معد فياض
يرى الفنان التشكيلي الكوردي مدحت كاكائي بان البيئة تتسع على شكل دوائر: فعندما تضع رأس الفيرجال الهندسي على نقطة معينة وتفرجه لترسم دائرة، ثم دائرة أكبر واكبر، لكن النقطة ثابتة. وهكذا فان النقطة التي اختارها كاكائي كانت قريته (علي سراي) قرب داقوق في محافظة كركوك، حيث ولادته، ثم اتسعت الدائرة لتشمل بغداد حيث درس في معهد الفنون الجميلة، ولتتسع اكثر وتضم مدريد، عاصمة اسبانيا، التي اكمل فيها دراسته للفن التشكيلي، وياخذ الفرجال سعته ويرسم دائرة تشمل ستوكهولم، عاصمة السويد، حيث اقام فيها، والعاصمة اليايانية طوكيو التي يتردد عليها باستمرار.
يعتبر كاكائي موضوع البيئة مهم جدابالرغم من تنقلاته الكثيرة حيث من مكان الى آخر، يتعلم هنا ويجرب اساليب تشكيلية هناك، ويقيم معارضه في استوكولم ثم طوكيو، ويجد بان: البيئة والعائلة والدراسة والزمن والرسم هي العناصر المركزية لتشكل بناء شخصية الانسان.
ليس ذنب الفنان التشكيلي مدحت كاكائي باننا لا نعرفه جيدا، بينما هو معروف عالميا، بل هذا ذنبنا، كافراد وكمؤسسات ثقافية، خاصة ببغداد، لكنه بالتأكيد معروف من قبل نخبة من الفنانين التشكيليين في اقليم كوردستان.
حول علاقته بالبيئة وتأثيرها عليه كرسام، قال كاكائي في حوار مع شبكة رووداو اليوم السبت (20 كانون الثاني 2024): بالتأكيد هناك تاثير على اسلوبي والواني..ذلك ان بيئتي الكوردية منحتني الاحساس العالي باللون والضوء..بداية تاثير قريتي الكوردية علي حيث الجبال التي صخورها ملونة والاشجار والانهر، كل هذه اغنتني دون ان اخطط لذلك..هذه البيئة تختلف عن مناطق غرب العراق حيث الصحراء بلون واحد، مع ان للصحراء جمالياتها التي تحتمل الاكتشاف، بينما بيئة كوردستان تمنحك الحرية على اكتشافها بوضوح.
كانت اولى الدروس الفنية قد تلقاها مدحت كاكائي في دراسته المتوسطة في كركوك، يقول: اول مدرس علمني اساسيات فن الرسم كان استاذي فخري جلال في الدراسة المتوسطة في كركوك، كان هناك مرسم يشرف عليه هذا الاستاذ وهوخريج معهد الفنون الجميلة ويشتغل فن حر، للاساتذة دور مهم ، لكنني كنت لا احب الدوام في المدارس.مستطردا بقوله:في معهد الفنون الجميلة ببغداد درسني الفنان الكبير شاكر حسن آل سعيد الذي كان يهتم بنا مثل ابنائه، ودرسنا النظريات وايضا التربية الفنية، وتاثرت به كثيرا. بينما تاثرت في الجانب العملي بالفنانين محمد مهر الدين ورافع الناصري، وهذا لا يعني اني تاثرت باعمالهم واستنسختها، بل باساليبهم وتقنيات انجاز اللوحة واللون.
يضيف كاكائي بان:بغداد كانت في السبعينيات عبارة عن حياة ثقافية واسعة، حيث توجد فيها المركز الثقافي الفرنسي والاسباني والبريطاني والروسي وهؤلاء كانوا يقيمون معارض لفنانيهم في بغداد ويختصرون المسافات بيننا لنطلع على تجاربهم ، اضافة المعارض التشكيلية التي تقام في غاليرهات العاصمة، وكانت هناك اسواق (اورزدي باك) التي تعرض كتب فنية مهمة..باختصار كانت بغداد ميدان حضاري ومنفتحة على الافكار والاديان ونموذج للتعايش بين القوميات والطوائف لا تفرق يبن كوردي وعربي او مسلم ومسيحي وايزيدي وكاكائي.. قاعاتها تقيم باستمرار معارض تشكيلية راقية ومسارحها عامرة بالجمهور وصالات السينما تعرض آخر الافلام المتميزة.
