فيلم يول يعرض في تركيا بعد 18 عاماً من المنفى - #يلماز غوناي#: تعلم في مدرسة الحياة والسجن
نشر في جريدة الحياة يوم 1999-19-02
أصبح بإمكان الجمهور في تركيا مشاهدة أشهر فيلم لأشهر سينمائي تركي بعد 18 عاماً على اخراج فيلم يول أي الطريق بعدما سمح بعرضه في صالات انقرة واسطنبول.
عاد يول من المنفى، أما مبدعه يلماز غوناي فيرقد في مقبرة بيرلاشيز الباريسية، توفي عام 1984.
يشكل الفيلم تحفة غوناي ورمز مأساته وحياته القصيرة الغنية بالأحداث والكفاح المستمر بحثاً عن طريق في الحياة والفن. فهو كتب سيناريو الفيلم وقام بعملية المونتاج داخل السجن، بينما أشرف شريف غورين على الاخراج بعيداً عن السجن.
ومثل شخصيات الفيلم الخمسة في الخيارات المطروحة أمامها بين السجن أو الموت أو التمرد يقرر غوناي الهرب وينجح في ذلك نهاية 1981.
وبعد أشهر قليلة حضر افتتاح مهرجان كان السينمائي ليجد فيلمه المذكور يتقاسم مع فيلم غوستا غافراس مفقود، جائزة السعفة الذهبية.
وفي حين حصل غوناي على اعتراف العالم وتقديره لفنه وابداعه وفتح الطريق أمام السينما التركية دولياً كانت حكومة الانقلاب العسكري 1982 تغلق آخر الأبواب أمامه إلى وطنه.
ولم تكتفي بمنع أفلامه، بل جرد من جنسيته وفرض حظر على ذكر اسمه في الكتب والدراسات والموسوعات الفنية.
ويقال إن أفلامه الكثيرة التي أخرجها أو مثّل فيها حوالى مئة فيلم اعدمت ولم يبق منها إلا القليل الموجود خارج تركيا.
تتميز سينما غوناي بتصويرها الواقع التركي بصدق وحساسية الفنان الذي عاش هذا الواقع ولم ينفصل عنه، فحياته وفنه كانا كلاً واحداً متكاملاً ومتفاعلاً مع وعي سياسي، خصوصاً في مرحلة النضج في بداية السبعينات، تضع بلاده في مواجهة نفسها وواقع القمع الاجتماعي والاضطهاد السياسي وظروف الحياة اليومية للرجال والنساء والأطفال عبر عنفها وغناها الإنساني.
$الواقعية$
تلخص حياة رائد الواقعية الجديدة في السينما التركية معاناة الإنسان التركي وصراعه مع بيئته الفقيرة المتغيرة بسرعة منذ بداية الستينات ومع السلطات السياسية القمعية.
تعلم غوناي في مدرسة الحياة والسجن أكثر مما تعلمه في جامعتي أنقرة واسطنبول.
من عائلة كردية متواضعة في منطقة جنوب الاناضول الفقيرة تضم سبعة أطفال.
كافح لاكمال تعليمه وقادته ظروف الحياة القاسية إلى السينما من دون أن يبحث عن ذلك.
ففي أحد الأيام طُرد من غرفته في اسطنبول حيث كان يتابع تعليمه، لعدم تسديده الايجار.
ذهب لمقابلة الروائي المشهور ياشار كمال، وكان يعمل ناقداً ادبياً في إحدى الصحف، وطلب مساعدة وقدم له قصة من انتاجه ليقرأها.
ادرك ياشار موهبة الفتى النحيل وحاول مساعدته بالحصول على وظيفة في الجريدة من دون نتيجة.
في النهاية قدمه إلى المخرج السينمائي عاطف يلماز الذي اسند إليه دور البطولة في فيلم أطفال هذا الوطن.
منذ ذلك التاريخ 1958 تحول إلى ممثل محترف ومخرج مساعد تدرب على يد عاطف يلماز، وكاتب سيناريو يبشر بمستقبل واعد.
بعد انقلاب الجيش عام 1960 تدخلت السياسة في حياته وادخل السجن لمدة عامين، من أجل قصيدة كتبها قبل سنوات، وبتهمة الدعاية للشيوعية.
