الفيلم الكردي الأهم لا يزال يحمل حتى اليوم هوية تركية مقحمة
يول الذي حققه يلماز غوناي من داخل سجنه خاتمة لحياة تدعو إلى الدهشة
إبراهيم العريس
في ذلك الحين، كان من المحظور رسمياً في تركيا الإتيان على أي ذكر للأكراد أو لأية هوية كردية، بالتالي حتى استخدام اللغة التركية في أي عمل فني. ومن هنا، حين حقق يلماز غوناي (1937 – 1984) فيلمه الطريق (يول) الذي لا يزال يُعتبر حتى اليوم وبصورة متزايدة، العلامة الفنية الأكثر دلالة على الوجود الفعلي للشعب الكردي، لم يتمكّن من أن يخرق سوى محظور واحد: جعله ناطقاً جزئياً فقط بالكردية. بالتالي أتى الفيلم ثنائي اللغة فقط لأن السلطات لا يمكنها أن تمنع ملايين الأكراد من التكلم بلغتهم. أما عدا عن ذلك، فالفيلم يُعتبر اليوم تركياً من الناحية الرسمية، بينما يعتبره الأكراد كردياً. لا يمكن اعتبار هذا الواقع ثانوي الأهمية لكنها ضرورات السياسة والتعامل بين الدول. ومن هنا، حين جرى ترميم ما تبقّى من نسخ الفيلم المهترئة عام 2016 وأُعيدت إليه الحياة في فرنسا بعد ربع قرن من فوزه بالسعفة الذهبية لدورة عام 1982 من مهرجان كان، جرى التعارف على اعتباره كردياً في التداولات الخاصة فقط وبقيت له هويته التركية الرسمية.
$دور للفن غير متوقع$
مهما يكُن من أمر، فإن يول صُوّر داخل تركيا في مناطق كردية تحاذي الحدود السورية. لكن مخرجه لم يكُن حاضراً خلال التصوير، وذلك ببساطة لأنه كان نزيل السجون التركية وبعد ذلك طريداً في المنافي حتى رحيله منهكاً ومريضاً في فرنسا. أما من قام بمهمات المخرج على الأرض، فكان مساعده وصديقه شريف غورين كما سنرى بعد سطور. أما هنا، فلنتوقف قليلاً عند الفيلم الذي يحمل على أية حال عنواناً ثانياً هو المأذونية. والعنوانان صالحان على أية حال لتسمية الفيلم. فبطله يتابع فيه طريقه من سجنه إلى بلدته ليزور أهله في مأذونية خاصة. وتلك الطريق تقوده كما تقود المتفرج إلى التفاعل عن كثب مع الحياة البائسة والظالمة التي يعيشها سكان تلك المناطق، وغالبيتهم من الأكراد الذين تمارس سلطات أنقرة أقسى درجات القمع والاضطهاد في حقهم. أما المرحلة الزمنية، فكانت تلك عند نهايات الربع الثالث من القرن العشرين حين كان بالكاد يهتم أحد في العالم بالقضية الكردية. ولن نكون بعيدين هنا من الحقيقية حين نقول إن هذا الفيلم وعرضه في كان والضجيج الذي صخب من حوله كان له دور أساسي في انفتاح العالم على تلك القضية.
$اكتساب وعي ما$
ولكن أيضاً على غرابة حياة مخرج الفيلم الذي كان العالم قد اكتشفه قبل ذلك ببضع سنين وأدهشته تلك الحياة التي كانت قد بدأت بصاحبها واحداً من كبار النجوم الشعبيين في السينما التركية السائدة، حيث كان كثيراً ما يحدث له أن يقوم ببطولات خارقة في أكثر أفلام تلك السينما رداءة وشعبية منظوراً إليه بوصفه نجم شباك لا يتوانى عن لعب كل الأدوار وأي دور في ما لا يقل عن مئة فيلم تألق فيها مغامراً وعاشقاً وشقيّاً ورجل شرطة ومهرّباً وما إلى ذلك، وكل هذا خلال أزيد قليلاً من عقد ونصف العقد. ولكن حدث له ذات يوم أن اكتسب وعياً، سيقول لاحقاً وهو يبتسم بشيء من السخرية المحببة أنه هبط عليه من الفضاء الذي لم يقيّض له أن يزوره على أية حال في أي فيلم من أفلامه. وهكذا راح، بالتدريج ومنذ أواسط أعوام الستّين، يدقق في اختيار أدواره، مختاراً منها ما يلامس القضايا الاجتماعية. ولقد كانت ذروة ذلك حين راح يعمل تحت إدارة المخرج المرموق عاطف يلماز الذي يبدو أنه كان من أكثر مخرجي جيله تسيساً على الرغم من جماهيرية سينماه هو الآخر. وفي تلك الأثناء، إذ راحت القضية الكردية تحتدم كان من الطبيعي ليلماز أن يبدأ باكتساب وعي سياسي سيقوده إلى المرحلة التالية من حياته، المرحلة التي اختلطت فيها ممارسته الإخراج بنضالاته من أجل القضية الكردية.