وعن اساليبه الفنية، قال: في العراق كنت ارسم واقعية تعبيرية.. وهي تختلف عن اعمالي في اسبانيا او السويد او اليابان.. بالتاكيد الفنانين يتاثرون باعمال بعضهم، في مدريد تاثر باعمالي بعض الفنانين الاسبان بالرغم من وجود فنانين مبدعين، لكن لم يتاثر بي اي فنان في السويد او اليابان، الثقافات مختلفة وكذلك البيئة ، ثقافاتهم وبيئتهم هي التي اثرت بي وليس فنانيهم.. الاسلوب (الحداثة) و(ما بعد الحداثة) تعطي حرية واسعة في التعبير عن ذات الفنان، مستطردا بفوله : يعني بامكان الفنان ان يفعل اي شي، ممكن رسم او صناعة فيلم او انميشن..ممكن ان تكتب الشعر، وليس مثل السبعينيات هو ان ترسم فقط، ممكن ان ترقص في الشارع او في مطعم..سابقا كانت حرية الفنان محددة هي ان ترسم وتراعي الاسلوب..اليوم بامكانك ان تفعل ما تشاء..على ان يتناسب مع ما تريد..كل ما تنجزه هو فن لكن من يقيم هذا الفن؟ النقاد وجامعي اللوحات وقاعات العرض التشكيلي..وليس السياسي السطحي او الانسان غير المهتم بالفن.
يقول كاكائي: انا كرسام لا اهتم بالعمق ولا بالموضوع ولا بالنسب. الموضوع موجود في داخلي باللا شعور وانا في لوحاتي اكشف عن نفسي وطاقتي.. انا لا ارسم مثلما يريد الناس بل انا ارسم لنفسي.. وما يهمني هو اللون، فانا ارسم لوحة اللون الواحد او أحادية اللون.
لوحة لكاكائي احادية اللون
كان الرسم أحادي اللون مكونًا مهمًا من مكونات الفنون البصرية الطليعية على امتداد القرن العشرين وصولًا إلى القرن الحادي والعشرين. ابتكر الرسامون اكتشاف اللون الواحد، ودراسة تغيُر القيم عبر السطح والقوام والفروق الدقيقة، والتعبير عن مجموعة كبيرة من العواطف والنوايا والمعاني في أشكال مختلفة. من الدقة الهندسية إلى التعبيرية، أثبتت أحادية اللون أنها أسلوب راسخ في الفن المعاصر.
يقول كاكائي: ما يهمني جدا هو ان ارسم شي جديد ..قد ارسم لوحة باللون الاخضر وهناك مئات الالاف من اللوحات المنفذة باللون الاخضر، مثلا، لكن ما انجزه انا يجب ان يختلف عن الفنانين الاخرين او عن لوحاتي السابقة.. يهمني الضوء ..وسطح العمل في اللوحة والتجربة التي انجزها ، ووضع طبقات وطبقات من اللون على سطح اللوحة، حتى يفاجأني العمل مثلما يفاجأ الجمهور وكل عمل لي هي تجربة تختلف عن تجارب الاخرين بل وعن تجاربي انا، انا ارسم بهذا الاسلوب منذ 30 سنة.. اعرف ان اعمالي صعبة لكن هناك جمهور ، حتى ولو محدود، يتابعها ويقتنيها.
الطبقات التي يرسمها مدحت كاكائي على سطح اللوحة تتراكم حتى تبدو مثل منحوتة ذات اشكال يستطيع المتلقي ان يكتشفها حسب فهمه ووعيه، ورؤيتي، مثلا لعمل معين بالتاكيد تختلف عن رؤية الاخر وما توحيه له.. انها اعمال لاترى بصورة سطحية بالرغم من ان الرسام ذاته يؤمد بعدم اهتمامه بالعمق..طبقات تؤلف عوالم وشخوص تحتدم احداثها لتخلق ايحاءات حسية اكثر مما هي فيزيائية ملموسة، ففي لوحة بلون التركواز شاهدت فيها شارع الموكب وبوابة عشتار في بابل..هذا الموضوع يعنيني كمتلقي، ولا يعني الرسام الذي ليست من مهماته تفسير اعماله..يوضح كاكائي قائلا: اعمالي تفضحني وتعمل على كشف دواخلي..حتى ان ناقد سويدي كتب:انا ارى جبال كوردستان المقدسة في لوحاتك. ويرى الناقد السويدي، توماس ترانسترومر :أن مدحت كاكائي يرسم ما لا تستطيع العين رؤيته.