$خارج السجن$
خرج من السجن ليتابع نشاطه الفني، وخلال السنوات القليلة اللاحقة تحول إلى ممثل شعبي مشهور ونال من الثروة والمجد ما يكفي.
نضج وعيه وتعمقت تجربته الفنية بشكل قاده إلى شق طريق جديد للسينما التركية مع فيلمه الأمل عام 1970.
ويقول المخرج السينمائي المعروف ايليا كازان إنه تأثر كثيراً بالفيلم وغناه بالتفاصيل وبلغته السينمائية.
مع ذلك فالواقعية والموقف السياسي لا تعني المباشرة والدعاية للقضية على حساب الفن، ويتابع كازان: لا يوجد مكان للنقد الاجتماعي النمطي.
الفيلم هو المجتمع بحد ذاته. والقوة الحقيقية للفنان تتجسد في حقيقة أنه يرى الكل، ليس كغريب من خارج الواقع وإنما كإنسان داخل المعركة واعٍ مسؤولياته بأعين مليئة بالحب.
دخل غوناي السجن للمرة الثانية عام 1972 وبقي حوالى عامين، لأن السلطات العسكرية بعد انقلابها في العام السابق عادت إلى ملاحقة حرية التعبير، ومن تعتبرهم يساريين ومعارضين للنظام.
كانت فترة السجن فرصة للقراءة والتفكير، وقبل خروجه قال السجن ليس مهماً عندما يكون للإنسان أشياء يريد القيام بها لا يهم إذا كان السجن أم لا. خارج السجن نتمتع بنصف حرية.
لم يتمتع الفنان طويلاً بحريته، ففي عام 1974 كان يخرج فيلمه القلق في بلدة على ساحل المتوسط وصدف في إحدى الأمسيات أنه قصد مطعماً مع زوجته وبعض طاقم الفيلم وإلى جانبهم كان قاضي المنطقة يتناول طعام العشاء مع أصدقائه.
ويعرف هذا القاضي بآرائه السياسية اليمينية وبكرهه ليلماز وفنه، ووجه إليه إهانات وتطورت الأمور وحصل اطلاق نار وقتل القاضي وقبض على غوناي وحكم عليه بالسجن لمدة 19 عاماً بتهمة القتل.
$الرواية الرسمية$
بين الرواية الرسمية التي تعتبره مجرماً وروايات أخرى تؤكد ان الرصاصة التي قتلت القاضي لم تطلق من مسدس غوناي، لا يزال الأمر ملتبساً.
ونظراً لتاريخه كمعارض للنظام وسجين رأي، فلقد تعامل الرأي العام خارج تركيا مع الموضوع باعتباره سجيناً سياسياً وضحية قمع النظام، مما أثار غضب السلطات التركية في حينها.
هرب غوناي قبل انتهاء مدة سجنه وتوفي في المنفى، إلا أن فيلمه يول أكمل سنوات الحكم ولم يسمح بعرضه إلا بعد انتهائها وبجهد من مؤسسة غوناي للسينما والفن التي تعمل على جمع وحفظ تراثه الممتد من التمثيل وكتابة السيناريو والاخراج إلى الكتابة الشعرية والروائية.
عاد يول وقد تغيرت الحياة في تركيا كثيراً، إلا أن أسئلة غوناي والقضايا السياسية والاجتماعية التي صورها لا تزال حية.
$المسألة الكردية$
فالمسألة الكردية التي عاشها في طفولته وشبابه حيث ولد وقضى الخدمة العسكرية في المناطق ذات الغالبية الكردية لا تزال مطروحة. وخوفاً من الرقابة ازيلت كلمة كردستان من الفيلم حتى لا يوقف عرضه، كما تقول زوجته.
وقضايا حقوق الإنسان والديموقراطية كذلك لم تبلغ نهاية الطريق بعد. ومشكلة الفقر والمهمشين قائمة في الريف وأحزمة الفقر حول المدن الكبرى.
وكما يقول ياشار كمال، فإن يلماز غوناي لم تتح له أي فرصة في الظروف الرهيبة للحياة في تركيا.
لولا ذلك، لكانت السينما التركية اليوم، مع ديناميكية موهبته، إحدى أهم السينمات في العالم.[1]