$في عالم الإخراج$
وتمكّن غوناي، بتشجيع من عاطف يلماز، من أن يخوض عام 1967 تجربته الإخراجية الأولى في فيلم اسمي كريم- بعد تجربة أجهضت في العام الذي سبقه - لكن هذا الفيلم لم يكُن من النوع الذي يرضيه، لأنه لم يكُن فيلماً شخصياً. كان عليه انتظار العام التالي حتى يكتب ويحقق سييت هان (خطيبة الأرض)، الذي أنتجه بنفسه عن طريق شركة أسسها كي يضمن استقلال مشاريعه. حقق سييت هان بعض الشهرة والنجاح. لكن يلماز غوناي لم يحظَ بمكانته الأساسية كسيّد من سادة السينما التركية الجادة والجديدة إلا عام 1970 حين أنجز الأمل (أو موت)، هذا الفيلم الذي اعتُبر، عالمياً، بداية غوناي الحقيقية إذ راح يدور، في الخارج، من مهرجان إلى آخر وراحت أقلام النقاد العالميين تكتب عنه بحماسة، حتى إن كان موضوعه - في ذلك الحين - قد بدا عصيّاً على الوصول إلى المتفرج الشعبي التركي الذي كان غوناي يسعى أصلاً إلى التعبير عنه والوصول إليه. ويتحدث الأمل عن حوذي يقتل سائق سيارة حصانه، مصدر رزقه الوحيد ورزق عائلته. هذا الموضوع البسيط حوّله غوناي مع مسار الفيلم إلى موضوع كافكاوي بامتياز.
غير أن أهمية هذا الفيلم لا تكمن في موضوعه هذا ولا في مناخه الشعبي فقط، بل كذلك في أنه كان بداية تعامل غوناي مع السينما بشكل مبتكر، بحيث أجبرته السلطات التركية بمطاردته وسجنه وسدّ كل الدروب عليه، أن يبدأ بهذا الفيلم والذي يليه القطيع وصولاً إلى آخر أعماله الكبرى الطريق نشاطه كمخرج من منافيه أو مخابئه أو حتى من سجنه. ولقد زاد هذا الواقع من الاهتمام العالمي به وبسينماه حتى وإن راح هو يصرح بأن ما يهمّه أكثر إيصال سينماه وأفكاره إلى جمهوره المحلي المعني به أولاً وأخيراً.
$حياة منفصمة$
والحقيقة أن غوناي إن كان عجز عن إيصال حبكة الأمل إلى متفرجه، أوصل إليه عدوى الثورة وحس التمرد على الأوضاع القائمة، مصوّراً البؤس والجوع اللذين يعاني منهما ملايين الأتراك. ومن هنا، كان من الطبيعي أن يربط النقد العالمي سينماه بسينما الواقعية الجديدة الإيطالية، ما زاد من احترام الجمهور التركي له، بالتالي من حذر السلطات الرقابية التركية حياله.
منذ الأمل إذاً، في عام 1970، راحت حياة يلماز غوناي تتوزع بين إخراج ما لا يقل عن ثلاثة أفلام في السنة (عام 1971 وحده حقق سبعة أفلام!)، وبين إقامة في السجن، وكل مرة لسبب مختلف، وبين سمعة عالمية تزداد قوة مع جوائز وتقدير في المهرجانات، ناهيك عن أن الجمهور العريض لأفلامه كممثل راح يفتقده بالتدريج، متسائلاً: ما بال السلطان القبيح يتخلى عنّا شيئاً فشيئاً؟. ذلك أن البطل الذي كان في الأفلام الشعبية ينصر الفقراء والبائسين ويسرق من الأغنياء، اختفى تماماً ليحلّ محله في أفلام غوناي نفسها بطل - مضاد، هو صورة للبائسين أنفسهم من دون زخرف أو بطولات واهية.
$إيليا كازان يتدخل$
خلال فترات سجنه، لم يهدأ يلماز غوناي أبداً... بل واصل الكتابة القصصية والسياسة و... واصل أيضاً إخراج أفلامه، بخاصة منها فيلماه الأخيران القطيع والطريق، وعن طريق شريف غورين وزكي أوكتان مساعديه وصديقيه اللذين كان يزوّدهما خلال زيارتهما له بتوجيهات مفصلة ليصوّراها في الخارج. هما في الخارج يُعدّان الممثلين وأماكن التصوير، وهو في الداخل يحدد الحركات والعلاقات والحوارات ومكان الكاميرا، وتكررت هذه التجربة مرات عدة.من وبكلّ هذه الأفلام التي عرف أصحاب غوناي كيف يهربونها إلى الخارج لتعرض في المهرجانات وتثير ضجة من حول مخرجها الذي تحوّل إلى أسطورة حيّة، صار غوناي واحداً من السينمائيين المرموقين في العالم. وإذا كانت السلطات التركية أطلقت سراحه عام 1974، تحت ضغط الرأي العام العالمي وإيليا كازان الذي إذ زار إسطنبول مرة مدعواً من سلطاتها بوصفه تركي الأصل، كتب نصاً صاخباً يدعو فيه إلى إطلاق سراح السينمائي الذي كان قد شاهد له فيلم الأمل، فأدهشني وشعرت كأنني أنا من حقق هذا الفيلم، فإنها إذ عجزت عن إقناعه بالسكوت، سياسياً على الأقل، دبّرت له عام 1979 تلك التهمة الجنائية التي مكّنتها من أن تودعه سجناً هرب منه إلى المنفى حيث لن يلبث أن يرحل عن عالمنا عام 1984، إذ أصيب بسرطان في المعدة وهو في باريس، ليدخل منذ ذلك الحين أسطورة جديدة عن مبدع قضى شاباً بعد أن ملأ حياة الفن صخباً ونضالاً من دون أن يبرح هامشاً دخله طواعية بعدما كان ملء السمع والبصر نجماً في سينما بلاده.[1]