لوحات كاكائي احادية اللون
يؤكد كاكائي قائلا ان بيئتي الكوردية هي التي منحتني الاحساس العالي باللون وانا اهتم باللون والضوء وسطح اللوحة مقتديا بالفنان الفرنسي بول سيزان، الذي يعتبر أبا للفن الحديث وذلك لان أسلوبه كان بمثابة المرحلة الانتقاليه لتغيير كبير في تاريخ الفن الحديث حيث انتقل فن التصوير بفضل تجاربه من المدرسة التي نشأت في نهاية القرن التاسع عشر الي المدرسة التجريدية الحديثة التي تكونت في القرن العشرين، وهو الاب الروحي للون.. اللون عنده ضوء.. حيث كان قد ترك باريس وذهب الى قريته لاكتشاف اللون وما عاد يهمه اي شيء سوى اللون باللوحة، وحطم كل القواعد في الرسم منذ ما قبل ليناردو دافنشي حتى عصره.. ووضع نقاط مهمة في تاريخ الفن التشكيلي مؤسسا الحداثة ثم ما بعد الحداثة والاب الحقيقي للحداثة هو سيزان وليس فان كوخ او بول كوكان.
وحول علاقة اعماله بالمتلقي، يوضح كاكائي:هناك جماعات مع المتلقين في السويد واليابان واسبانيا يهتمون باعمالي ويتابعوها ويقتنوها، وربما هناك فنان في اقليم كوردستان و3 فنانين في بغداد يتقبلون او يتابعون اعمالي..ذلك ان المتلقي الاعتيادي لا يستطيع ان يفهم لوحاتي.وهو يرى ان المتلقي يختلف من مكان الى آخر، في أقليم كوردستان مثلا ليس هناك من يتفاعل مع اعمالي على العكس من السويد واليابان وفرنسا عندي متلقين يحبون اعمالي ويتابعونها ويقتنوها. وحتى اليوم لم يذهب كاكائي الى بغداد، بل عرض اعماله لمرات عدة في السليمانية..وفي مبادرة جادة اقام معرضا شخصيا بمناسبة عيد ميلاده الستين في قريته(علي سراي) حيث علق اعماله على جدران البيوت الطينية وهو يفكر باقامة متحف للاعمال التشكيلية في قريته. يقول:انا لا يهمني موضوع القاعات واسماء الغليرهات العالمية..نعم انا عرضت اغلب لوحاتي في ارقى صالات ستوكهولم او طوكيو، لكن يهمني ايضا ان اعرضها على الجدران الطينية في قريتي(علي سراي)، او في مكان يبدو مثل الخرابة، في السليمانية، وفي شقلاوة اقمت معرض في حديقة البيت..المهم ان اعرض لوحاتي ويراها الناس سواء احبوها ام لا.
معرض لكاكائي في قريته علي سراي
يُذكر ان الفنان التشكيلي مدحت كاكائي غادر العراق الى مدريد لأغراض الدراسة عام 1976، وعاد لاول مرة في بداية الثمانينيات لغرض العمل كمدرس في معهد الفنون الجميلة لكن هذا الموضوع اصطدم بشرط ان اكون بعثيا، ورفضت، لهذا التحقت بالخدمة العسكرية خلال الحرب العراقية الايرانية، وبعد عام تركت الجيش والتحقت بالبيشمركة،وبعد 3 سنوات تركت العراق الى السويد.
وكانت مستشفى حديثة ومتطورة في استوكهولم قد اقتنت 17 لوحة من اعمال الفنان الكوردي مدحت كاكائي لتوزيعها على جدرانها، وقال: هناك العديد من الفنانين العالميين شاركوا بالمنافسة على لوحات المستشفى وقد اختارت اللجنة المختصة اعمالي بالاجماع.[1]
واوضح كاكائي انه في شهر أيار القادم سيكون هناك معرض عالمي لفناني الدول الاسكندنافية في ستوكهولم ، وسيتم اختيار لوحات لفنانين عالميين، وساعرض حوالي 30 عملاً.