
غوناي: كل أفلامي، منذ أن تحولت إلى الإخراج، أي منذ فيلم الأمل كانت أفلام سياسية ولكن هذا لا يعني بأنني سأعالج مواضيع ومشاكل سياسية نابعة من الوقائع الإخبارية اليومية المحلية أو العالمية رغم أهميتها بالنسبة لي إلا أنني لن أتناول موضوعاً سياسياً بحتاً أي قصة سياسية وإنما سأواصل معالجة المواضيع الفردية أو الجماعية الاجتماعية والأخلاقية ذات المعاني والانعكاسات والتفسيرات السياسية، أي السياسة كخلفية للموضوع وليس الموضوع نفسه، وذلك من خلال عرض الدراما النفسية والمجتمعية الواقعية من وجهة نظر علمية اجتماعية انتقاديه وتقدمية التوجهات والتناول فهذا أقرب إلى نفسية الجمهور وأكثر فعالية وتأثيراً من الطرح السياسي المباشر .
س: إلى أي مدرسة سينمائية تنتمي؟
غوناي: إلى المدرسة الواقعية والتي يمكن أن أسميها الواقعية الشعرية .
أجراها د. جواد بشارة[1]